آثار بعلبك الغامضة.. يوتوبيا الشعراء وبستان الآلهة - حسن مقداد - لبنان
ينبهر الدّالف من المدخل الجنوبي لمدينة بعلبك، بعد تجاوز القبّة الذهبية العالية والتي يُعتقد أنّها ضريح خولة بنت الإمام الحسين بن علي، بالمشهد الأسطوريّ لهياكل بعلبك العملاقة المطلّة من جهة مغرب الشّمس، وينشغل كثير من الزوار بتصوير اللحظة الساحرة على يسارهم، فلو تسنّى لهم أن يلتفتوا عن الهياكل وينظروا يمينًا لشاهدوا سورًا قديمًا يقف خلفه مبنىً تاريخيٌّ ذو طابعٍ أرستقراطيّ، أمامه أشجار ومصطبةٌ تحيطها أزهار، لا تنقصه المهابة ولا الجمال، وإن كان لا ينافس بالحجم ولا بالعراقة معابد الآلهة الرومانيّة، ولا مواقع الاكتشافات الأثرية على الجهة الأخرى من الشارع، فإنّه يعبّر مثلها عن تاريخ بعلبك الحافل، وذاكرتها المترعة بالأحداث والأشخاص والهوامش.
هذا المبنى هو فندق "بالميرا"، بناهُ اليونانيّ ميمكاليس باركلي لزوّار آثار بعلبك في أواسط القرن التاسع عشر، ورمّمه ووسّعه ميخائيل ألوف في عشرينات القرن الماضي، وفيه نزل عبد الوهاب وأم كلثوم والرحابنة وفيروز والشاعر الفرنسي جان كوكتو (1889-1963) الذي ترك فيه رسائل ولوحات خلال زياراته المتكررة من 1956م إلى 1962م، ومنه نبدأ رحلتنا في مدينة "بعلبك/ هليوبوليس/ مدينة الشّمس" إحدى أشهر وأقدم مدن لبنان الدّاخليّة، المشيّدة على قمّة تلٍّ في وادي البقاع بارتفاع 1170 مترًا عن سطح البحر منذ ما يقرب من 5 آلاف سنة، فيما اكتشفت فيها آثار تدلُّ على أن البشر استوطنوها قبل أكثر من 9 آلاف سنة. "بعلبك" اسمها الآراميّ المؤلّف من مقطعين "بعل" وهو إله الكنعانيين و"بك" التي تعني واديًا أو مدينة، فيكون معنى الاسم وادي بعل أو مدينة بعل، أما "هيليوبولس" فهو اسمها اليونانيّ ومعناه الحرفيّ مدينة هيليوس (إله الشمس عند الإغريق) وهو أصل تسميتها بمدينة الشمس.
لم يكن جان كوكتو أول ولا آخر الشعراء الذين مروا في مدينة الشمس أو أقاموا وذكروها في آثارهم، زارها بعده شاعر فرنسيٌّ معروفٌ آخر هو لوي آراغون (1897-1982) صيف 1974 ليحضر عرض مسرحيته "مجنون إلسا" ضمن مهرجانات بعلبك الدّولية، وقبلهما يرجع أقدم ذكر للمدينة في الشعر العربيّ إلى بدايات هذا الشعر؛ يذكرها عمرو بن كلثوم (526-584) في معلّقته وإلى جانبها "دمشق" فيقول: "وكأس قد شربت ببعلبكٍّ، وأخرى في دمشق وقاصرينا" ويذكرها امرؤ القيس (501-544) في رائيّته وإلى جانبها "حمص" فيقول: "لقد أنكرتني بعلبكُّ وأهلها، ولابن جريج في قرى حمص أنكرا"، وإن كان أشهر شعراء العرب أبو الطيب المتنبّي (915-965) لم يذكرها بالاسم، فإنّه أقام جوارها فترةً من صباه في بلدةٍ تدعى "نخلة" أو "نحلة" - وهو الأرجح - عند رجل من المتصوفة يدعى أبا علي الأوراجيّ، ووصلنا مما كتبه هناك 3 قصائد يذكر في إحداهن اسم "لبنان" "وعِقابُ لبنان وكيف بقطعها، وهو الشتاء وصيفهنَّ شتاءُ" يعني السّلسلة الجبليّة التي حملت الجمهوريّة اللبنانية اسمها لاحقًا.
ما يختصُّ به جان كوكتو هو كثرة الآثار التي تركها في فندق بالميرا، من سكتشات رسمها على جدران بعض الغرف إلى رسائل تركها لمالكيه في ذلك الوقت عائلة ألوف،
بعضها معلق على جدران بهو الاستقبال الواسع، إلى جانب أعمال فنيّة وتذكارات كثيرة في الفندق الذي تشعر حين تدخله أنك دخلت متحفًا أو كتاب تاريخ، كأنَّ طيوف الماضين على كلِّ أريكةٍ وأصواتهم في كل طابق وصولًا إلى السطح المطلِّ على أعمدة جوبيتر وصرح باخوس وبساتين بعلبك.
يدوّن كوكتو بخطّه على قطعة ورق عبارةً بالفرنسيّة مؤرّخةً في عام 1960م، هذه ترجمتها:
"مصاطب بعلبك الغامضة التي يُفتَرَض أنَّ الناس غادروا عبرها إلى النجوم أليست المكان المثالي لروح الشعراء كي تحلّق وتبتعد؟"
وربّما يشير في هذه الملاحظة إلى نظرية تبدو من الخيال العلمي طرحها الروسي ماتريس اغرست (1915-2005)عام 1959م لتفسير ضخامة حجارة بعلبك، فاقترح أنها ربما تكون منصّات أو علامات مرجعية وضعتها حضارة فضائيّة ما لتنطلق مركباتها منها وتحط فيها، وهذه ليست الفرضيّة الغرائبيّة الوحيدة لتفسيرضخامة الحجارة منقطعة النّظير، قبله اقترح روسي/ أوكراني آخر هو فاسيل بارسكي (1701-1747) في كتابه "الرحلة إلى الأماكن المقدسة في الشرق" أن العمالقة (وصفهم بأنّهم طوال كالجبال) هم من أنشأوا المعابد حاملين الحجارة من مقالعها البعيدة الموزّعة في القرى والمحلّات المحيطة إلى موقع الصرح العملاق، فيما زعم مؤرّخون من العرب وغيرهم أنَّ الجن بنت هذه الصروح للملك سليمان في العصور السحيقة.
لفهمِ منطلق هذه الغرائبيّة في النظريات لا بدَّ أن نزور مقلعًا رومانيًّا قريبًا على سفح تلة "الشيخ عبدالله" مقابل الهياكل، يتربّع في وسطه أكبر حجر مصقول في العالم، سمّي حجر الحُبلى، ولا يعرف أصل التسمية على وجه الدقّة، يبلغ طوله 21 مترًا فيما يتجاوز عرضه وارتفاعه 4 أمتار، بوزن يزيد على ألف طن، تصبح هذه النظريات أكثر منطقيّة للواقف على حجم هذا الحجر وصعوبة نقله حتى مع وسائل التكنولوجيا الحديثة من مكانه، وصولًا إلى المعابد التي ضمّت جدرانها وجنباتها حجارةً تقارب هذا الحجر ضخامةً ووزنًا.
بالغ الرومان في حجم الحجارة المستخدمة في بناء معابدهم كنوع من التّبجيل ربّما أو للتدليل على قوّة ومهابة الإمبراطورية، خصوصًا معبد جوبيتر كبير الآلهة الرومانيّة، المبني بطراز استثنائي يمزج بين الثقافتين الرومانيّة والفينيقيّة فوق معبد كنعانيّ أصغر حجمًا وأقدم بكثير يخصُّ الإله "بعل"، إلى مذبحه و"فينيقه" ربما يشير الشاعر "أدونيس" (1930م -...) حيث يقول:
"أحلم أنَّ رئتي جمرةٌ يخطفني بخورها
يطير بي لبعلبكَّ
بعلبكُّ مذبحٌ
يقال فيه طائرٌ مولّهٌ بموتهِ يحترقُ"
اليوم تبرز أطلال معبد جوبيتر وتصبح رمزًا للمدينة تعرف به في كلّ العالم، الأعمدة الستّة الباقية من 54 عمودًا بارتفاع 22 مترًا وقطر 2.2 متر تبدو للواقف أمامها مهولةً، جلاميد ضخمة مصقولةٌ بعناية استقرت فوق بعضها بعضًا من غير ملاط، لتشكّل أسطوانات ترفع عارضة صخرية مزخرفة بنقوش بديعة، وهذا أكبر طلل من أطلال المعبد العملاق الباقية،
يضاف إلى أعمدة الغرانيت الأصغر حجمًا عند مدخل المعبد، وبعض معالم أروقته الثلاثة، وبنىً عسكريّة حديثة نسبيًّا بنيت على الحجارة القديمة، تُنسب للعصر الأيوبيّ حيث استعملت الهياكل حصنًا لصدِّ الهجمات على بعلبك في فترة الحملات الصليبية.
وعلى عكس معبد جوبيتر يحافظ معبد باخوس الأصغر نسبيًا والمجاور من جهة الشرق على بنيته الرئيسية باستثناء السقف،
هذا المعبد الذي بني في القرن الثاني الميلادي كان مرتبطًا بطقوسٍ سريّةٍ وخاصّةٍ تتم بحضور أرفع الكهنة، ويعتبر من أغنى المعابد بالنقوش والزخرفات التي مزجت بين الهوية الرومانية وهوية أصحاب الأرض من الآراميين الكنعانيين، هنا نجد نقوش الكرمة والقمح والخشخاش والنساء عاريات الصدور يدرن بأباريق الخمر والأطباق المليئة بالفاكهة، ولا عجب إذ إن باخوس رمزُ شبابٍ ونضارةٍ وخمرٍ ومُتَع، وكذلك نظيره الكنعانيّ "أليان"أحد أركان الثالوث "بعل، أنات، أليان" الذي عُبد في بعلبك.
عند زاوية المعبد الجنوبية يتمركز برجٌ من العصر المملوكيّ، بني ليكون مقرَّ نائب السلطان في بعلبك، أما من الغرب فتبدو أطلال مسجد بنيَ في العصر الأيّوبيّ.
ثالث المعابد الكبيرة وأصغرها حجمًا هو معبد فينوس إلهة الخصوبة (نظيرتها الكنعانيّة "أنات") المميّز بشكله الدائريّ الفريد الذي يرمز إلى الرحم، يقع إلى الجنوب الشرقيّ من الهيكلين، وبنيَ في القرن الثالث الميلاديّ على أطلال معبد فينيقيّ، ثمَّ تحوّل في العصر البيزنطي إلى كنيسة باسم "القدّيسة بربارة"، و"بربارة" هو الاسم الذي يطلقه أهل المدينة على المعبد حتى اليوم.
هذه المعابد الثلاثة هي الأكبر والأفضل حفظًا اليوم، ولكن عشرات المعابد الصغيرة -فينيقية ورومانيّة- تتوزّع في مختلف أنحاء المدينة التي بنيت حرفيًّا فوق مدينةٍ أخرى، بعضها اكتشف وبعضها ينتظر اكتشافه، بالإضافة إلى أبنيةٍ ومدافن وكنائس ومساجد أثرية من مختلف العصور.
مدينةٌ فينيقيّةٌ لا تطلُّ على البحر المتوسّط، كانت عبر التّاريخ محطَّ القوافل المتّجهة من الصحراء إلى مدن الساحل السّوريّ، دخلتها الشعوب بثقافاتها وآلهتها وأفكارها التي امتزجت لتخلق هويّةً فريدة، كأنّها عاصمةٌ دينيّةٌ لعالمٍ قديمٍ فقدت مثله بريقها، لكنّها لم تفقد جمالاتها ولا روحها، وقف ابنها خليل مطران (1872-1949) على آثارها بعد غيابٍ طويلٍ وقال:
إِيهِ آثَارَ بَعْلَبَكَّ سَلاَمٌ
بَعْدَ طولِ النَّوَى وَبُعْدِ المَزَارِ
وَوُقِيتِ العَفَاءَ مِنْ عَرَصَاتٍ
مُقْوِيَاتٍ أَوَاهِلٍ بِالفَخَارِ
ذَكِّرِيني طُفُولَتِي وَأَعِيدِي
رَسْمَ عَهْدٍ عَنْ أَعْيُنِي مُتَوَارِي
مُسْتَطَابِ الحَالَيْنِ صَفْوًا وَشَجْوًا
مُسْتَحَبٍ فِي النَّفعِ وَالإِضْرَارِ
يَومَ أَمْشِي عَلَى الطُّلُولِ السْوَاجِي
لا افْتِرَارٌ فِيهِنَّ إِلاَّ افْتِرَارِي
نَزِقًا بَيْنَهُنَّ غِرًّا لَعُوبًا
لاَهِيًا عَنْ تَبَصُّرٍ واعْتِبَارِ
مُسْتَقِلًّا عَظِيمَهَا مُسْتَخِفًّا
مَا بِهَا مِنْ مَهَابَةٍ وَوَقارِ
Commentaires