top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

أ. د. محروس بريك: فلسفة الأسماء


أ. د. محروس بريك - مصر
أ. د. محروس بريك

أ. د. محروس بريك: فلسفة الأسماء - تناثرت أسماء الأساتذة على لوحة كبيرة معلقة على جدران كليّة دار العلوم بجامعة القاهرة، وقف طلاب الفرقة الأولى يحاولون فك رموز تلك اللوحة الغريبة؛ أمام الأسماء رموز تشير إلى الرتبة العلميّة، وخلف كل اسم دائرة مكتوب في داخلها رقم يشير إلى رقم المدرج الذي سيلقي فيه الأستاذ محاضرته.

لفت نظري من بين كلّ هذا غرابة أسماء بعض الأساتذة، ويبدو أن ما شغلني قد شغل أذهان آخرين، حتى إنّ بعض الحمقى صاح بأعلى صوته مستنكرًا أن يكون أحد الأساتذة اسمه (طبل): "طبل؟!!.. شكلها طبل وزمر يا شباب" ثم تعالت ضحكات المستهترين من حوله، وما أكثرهم!!

لي مع اسمي بعض الذكريات؛ لم أنسَ أبدًا ذلك المدرس الذي نظر إليّ بشيء من الازدراء في المدرسة الثانويّة بمجرد معرفته اسمي، ولا أنسى كيف كان يلحّ على تفضيل أبناء المدينة من زملائنا علينا نحن –أبناء الريف- لا لأنهم أكثر منّا تحصيلًا وفهمًا، بل لكوننا من ذلك المكان النائي الذي يعمل أهله بالزراعة، لا أنسى عندما سأل كلَّ واحد منّا عن مهنة أبيه، وكيف كان يبتسم ويطيل الحديث متودّدًا مع من كان أبوه ضابطًا أو مهندسًا أو قاضيًا، في حين نهَرني لأنّي قلت له إنّ أبي يعمل (فلاّحًا)؛ لقد نظر إليّ شزرًا وقال: هذّب ألفاظك.. اسمه (مُزارِع) مش فلاح! قلت له: لا بأس.. فقد كان النبي راعيًا للغنم. احمرَّ وجهه وكأنّي قد ألقيت على رأسه دلوًا من الجمر.

قابلت كثيرًا من الناس ممن لا يرضون بأسمائهم، لو كان الأمر بأيدينا ونحن أطفال لاخترنا لأنفسنا أسماء غير ما اختاره لنا آباؤنا، ولثُرْنا على اختياراتنا كبارًا!

مع مرور الأيام زادت قناعتي بأنّ المرء هو من يصنع اسمه؛ فالناس لا ينصرف ذهنها إلى أنّ أسماء مثل (طه – عباس – رمضان) تشير إلى تدنّي الطبقة الاجتماعيّة إذا ما كان صاحبها (طه حسين) و(عباس العقاد) و(رمضان عبد التواب)، ولن ينصرف ذهنها كذلك إلى المعنى المعجمي لكلمة (طبل) بل سينصرف إلى دلالات العلم والأدب، وطيب النفس وبلاغة المنطق إذا ما كان المراد بهذا الاسم (البلاغي الكبير الدكتور حسن طبل) الذي كنت أحرص على أن أجلس في الصف الأول مستمعًا إليه، حتى إذا انصرف إلى زملائنا الآخرين يحاضرهم المحاضرة نفسها تبِعته إلى حيث كان؛ كي أستمع إليه مرة أخرى.

في البادية كثير من الأسماء الغريبة، يعود أكثرها إلى البيئة الصحراويّة بنباتاتها وشجيراتها وجبالها ووهادها ووديانها وحيواناتها؛ لقد ظلْتُ أعاني فترة ليست بالقصيرة في نطق أسماء الطلاب على الوجه الصحيح عندما كنت أعمل بجامعة حائل، فالجامعة هناك ارتضت الإنجليزيّة لغة رسميّة في كثير من أنظمتها الإلكترونيّة مما كان له دور في تخمين الأسماء على غير وجهها الصحيح، وبخاصّة أنّ أكثر تلك الأسماء كانت تشيع فيها أحرف الضاد والظاء والهاء والحاء والعين والغين ونحوها من الحروف التي لها أشكال وأنماط متباينة في الكتابة بالحرف اللاتيني.

عجبٌ أمرنا نحن العرب؛ لقد منَّ الله علينا بلغة مبينة، واتخذها لسانًا لقرآنه، فاتخذناها نحن وراءنا ظِهْريًّا، في الوقت الذي نتصايح فيه في نوادينا أنّ هناك مؤامرة كبرى تُحاك ضدّ العربيّة! لم أرَ أمة تُحسن النَّدب والبكاء مثل العرب؛ يبكون على الأطلال في مطالع قصائدهم، ويخصصون للندب بابًا في النحو! ماذا كان يضير العرب لو جعلوا بعض مطالعهم مُكاءً لا بكاءً، وفَرَحًا لا تَرَحًا؟! رحمك الله يا أبا نواس!!

إنّ للبيئة أثرًا في اختيار الأسماء؛ ففي الريف تميل الأسماء إلى اللين؛ لما يكتنفه من هدوء وسكون ووداعة واطمئنان، وتميل في كثير من المدن إلى الاقتراض من الأمم المختلفة، في حين تميل في البادية إلى الصعوبة والغرابة؛ وتلك سُنّة اجتماعيّة ضاربة في أعماق التاريخ، تروي كتب الأدب أنّه: "قيل لأبي الدقيس الأَعرابي لمَ تسمون أبناءكم بشَرّ الأَسماء، نَحْو: كلب، وذئب، وسِنان، وعبيدَكم بِأَحْسَن الأسماء، نَحْو: سعيد، وسعد، ورباح؟! فقال: إِنَّا نسمي أبناءنا لعدونا، وعبيدنا لأنفسنا"، في إشارة منه إلى أنّ لدلالة الاسم أثرًا في نفس المستمع، فهم في الحرب إذا تنادَوا (اضرب يا صخر، واطعن يا سنان) كان أوقع في نفس الأعداء من أن يقال (اضرب يا سعد، واقتل يا رباح).

في بعض البلدان العربيّة يشيع اسمٌ بعينه، لسبب دينيّ أو بيئيّ أو سياسيّ ...؛ ففي السودان مثلا يشيع اسم عثمان، لأنّ بلاد النوبة والسودان فتحت في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، وفي الجزائر يشيع اسم عبد القادر؛ حبًّا للصوفي المعروف عبد القادر الجيلاني، في حين يشيع لدى المصريين اسم محمد حبًّا في سيد الخلق (صلى الله عليه وسلم). في حين تشيع بعض الأسماء في فترة تاريخيّة ثم يخبو بريقها في فترات أخرى؛ نحو شيوع الأسماء المنتهية بتاء مفتوحة - نحو (شوكت) و(رأفت) و(مرفت)- في مصر في فترة ما قبل الخمسينيّات؛ تأثرًا بالأسماء التركيّة، في حين شاع اسم (جمال) و(ناصر) لدى شريحة من المصريّين في فترة الستينيّات حبًّا في جمال عبد الناصر.

في الآونة الأخيرة لم تعد هناك رموز سياسيّة أو دينيّة بعينها، فاتجهت الأنظار إلى الرموز الوهميّة من لاعبي كرة القدم والفنّانين والفنّانات، فشاعت أسماؤهم لدى عامّة العرب، ثم تحوّل الأمر إلى مباراة في الحصول على الأسماء الغريبة غير الشائعة. كثيرًا ما يتصل بي الأقارب والأصدقاء؛ لأقتنص لهم من المعاجم العربيّة اسمًا غريبًا لم يسبق لأحد من البشر التسمية به، على أن يكون سهل الجرس جميل المعنى!

قد يكون الاسم في حد ذاته سهلًا غيرَ مستغرب في بيئته، لكنه إذا ما رُكّب مع اسم آخر بدا غريبًا، وربما طريفًا في بعض الأحيان؛ فأسماء مثل (ماشي) و(حافي) و(ليل) و(نهار) أسماء معروفة لدى أهل الصحراء، وكنا لا نجد نحن – الأساتذة - أيّة صعوبة في التعرف عليها وهي مكتوبة بالحروف اللاتينية، لكن الأمر يبدو غريبًا إذا ما كان هناك طالب يسمى (ماشي بن حافي بن ليل بن نهار)، ويبدو الأمر طريفًا عندما يُسقط بعض الظرفاء من أساتذة الفقه المصريين كلمة (ابن)، ويلحُّ على نطق الاسم رباعيًّا رافعًا صوته وهو يتلفّت في القاعة ذات اليمين وذات الشمال: (ماشي حافي ليل نهار .. ماشي حافي ليل نهار).

كان (ماشي بن نهار) مشتهرًا بذلك الاسم الثنائي، حتى جاء ذلك الأزهريّ الظريف فقوَّض تلك الثنائيّة إلى غير رجعة.



٠ تعليق

Comments


bottom of page