top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

أ. د. محمد سيف الدين علي التجاني: خصائص الموسيقى والغناء في السودان


أ. د. محمد سيف الدين علي التجاني - السودان
أ. د. محمد سيف الدين علي التجاني

أ. د. محمد سيف الدين علي التجاني: خصائص الموسيقى والغناء في السودان

       يتميز السودان بوضع مميز وخاص، فهو بلد متعدد الأعراف واللغات والديانات والنشاطات، وهي خصائص جعلت ثقافته هجينية مركبة ذات سمات وميزات وملامح أفريقية وعربية، إسلامية ومسيحية، ورغم اختلاف وتباين مظاهرها وأشكالها، إلا أنها تتحد وتأتلف في جوهرها دالة على صور تعبيرية متنوعة، بناء على واقع التنوع الثقافي والديني والإثني.

لم يكن السودان المعروف اليوم يمثِّلُ كيانًا سياسيًا أو ثقافيًا موحدًا قبل دخول العرب، فقد كانت تتوزعفيه أعراق وقوميات متنوعة وعقائد وأديان مختلفة، وقد أحدث دخول العرب للسودان انقلابًا هائلاً في الهوية الثقافية، إذ تكونت على إثر ذلك عوامل توحيدية عديدة على الصعيد الديني والسياسي والاجتماعي.


خريطة السودان

لقد عرف السودان العرب قبل الإسلام، لكن تأثيرهم زاد عندما جاء الإسلام الذي أحدث أهم التغيرات على كافة الأصعدة الاجتماعية والثقافية، إذ أصبحت اللغة العربية هي اللغة الجامعة للسودانيين، وحتى القبائل الجنوبية أو النوبية أو البجاوية التي تتحدث لغات مختلفة، أصبحت اللغة العربية هي لغة التفاهم فيما بينها، رغمًا عن تأثير العوامل البيئية والجغرافية المحلية، لذلك فقد تفاعلت تلك العناصر العربية الوافدة مع الواقع السوداني وأنتجت ثقافة سودانية مميزة، وتمثلت نتائج دخول العرب والإسلام، في التصالح مع المعتقدات والعادات والتقاليد المحلية التي استوعبت كثيرًا منها، وظلت تمارسه وكأنه جزء أصيل في مكونات تلك الثقافة، وبالتالي تأثرت فنون الموسيقى والغناء بذلك التصاهر والتفاعل الاجتماعي.



لمحة تعريفية عن القالب الغنائي في السودان:

تعدُّ الموسيقى من الفنون المهمة التي تلعب دورًا كبيرًا في تنمية وتهذيب نفس الإنسان وترقية إحساسه بالجمال، وذلك لما لها من خصائص ومميزات وأدوات قلَّما تتوافر في مجالات أخرى، وتتضافر في هذه العناصر لتجعل من الموسيقى فنًا فريدًا في طبيعته واستخداماته وتأثيره على الإنسان، من هنا جاء التعريف الشامل للموسيقى بأنها علم وفن ولغة، واستنادًا على ذلك بنى العلماء والفلاسفة والباحثون في مجالات التربية أبحاثهم ودراساتهم على أساس أن الموسيقى والفنون قادرة على تشكيل السلوك الفكري والاجتماعي للإنسان.



أهرامات السودان
أهرامات السودان

لذلك نجد أن كثيرًا من الدول التي سبقت في مجالات التربية والعلم والفنون، والتي توفرت لها ظروف أفضل في دراسة وفهم أهمية وطبيعة الفنون، قد رفعت شعارات مختلفة تفيد وتسهم في استيعاب وفهم مكانة ودور الفنون في المجتمع، والمقصود هنا ليس فقط اهتمام الدولة بالفنون ورعايتها للفنانين فحسب، بل إحداث تغيير وتأثير في الحياة الفنية بشكل يُمكِّن المتخصصين من التنظيم والتخطيط على المدى القريب والبعيد، بهدف رفعة شأن المواطن.

ولعل الحديث عن الموسيقى السودانية المعاصرة حاضرها ومستقبلها في ظل التطور والطفرات التكنولوجية والإلكترونية، أمر يحتاج إلى الكثير من الندوات والمؤتمرات والبحوث وذلك لعدة أسباب نذكر منها ما يلي:

أولاً: أن العناصر الموسيقية مثل المقامات والإيقاعات والقوالب والصيغ الغنائية والآلية التي تمارس لدى مختلف القبائل والمجموعات التي تعيش في السودان في بيئات مختلفة منها ذات المناخ الاستوائي أو السافانا، وأساليب الحياة مثل الزراعة والصيد وأنواع اللهجات واللغات، كل هذه السمات والاختلافات تؤثر تأثيرًا كبيرًا في كل ما ينتج من ممارسات موسيقية، مما يجعل أمر تحديد نقاط ومحاور وأسس واضحة للجزيئات المكونة للعناصر الموسيقية، من الأمور الصعبة جدًّا مع مراعاة التميز والتفرد لموسيقى كل منطقة في السودان.

ثانيًا: ناتج الانصهار والتلاقي الثقافي والاجتماعي الذي حدث على إثر النزوح والهجرة العربية إلى السودان في أزمان مختلفة لأغراض عديدة، كالرعي أو التجارة أو الزراعة وغير ذلك، حيث تزاوجت العناصر الوافدة وانصهرت مع الأهالي والسكان الأصليين الموجودين، ونتج عن ذلك صور وأشكال موسيقية فنية باهرة.

وقد وفدت عدة قبائل عربية مختلفة عبر منافذ الشرق عن طريق البحر الأحمر والشمال الغربي، فجاءت مجاميع تمثل قبائل منها: جهينة وبنو هلال وبنو سليم وربيعة (بنوكنز) وقريش، بجانب قبائل مغربية من البربر وغيرهم، حيث تفرقت تلك المجموعات في مختلف مناطق السودان، وانصهرت بالامتزاج الدموي والمصاهرة، فكان لذلك أثره في كافة الجوانب، وبالتالي ازدادت التكوينات الثقافية وظهرت التسميات المختلفة للقبائل، وسكنت كل قبيلة أو مجموعة في منطقة محددة وارتبطت بها، وتشكلت بحُكم طبيعتها فوجدت عناصر ومجموعات مختلفة مثل العنصر النوبي(1) في شمال ووسط البلاد، والبجاوي في منطقة الشرق، والعنصر النيلي أو السود في الجنوب والفور في الغرب وقد أدى امتزاج العنصر العربي بتلك المجموعات الموجودة أصلًا إلى تغيير واضح في مختلف مجالات الحياة، كالتقاليد والعادات والممارسات وأساليب صناعة الحياة على الأرض، كما انعكس ذلك ـ أيضًا ـ على كافة الجوانب الثقافية والفنون عمومًا، أما في مجال الموسيقى فتمثل ذلك التأثير المتبادل في العديد من الجوانب كصياغة الألحان وتشكيل الضروب الإيقاعية ومضامين الأغنيات، وأساليب التعبير، ويمكن تصور مدى صعوبة ذلك مع وجود العديد من المجموعات العرقية تتحدث ما يفوق المائة لغة ولهجة محلية بجانب اللغة العربية، وتدين هذه المجموعات بديانات مختلفة كالإسلام والمسيحية وخلافهما.

 وتمارس في السودان، عدة أشكال ونماذج من الموسيقى تتفاوت بين الموسيقى الشعبية، التي تمارس في الأقاليم والأرياف، والموسيقى الحضرية التي تمارس في المدن.

فلفظ الموسيقى الشعبية يقصد به الغناء الشعبي، إذ إن الأغنية الشعبية هي تعبير عن مشاعر وقدرات الإنسان الإبداعية، وهناك عدة تعريفات للأغنية الشعبية كما وردت في كتابات وإصدارات المختصين في مجال الأغنية الشعبية، حيث وردت تعريفات تحدد أنواع الأغنية الشعبية، وخصائصها ومميزاتهاومواصفاتها، وهي تعبر في كل منطقة عن تقاليد ومعتقدات وترتبط بمفاهيم وعادات خاصة بكل مجموعة مثل قبائل ومجموعات (النوبة، الشلك، النوير، والبقارة والفور والمساليت والحوازمة وقبائل البجا مثل الهدندوة والبني عامر والأورتيقا والرشايدة وغيرهم، إضافة إلى قبائل الحلفاويين والجعليين والشايقية والمحس والدناقلة وغيرهم من القبائل والمجموعات، فكل مجموعة تمارس أنواعًا عديدة ومتنوعة من الأغنيات، وتستخدم أيضًامجموعة مختلفة من الآلات الموسيقية، مع اختلاف وثراء فني كبير في جوانب الأداء والتعبير. يلاحظ أن كثيرًامن هذه الأغنيات تتشابه في أسلوب الأداء والتعبير رغم اختلاف اللهجات والآلات الموسيقية والإيقاعية المصاحبة لها (1).

أما الموسيقى الحضرية فيقصد بها النوع الذي يؤدى ويمارس في المدن وخاصة منطقة وسط السودان باعتباره بوتقة انصهرت من خلالها كثير من العناصر الموسيقية الممثلة لبعض الأقاليم حيث تم التوصل للأشكال الغنائية في منطقة الوسط نتيجة للهجرات المتعاقبة من الريف إلى المدينة، ومن أبرز هذه النماذج غناء (الحقيبة)، وهذه تدخل ضمن تصنيف الأغنية الشعبية الدارجة. كما ورد في تعريف أحمد مرسي) ([1])، وتتميز بأسلوب واضح محدد في التأليف، يسير وفق خطط محددة.

وقد حدثت بعض التغييرات في القالب الغنائي عقب افتتاح الإذاعة السودانية عام 1940 م، حيث دخلت بعض الآلات الموسيقية (1) وتم استقدام بعض الخبراء الأجانب لتدريس الموسيقى، مثل الخبير المصري مصطفى كامل الذي قام بإضافة العديد من العناصر المهمة في التأليف والأداء والتنفيذ الموسيقي، حيث نقل بعض التجارب والممارسات الموسيقية في مختلف الجوانب، مع إضافة بعض الأجزاء الخاصة بالتأليف مثل المقدمة واللازمة والسكتة، بجانب أدوات أساليب تعبيرية مختلفة مثل الهمس، التدرج، القوة، وخلاف ذلك. لقد كان مصطفى كامل أستاذ آلة القانون والذي شارك بالعزف عليها في كثير من التسجيلات الأولى للرواد الأوائل أمثال حسن عطية، عثمان حسين، الكاشف، أحمد المصطفى، التاج مصطفى، العاقب محمد حسن برعي محمد دفع الله وغيرهم.

حسن عطية - العاقب محمد الحسن - إبراهيم الكاشف - عثمان حسين


  تعتبر إضافات مصطفى كامل نقطة تحول في كثير من الجوانب الموسيقية الغنائية، إلى جانبإضافات الخبير الإيطالي (أوزو مايسترلي) الذي كان يقوم بتدريس آلة الكمان والصوت، لأعضاء الفرقة الموسيقية بالإذاعة، فعلى يد هذين الخبيرين، وبفضل ما بذلاه من جهود كبيرة، تغيرت مفاهيم كثيرة، خاصة فيما يتعلق بتأليف الألحان والعزف والأداء الغنائي والتعبيري.

عند بداية استخدام الآلات الموسيقية كانت القوالب الغنائية أشبه بقالب أغنية الحقيبة، فلحن المقدمة الموسيقية هو لحن المطلع، كما في غالبية الأغنيات مثل(يا بهجة حياتي، يجو عايدين، العديلة، وأغلب أغنيات إبراهيم الكاشف، أحمد المصطفى، وحسن عطية)، إلا أنه سريعًا ما ظهرت بعض التغييرات في القالب الغنائي، حيث صار للمقدمة الموسيقية لحنٌ خاصٌّ، ثم لحن خاص للمطلع، ثم ألحان الكوبليهات، إضافة إلى لازمات موسيقية تتخلل الكوبليهات قبل العودة إلى اللحن الأساسي، وهكذا، إلى أن وصلت إلى ما نشهده اليوم في كثير من أغنيات المشاهير أمثال محمد الأمين، أبو عركي البخيت، محمد وردي، سيد خليفة، إبراهيم عوض، ثنائي العاصمة، زيدان إبراهيم، خوجلي عثمان، عبد القادر سالم.




سيد خليفة - محمد وردي - محمد الأمين - خوجلي عثمان - الكابلي


لقد ظل الوسط الفني في تطور مطرد، وكان لرابطة الفنانين دور مهم في تحقيق أهدافه الأساسية التي صيغت عشية إنشاء الرابطة 1955 واستمرت في تقديم فن هادف يتسق مع تقاليد الشعب السوداني وعاداته، وقيمه وموروثاته، وكانت أهم أهداف الرابطة تتمثل في الآتي:

1. العمل على إبراز دور السودان الحضاري في جانب الفنون الموسيقية، وتسليط الضوء على التنوع اللحني والإيقاعي المتفرد في الفنون النوبية والعربية والبجاوية والزنجية، مع الحفاظ على عناصر التمازج والنسيج الاجتماعي السوداني الفريد.

2. هناك عوامل جوهرية وموضوعية أدت إلى تعايش وانسجام الثقافات المختلفة، وتعايشها بكل مكوناتها من حيث العادات والتقاليد التي حققت من خلالها درجات من الاستقرار والسلام، ومن خلال تمازجها نتج هذا الناتج الفني المتميز.

       وكانت الرابطة تعمل على الحفاظ على ذلك التميز عبر:

1. إقامة الندوات وجلسات الحوار وورش العمل التي تتناول القضايا المتعلقة بالفنون الموسيقية في السودان.

2. استقطاب العناصر الفاعلة ذات الوزن الثقافي والأكاديمي والفني والاستفادة منها في ورش العمل واللقاءات الفكرية، والثقافية والفنية العامة والمتخصصة.

3. استكتاب الأقلام المؤثرة الواعية، لدور وأثر الفنون في المجتمع وإصدار النشرات بشكل دوري لزيادة وتنمية الوعي الفني والثقافي في المجتمع عبر الصحف والمجلات وبرامج الأجهزة الإعلامية.

4. تشجيع وإنشاء الفرق والمجموعات الموسيقية والغنائية الخاصة في جوانب الموسيقى الشعبية والحديثة، وفق خطط دقيقة وبرامج مدروسة.

5. السعي لاستصدار وإنفاذ وتفعيل قانون مجلس المهن الموسيقية وقانون نقابة المهن الموسيقية، وتلك القوانين تشتمل على مراسيم وأوامر تغطي كافة متطلبات الفنون الموسيقية، من ترقية وحماية وتطوير، ومحافظة على الحقوق وإبراز للهوية المتعلقة بفنون الموسيقى والغناء داخل السودان وخارجه.

6. السعي لتفعيل العلاقات الثقافية للفنانين بمختلف قطاعاتهم ومؤسساتهم وتجمعاتهم الفنية، إضافة للمنظمات الدولية التي تعنى بالثقافة والفنون (اليونسكو، اليسكو، أسيسكو، الايبو وغيرها) والمراكز الثقافية المحلية والأجنبية لتفعيل وتنشيط العمل الفني والتبادل الثقافي.



خاتمة:

       إن موسيقى كل شعب هي عنوانه، فالموسيقى هي أصدق لغة تستطيع الشعوب على اختلاف ألسنتها وألوانها أن تتخاطب بها دون كلفة ولا تحرج، فهي لغة ليس لها وطن، ولا تنتمي إلى شعب أو إلى شخص بعينه.

لقد بذل العاملون في الحقل الفني من موسيقيين ومطربين وباحثين جهودًا كبيرة في التعريف بالفنون الموسيقية السودانية، وقد نتج عن ذلك انتشار العديد من الألحان السودانية في كثير من دول العالم، العربية والإفريقية والأوروبية، وقد أثبتت التجارب انتشار أغنيات الكابلي وعبد القادر سالم ومحمد وردي وشرحبيل أحمد ومحمد الأمين وعبد العزيز المبارك وألحان حافظ عبد الرحمن، وكان لها الدور الفاعل في مخاطبة وجدان شعوب العالم بقبول ومحبة وإعجاب كبير، وذلك لما تتميز به ألحان الموسيقى السودانية في الجوانب الإيقاعية والتراكيب والصياغة اللحنية التي مزجت العديد من العناصر الفنية، حيث السلالم الموسيقية والمقامات والضروب الإيقاعية المتنوعة التي شملت ناتج الانصهار المجتمعي للسكان منذ زمن بعيد.


 

مراجع:

1. أحمد المصطفى: عازف كمان، من الرواد الأوائل، مقابلة شخصية مدونة بمنزله بأم بده، أم درمان 20/5/2001 م.

2. أحمد علي الحكم: هوية السودان الثقافية، منظور تاريخي، دار جامعة الخرطوم للنشر، الخرطوم 1990 م.

3. الفاتح الطاهر دياب: أنا أمدرمان، تاريخ لموسيقى في السودان، الطبعة الأولى، شركة ماستر التجارية الخرطوم 1993 م.

4. جمعة جابر البشاري: الموسيقى السودانية، تاريخ، تراث، هوية، نقد، شركة الفارابي للنشر والأدوات المكتبية المحدودة، الخرطوم 1986 م.

5. جعفر محمد علي بخيت: الإدارة البريطانية والحركة الوطنية في السودان(1919-1939م)، الطبعة الثانية، المطبوعات العربية للتأليف والنشر، الخرطوم 1987 م.

6. عبد المجيد عابدين: تاريخ الثقافة العربية في السودان، الطبعة الثانية، دار الثقافة، الخرطوم، 1976 م.

7. كورت زاكس: تراث الموسيقى العالمية، ترجمة سمحة الخولي، دار النهضة المصرية، القاهرة, 1964 م.

8. صالح المهدي (د): مجلة الموسيقى العربية، العدد السادس، الأغنية العربية ومسار توجهاتها، المجمعالعربي للموسيقى، جامعة الدول العربية، قطر، 1985 م.

9. هربرت ريد: معنى الفن، ترجمة سامي خشبة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1998 م.



٠ تعليق

Comments


bottom of page