top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

أ. د. مصطفى عطية: الرواية العربية وإشكالية الكتابة بلغة المستعمر والمهجر



أ. د. مصطفى عطية - مصر
أ. د. مصطفى عطية


أ.د. مصطفى عطية جمعة

أستاذ الأدب العربي والنقد – الكويت

الرواية العربية وإشكالية الكتابة بلغة المستعمر والمهجر

     لا يمكن معالجة واقع الخريطة الروائية العربية الحديثة والمعاصرة، بدون التطرق إلى قضية اللغة في الكتابة الروائية، وقراءتها ضمن علاقتها بقضية التأثير والتأثر في العلاقة مع الإبداع الغربي، وكلتاهما متصلتان بالتناول الإنساني في الرواية العربية.

  فاللغة ليست مسألة شكلية أو تتصل بالمتن النصي، كما يخيّل إلينا، وإنما لها وجوه متعددة، تتصل بتكوين الروائي، والمؤثرات التي تعرض لها، في ضوء أنه لم ينفصل عن مجتمعه العربي في واقعه أو خياله السردي، سواء كتب بالعربية أم بغيرها.

  والأمر نفسه يتعلق بالتأثير الغربي في الرواية العربية، فثمة إشكالية كبرى يتناولها البعض، بسبب قضية المذهبية الأدبية، وكيف أن الروائيين العرب كانوا أسرى الرواية الغربية: شكلًا، وطرحًا، وموضوعات، ومذهبيات، وأفكارًا، وإن كانت موضوعات رواياتهم تناولت المجتمعات العربية. وكما يذكر شكري عياد، فإن الأمر يتعلق بموقف حضاري في المبتدأ، فقضية المذاهب الأدبية والنقدية هي فرع من قضية أكبر، وهي قضية العلاقة بين الثقافتين العربية والغربية، وقد أصبحت لهذه القضية أهمية خاصة خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين، حيث تواجهنا - نحن الشعوب العربية - التي كانت لها شخصية ثقافية ناجحة قبل أن تتصل بثقافة الغرب؛ فهي معرضة للموت في الحالين: إذا انعزلت أو لم تنعزل. والأول لا يقبله عقل، لأن الانعزال يعني حرماننا من التقدم الحضاري الهائل الذي وصل إليه الغرب والعالم المتقدم، ولا ينسجم في الأساس مع ثقافتنا في تعاطيها الإيجابي مع الحضارات العالمية. أما عدم العزلة، فإن أنصار الحداثة، يعنون بها القطيعة مع الماضي، كما يرفض عيّاد الحلول الوسطى، والترقيعية، والتوفيقية، داعيا لمناقشة جذرية([1]).

   وفي رأينا أن القضية تظل في حالة شد وجذب، ما دمنا في حالة من التراجع الحضاري، وأيضا التراجع النهضوي والتنموي، فهي نظرة شاملة، وليست جزئية. ولكن إذا كنا في حالة مضادة، ونعني بها حالة الصعود الحضاري، والأخذ بأسباب النهضة الحقيقية: علمًا وإبداعًا واختراعًا واكتفاء ذاتيًّا؛ فإن النظر إلى الأمور سيختلف؛ لأننا نقف على أرض صلبة، تجعلنا في حالة عزة، وليست حالة استلاب، وساعتها ستنتفي مثل هذه الأسئلة، وتحل مكانها أسئلة أخرى، من قبيل ماذا عن تميزنا، ومشاركتنا في الخارطة العالمية من الإبداع والحضارة؟ وأرى أن هذا الوضع تحقق وبشكل جزئي، في الأدب العربي الحديث، وفي الرواية على الأخص، لأن الإنتاج الروائي العربي هائلٌ في أرقامه، عظيم في طروحاته، بما ينقلنا من دائرة الاستلاب والتساؤل عن التأثر، إلى دائرة الندية، التي تعني عطاءً وإفادة وإثراء.

لذا، فمن الأفضل مناقشة القضيتين المذكورتين مناقشة تفصيلية، وذكر موقفيهما إزاء القضايا الإنسانية المطروحة في الإبداع الروائي وأبعادها الفكرية والاجتماعية، وما يتصل بها من إشكالات ثقافية وحضارية، وهو نقاش يلزمنا بالنهج التحليلي التاريخي، مع نهج المقارنة والمثال، لتكتمل الرؤية، ويتضح المشهد.

   وإذا بدأنا بالمنظور اللغوي، فإن الرواية العربية تعني بكل ما يكتب باللغة العربية، من قبل الروائي بشكل مباشر، وإن لم يكن عربيًّا في الأصل، المهم أن يكون إبداعه بالعربية، معبرًا عن الثقافة العربية والإسلامية، والمجتمعات العربية، أو حتى الأقليات العربية والمسلمة التي تعيش في مجتمعات غير عربية. فالعباءة اللغوية للرواية العربية واسعة في دلالاتها الثقافية والقومية والاجتماعية، بعكس ما نجد من تمايزات في الروايات الأوروبية -كما سنذكر لاحقًا عن الرواية الإنجليزية- تلك التي تربط كينونة الرواية بالهوية والشعوب التي تعبر عنها، بغض النظر عن لغتها المكتوبة، فهناك على سبيل المثال الرواية الهندية المكتوبة بالإنجليزية، فهي تعبر عن المجتمع الهندي، إذن، فالتصنيف تجاوز اللغة، وأضحى مرتبطًا بالمجتمع والوطن الثقافة.

    وهذا يحفزنا لطرح قضية كتابة الرواية العربية باللغات الأجنبية (الإنجليزية والفرنسية مثلا) من قبل بعض الروائيين العرب، وعبروا فيها عن مجتمعاتهم العربية ومشكلاتها، وانطلقوا فيها من هويتهم وثقافتهم العربية والإسلامية. فهؤلاء يجب علينا النظر إلى إبداعاتهم على أنها روايات عربية إلا أنها مكتوبة بالحرف الأجنبي، فأبطالها عرب، وأحداثها تجري على أراض وفي أقطار عربية، وتتناول الآلام التي تحملتها الشعوب العربية، كما تنطوي على الآمال التي تجيش في صدورهم، وهي قبل كل شيء صاغها عقل عربي له ثقافته وأسلوبه الخاص في النظر إلى القيم، وفي الإحساس بالمشكلات، وفي معاناة الحياة، وكذلك في تصوره للزمان والمكان.

   والحقيقة، أن هذه القضية تعبر عن معاناة الكتّاب العرب الذين اضطروا للكتابة بلغة المستعمر، حيث عَدَّ الروائيون -الذين كتبوا بالفرنسية- أنفسهم منفيين عن لغتهم الأم العربية إلى اللغة الفرنسية، وشعروا بأسى بالغ لعلاقتهم القسرية بالفرنسية التي فُرضت عليهم، وأنهم حُرموا من التمكن من العربية، وينظرون للمسألة على أنها "دراما لسانية" على حد تعبير (ألبير ميمي)، وأنها حالة استلاب لغوي كما قال ذلك أحمد الصفريوي، وجان عمروش، وكاتب ياسين، أما إدريس الشرابي فيقول: "منذ عشر سنوات ودماغي العربي المفكر بالعربية يطحن مفاهيم أوروبية على نحو بالغ العبث"، والشرابي نفسه تنسب له العبارة الشهيرة: "إن أرواحنا تنزف دماً في فرنسا". وقد كان التعبير الأبلغ ما فاض به لسان كاتب ياسين عندما قال: إن معظم ذكرياتي وإحساساتي وأحلامي ومناجاتي الداخلية تتعلق ببلادي، فمن الطبيعي أن أشعر بها في صيغتها الأولى، أي لغتي الأم العربية، ولكني لا أقدر على إنشائها والتعبير عنها إلا بالفرنسية ([2]).

   إنها مأساة كبرى، صنعها الاستعمار الفرنسي إبداعيًّا، عندما جعل الأديب الجزائري يكتب عن مأساة وطنه الرازح تحت الاستعمار، بلغة المستعمر، فيصوغ أحاسيسه بلغة من يُفترض أن يتمرد عليه، ويثور ضده.

   ولعل الدليل الأبرز الذي يعبر عن حجم المأساة والإحساس بها هو مقولة مالك حداد: "إن اللغة الفرنسية تفصلني عن وطني أكثر من البحر المتوسطي". فلا شك أن هناك ممارسة استعمارية استعلائية سعت إلى أن يكون الكتّاب العرب خدمًا للثقافة الفرنسية وحملة لمشاعلها. ومن المثير للعجب والأسى أن يُسأَلَ الأديب الكبير عبد الكبير الخطيبي من أحد رجال الاستعمار الفرنسي؛ فقد سأله الأخير عن سبب ضعف تأثير الفرنسية في المغرب وادّعى أن الفرنسية كانت قليلة الإخصاب، مقارناً بين تأثير اللغة الإسبانية في أمريكا اللاتينية وتأثيرها في المغرب العربي. ولفظة (الإخصاب) ذاتها تنم عن منطق استعماري متكبر. والخطيبي الذي كتب بالفرنسية تعرض للقمع من أوساط ثقافية فرنسية منعته من إلقاء ورقته في مناظرة حول الأوضاع العامة للفرانكفونية؛ لأنها لا تخدم الثقافة الفرنسية، ولهذا يقول: إن كتُابنا لا يُطلب منهم أن يكتبوا بالفرنسية ويعملوا على إشعاعها فحسب، وإنما كذلك أن يكونوا خدّام الأعتاب الفرانكفونية نظاماً وسياسة محددة الاختيارات والرؤى ([3]).

    بالطبع هناك من الأدباء والمثقفين من توحّدوا مع الفرانكفونية قلباً وقالباً، ولغة وإبداعاً، وكانوا أشبه بالكتائب الداعمة لما يسمى بالفرانكفونية.

    جدير بالذكر، أن هذه القضية يشتبك معها ما يسمى أدب المهجر أو الشتات Diaspora Literature، ويعني أدب المجموعات أو الأقليات التي تعيش خارج حدود أوطانها. والقاسم المشترك في نفسية الكتّاب المهاجرين هي فكرة البحث عن الهوية، والحنين إلى الجذور، مع الشعور بالذنب (لمغادرتهم أوطانهم واغترابهم الدائم)، ولذا، فإن هؤلاء يعودون غالبًا لاستعادة أوطانهم (أدبياً) لأسباب مختلفة، منها البحث الدائم عن جذورهم أو تخليداً لمعنى الوطن وتاريخه في أعماقهم، أو لإعادة تنشيط ذكرياتهم القديمة؛ شوقاً لمهادهم الأول. ولكن بنظرة عالمية، فإن هذه الإبداعات تسهم في تعميق التواصل الإنساني، ودمج المجتمعات الإنسانية، من خلال الحديث عن الأوطان والثقافات المحلية في فضاء العولمة([4]).

     لقد باتت الحدود الوطنية الآن- في عصر التدفق المعلوماتي- لا وجود لها إلا على صعيد الهوية الثقافية وخصائص البيئة المحلية. إن قضية الأدب المهاجر، تنبع مما يتصل بالحياة في المهاجر المختلفة، ونظرة المهاجرين المتأرجحة بين الوطن الأم، وبين أرض المهجر، وما يتصل بالوطن المحلي: ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وأيضاً سياسياً. وهو ما يتم اختبار فرضياته، عندما نقرأ نصوصاً للأدباء المهاجرين، من حيث الهويات الثقافية المشكلة في الوطن الأم، والتأثيرات التي تعرضت لها، ضمن عملية تشكيل الهوية الجديدة لهؤلاء المهاجرين، وتقاربها مع الهوية العالمية، مع الأخذ في الحسبان أثر القبضة القمعية للدولة القومية، على تشكيل هويات هؤلاء المهاجرين([5]).

   كما تناقش دراسات أدب المهجر برامج الاستيعاب التي تفرضها الحكومات على المهاجرين، من أجل دمجهم لغوياً وثقافياً في مجتمعات الهجرة، وقضايا التعددية اللغوية والتعددية الثقافية والعرقية، وماذا تعني لهم ثقافة بلاد المهجر([6]).

   فهناك روائيون من دول عربية عدة، كتبوا رواياتهم باللغات الأوروبية، ليس افتخاراً بلغة المستعمر، وإنما لعدم تمكنهم من اللغة العربية؛ فكثير منهم نالوا تعليماً كولونيالياً في مؤسسات تعليمية تتبع للمستعمر الأجنبي على أرض الوطن، ولظروف عديدة عاشوا في أوروبا أو عاشوا في أوطانهم دون أن يمتلكوا العربية بوصفها لغة إبداع، ولكن عيونهم وقلوبهم كانت منصبة على أوطانهم، فانحصرت كتاباتهم في تجاربهم وخبراتهم في مجتمعاتهم العربية التي عاشوا فيها، وحافظوا على الانتماء لها، ومنهم روائيون من مصر، والشام، وبلاد المغرب العربي، والصومال، والظاهرة متسعة وممتدة، وتشمل أجيالاً عديدة. والمثال على ذلك، الإحصاءات المدونة عن الأعمال الروائية المكتوبة بالفرنسية في أقطار المغرب العربي، ففي الفترة الواقعة بين عام 1945م وعام 1964م ، ظهرت سبع وثلاثون رواية جزائرية مكتوبة باللغة الفرنسية، وفي الفترة ما بين عام 1965م وعام 1972م صدرت سبع عشرة رواية مكتوبة بالفرنسية، في حين أن الروايات التي كتبت باللغة العربية في تلك الفترة لم تتعدَّ الروايات الثلاث؛ أما في تونس والمغرب فقد بلغ مجموع الروايات التي كتبت بالعربية فيما بين 1945م-1972م أكثر من خمس وثلاثين رواية، في مقابل إحدى وعشرين رواية مكتوبة بالفرنسية([7])، وبالطبع هناك عوامل عديدة، وراء هذا الإنتاج الغزير باللغة الفرنسية في دولة عربية كبيرة مثل الجزائر، فهؤلاء الأدباء نتاج لإشكالية كبرى تمثلت في السياسة الاستعمارية، التي انتهجتها فرنسا في بلاد المغرب العربي، والتي لم تقتصر على مجال الأدب فقط، إنما شملت المنظومة الاستعمارية كلها، وسعيه إلى ترسيخ الاستلاب الثقافي والتبعية الثقافية لشعوب المستعمرات؛ إلى نظمه والتعليمية والاجتماعية والاقتصادية، والمعاملات الإدارية، حيث سعت الإدارة الاستعمارية إلى نشر لغتها وحضارتها وثقافتها، في دول المغرب العربي حتى بعد الاستقلال، بأشكال ومؤثرات مختلفة؛ سعيا منهم إلى الحفاظ على الروابط الثقافية الاستعمارية، بعدما أفلتت منهم سياسياً وعسكرياً. تبدت الإشكالية في كون غالبية هؤلاء الروائيين أجادوا الفرنسية لغة، وتشربوا ثقافتها فكراً، ولكن ظلوا محافظين على انتمائهم العروبي، والوطني، ويرون أن رسالتهم ليست موجهة إلى المستعمر ولا القارئ الفرنسي، وإنما الشعب العربي الجزائري هو المعني بها. وربما كان حاجز التمكن من اللغة العربية حائلاً أمامهم، من أجل التواصل مع الجمهور العربي، وإن تُرجِمت بعض أعمالهم، ولكن ظلت غالبية رواياتهم بلغة الاستعمار.


   ونقول ختاماً، لا بد من النظر بعين الاهتمام إلى الروايات العربية التي كُتبت بغير العربية، وعبّرت في طرحها عن أزمة الواقع العربي، وإن كانت بغير لغته، فهي ـ شئنا أم أبينا ـ واقعة ضمن المشهد السردي العربي العام؛ لأنها تنقل رؤية مغايرة، صادرة من مبدع عربي، أجاد لغة المستعمر أو المهجر، وصاغ تجربته الحياتية، وأزمات وطنه، وكفاحه ضد المستعمر. وبذلك تكون خارطة السرد العربية الحديثة متنوعة لغوياً، مثلما هي متنوعة قُطرياً وبيئياً وموضوعاتياً.


[1]) المذاهب الأدبية والنقدية عند العرب والغربيين، د. شكري محمد عياد، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 1993، ص16، 17. [2]) انظر: في إشكالية الهوية المزدوجة: الأدب المغاربي المكتوب بالفرنسية نموذجا، بن سالم حميش، مجلة فصول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، المجلد (16)، العدد (4)، ربيع 1998، ص137-146. [3]) إشكالية الانتماء في الرواية العربية المكتوبة بالفرنسية، د. محمد صالح الشنطي، موقع ديوان العرب، http://www.diwanalarab.com 23/ 3/ 2007. [4]( Literature and Diaspora, Dr.Itishri Sarangi, KIIT University, Odisha State, India, (bengalstudents.com/blogs/onlinerose/diaspora-literature-special, pp 1-2. [5]) Writing Diasporic Identity inthe Literature of Early Twentieth-Century Japanese America, by Kristina S. Vassil , A dissertation submitted in partial fulfillment of the requirements for the degree of Doctor of Philosophy (Asian Languages and Cultures), in The University of Michigan, 2011, p 11. [6]( Ibid, p 12.[7]) الرواية المغربية، عبدالكبير الخطيب، منشورات المركز الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 1971، ص40.

٠ تعليق

Comments


!
Widget Didn’t Load
Check your internet and refresh this page.
If that doesn’t work, contact us.
!
Widget Didn’t Load
Check your internet and refresh this page.
If that doesn’t work, contact us.
bottom of page