أعلام/ د. عبد القادر فارس: محمود درويش: الشاعر والإنسان والسياسي!!
في التاسع من شهر أغسطس ، أحيا الشعب الفلسطيني، ومحبو الشعر والأدب والثقافة، الذكرى الثالثة عشرة لرحيل الشاعر الكبير محمود درويش، الذي ولد يوم الثالث عشر من مارس 1941 في الجليل الفلسطيني الأشم، وفي هذه العجالة أقدم عن درويش بعض اهتماماته ونوادره في الحياة الأدبية والاجتماعية والسياسية، في ثلاثة محاور:
أولا/ محمود درويش الشاعر:
اللغة والكتابة: كان محمود درويش يمتلك لغة فارهة، ويجترح صورا شعرية " طازجة " في كل مرة، وكان مسكونا بــ "التجريب" والبحث عن الجديد والتجديد المدهش والحداثة لغة ومضمونا، وكان كل ديوان له يتضمن تجربة مغايرة لسابقتها، فهو كان يرى دائما أن أجمل قصيدة هي القصيدة التي لم يكتبها بعد. رغم ميول درويش اليسارية، ونشأته في الحزب الشيوعي، كان قارئا جيدا للقرآن، وقد تجلت اللغة القرآنية في العديد من نصوصه المرموقة، كقصيدة "أخوة يوسف "وقصيدة " الهدهد “ و"القربان" ، وغيرها من القصائد التي كانت فيها اللغة القرآنية تمتاز بالروعة، فضلا عن الأحاديث النبوية، ومن يقرأ قصيدته المطولة " الجدارية " يلمس ذلك عميقا. رغم أن محمود درويش كان منفتحا على ثقافات العالم، والتجليات الإبداعية العالمية، إلا أنه ظل متشبثا بالتراث العربي عميقا، فديوان " جده " أبو الطيب المتنبي كان صديقا ملازما له في حله وترحاله، ولشعر المتنبي حضور مضيئ ومميز في قصائد درويش، ولنا أن نتذكر قصيدته الرائعة "هجرة المتنبي إلى مصر ورحيله عنها “، وتضميناته الواعية والمبدعة لجمر ذلك العملاق الكبير، التي ظلت متوهجة في قصيدة درويش. اعتاد محمود درويش الكتابة بقلم الحبر السائل، وخطه جميل وأنيق، وهو بدون الكتابة بهذا النوع من الأقلام لا يحس بالكتابة، أو يرى أن النص الذي يكتبه بقلم لم يتعود الكتابة به نص ليس جميلا وليس ناضجا، فالحبر السائل يجعله يثق فيما يكتب. وهذا يذكرني بحوار صحفي أجريته مع الروائي الجزائري الكبير الدكتور واسيني الأعرج الذي قال لي " أنا لا أكتب إلا بقلم الحبر السائل، وباللون الأسود تحديدا، لأنني أشعر أنني أكتب بمداد دمي، ولا يمكن أن أشعر بالكتابة على الآلة الكاتبة أو الحاسوب، بأنني أكتب نصا أدبيا من دواخلي". ومحمود درويش كان مبدعا في كتابة النثر بالدرجة نفسها التي أبدع فيها بالشعر، فلغته النثرية أنيقة وعميقة ومشرقة دائما، وعندما نقرأ "الرسائل" التي تبادلها مع شاعرنا الكبير سميح القاسم، نكتشف عمق اللغة وحلاوتها، حيث لا فرق تقريبا بين الشعر والنثر. لقد كان محمود درويش يحب التأمل، فكان يمشي متأملا في "حديقة " مثلا، فالمشي وحيدا وهادئا يجعله يقتنص صورا جديدة، ويشعل فيه الشرارة الأولى للكتابة الزاخرة بالحياة والأمل.
الوقت والقراءة: من عادات محمود درويش أنه يخصص وقتا من النهار للقراءات التي يمكن وصفها بالجافة، مثل التاريخ أو السياسة، فيما يخصص وقتا من الليل لقراءة الشعر أو كتابته، من دون أن يترك ذلك لمزاجه الشخصي، وهو بذلك يذكرنا بسيد الرواية العربية صاحب نوبل للآداب الكاتب الكبير نجيب محفوظ. فمحمود درويش لا يدع القراءة والكتابة للصدف، بل يخضع ذلك لإرادته الصارمة، ولهذا تطور درويش وأنتج وأبدع، وظلت في حوزته الكثير من مشاريع الكتابة الشعرية العميقة والمدهشة. كما أن درويش وبحكم نشأته الأولى، وبقائه في الأرض المحتلة عام 1948، إلى غاية مغادرتها عام 1972، كان قارئا جيدا لــ " التوراة" ، واستفاد كثيرا من لغتها وفضاءاتها المضمونية، ومناخاتها وظلالها، وخلفيتها التاريخية. كذلك كان محمود درويش يقرأ كثيرا في التاريخ، وفي التاريخ الإنساني على وجه الخصوص وهو قارئ شغوف للأساطير الكونية، وكان على اطلاع واسع على تجارب الشعوب وآدابها، مثل الهنود الحمر وخطبهم ونصوصهم الإنسانية.
ثانيا / محمود درويش الإنسان: كان محمود درويش لا يؤمن بالفوضى في حياته، ولا بالصعلكة الفارغة، ولا بجلسات المقاهي، حيث إنتاج الثرثرة والتنظير العقيم وهدر الوقت. فوقت شاعر كبير بقامة محمود درويش ثمين للغاية، ولهذا حرص أن يستثمره بطريقة منظمة، وبأسلوب حياة منضبط، فهو يقرأ في موعد، ويكتب في موعد، ولا يستقبل في بيته أحدا، إلا إذا كان صديقا حميما جدا. ينهض في الصباح باكرا، وحين يعود للبيت يطهو طعامه بنفسه، ومن طرائف درويش في الطعام أنه لا يحب طعاما تدخل فيه “ الكزبرة “ فهو يضيق ذرعا برائحتها. وكان درويش يخلد للقيلولة لمدة نصف ساعة تحديدا، فنصف الساعة هذه، في رأيه، تكفي لاستعادة الحيوية والنشاط، أما إذا زاد وقت القيلولة عن ذلك، فإنه يستحيل مرضا وخمولا.
المرأة في حياة درويش: هي الأم، الحبيبة، الجمال، الدفء، الحلم، كانت حاضرة دائما في شعره، وكتب فيها أعذب النصوص، وأكثرها جمالا، ونالت شهرة وانتشارا كبيرا، وحظوة عند القارئ والمتلقي. فأمه السيدة “ حورية “ ظلت حاضرة اسما صريحا، وصفاتٍ ورائحة وذكرى، وذاعت كثيرا من قصائده التي تغني فيها بأمه طويلا وعميقا، ومن لا يذكر قصيدته الشهيرة " أحن إلى خبز أمي"، التي غناها الفنان اللبناني المبدع والملتزم مارسيل خليفة، والتي يحفظها الكثيرون عن ظهر قلب.
المرأة / الزوجة في حياة محمد درويش : كانت محض وجود سريع الزوال، ربما بسبب عصبيته المفرطة وغضبه السريع، فضلا عن قلقه الدائم، وهي صفة دائمة للمبدع الحقيقي. تزوج درويش مرتين في حياته، الأولى من الكاتبة السورية رنا صباح قباني وهي ابنة شقيق الشاعر السوري الكبير نزار قباني، لكن زواجه ذلك مني بالفشل، ولم يستمر طويلا، وقالت مطلقته السيدة الدمشقية: "إن محمود لم يخلق ليكون زوجا ورب أسرة وأبا، فهو شاعر رائع، لكنه في الوقت نفسه زوج فاشل". أما الزواج الثاني فكان من الفنانة والمترجمة المصرية حياة الهيني واستمر لعدة أشهر فقط وانفصلا بعدها. وكان درويش يقول عن الزواج "المؤسسة الزوجية قيد يجب أن يبتعد عنها أي إنسان يحمل في داخله بذرة فن أو إبداع".
رغم زواج محمود درويش مرتين، لكنه عايش حياة العازب، كان يحب أن يطهو الطعام بنفسه، واشتهر بولعه في شرب القهوة، وله طقوس خاصة لها، فهو يعدها بيده ويتفنن في إعدادها على مهل وعلى نار هادئة، ولا يشربها إلا في فنجان أبيض، وباتت القهوة دليله إلى عادات الناس وتفاصيل حياتهم، فمثلا إذا أراد تناول قهوة ذات رائحة ما والتقط معها رائحة شيء آخر، فهذا يعني أن سيدة البيت مهملة، وبيتها غير مرتب، ومطبخها نهب للفوضى وهكذا دواليك باقي الأشياء.
المرأة في شعر محمود درويش: كانت المرأة كما قلنا آنفا هي الجمال والدفء، والوجود الفاتن في كثير من قصائد درويش، وكان منها مثلا وليس على سبيل الحصر "امرأة تدخل الأربعين بكامل مشمشها"، و"امرأة تتشمس في نفسها"، وقصيدته الشهيرة "ريتا والبندقية"، التي غناها مارسيل خليفة أيضا، ونالت شهرة كبيرة منذ بداياته المثيرة.
ثالثا / محمود درويش .. القضية والسياسة: دخل محمود درويش معترك السياسة منذ ريعان شبابه، فقد كان مناضلا سياسيا في صفوف الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي كان متنفسا للمناضلين الفلسطينيين في الأراضي المحتلة في الداخل الفلسطيني، وبسبب نشاطه السياسي اعتقل في سجون الاحتلال لأكثر من مرة، ثم طرد من أرضه، وتنقل من منفى إلى منفى، عاش في العديد من المدن والعواصم، من القاهرة إلى عمان إلى بيروت وعدن وتونس، وباريس وروما وهلسنكي وغيرها من مدن المنفى والشتات، وقد تركت مدن كثيرة بصماتها وظلالها وجروحها في نفسه، إلا أن مدنا كثيرة أفاد منها كثيرا، ثقافيا على الأقل، واكتشف فيها غربة الروح، بالإضافة إلى غربة الوطن، فاتخذ من اللغة مقر إقامة ووطنا، ولهذا حرص على أن تكون اللغة جميلة ومدهشة وغنية بالحياة، والاحتمالات والأحلام والألم الصعب. ارتبط اسم محمود درويش بالقضية الفلسطينية ارتباطا عميقا، الأمر الذي دفع الكثير من حساده إلى إرجاع شهرته العريضة والطاغية، إلى" القضية" ، وليس إلى ما يتمتع به من شاعرية حقه، وموهبة فذة، وثقافة غنية، وحس مرهف، وهو ما جعل الشاعر العراقي الكبير سعدي يوسف يرفع الصوت عاليا، لرفع الظلم الفادح الذي لحق بمحمود درويش، وأطلق صرخته الشهيرة قائلا:" ليس محمود درويش من يتكئ على القضية الفلسطينية، إنما القضية هي التي تتكئ على الشاعر محمود درويش". ودرويش ضاق ذرعا من حشره حشرا في قائمة ما يسمى " شعراء المقاومة". فصرخ هو الآخر صرخته المدوية "ارحمونا من هذا الحب"، رافضا المدائح التمجيدية التي يسكبها النقاد والكتاب والشعراء العرب على الشعراء الفلسطينيين بوصفهم "شعراء مقاومة" يستحقون التأييد والمساندة. وكما فشل محمود درويش في التوفيق بين الزواج والإبداع، فقد فشل كذلك في الجمع بين الشعر والسياسة، ولم يستطع أن "يحمل بطيختين في يد واحدة" . كما قال هو ذات مرة، فترك السياسة لأصحابها، وعزف عن المناصب بعد أن وصل إلى أعلى المراتب السياسية، فكان عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ورئيسا لدائرة الثقافة في المنظمة، فترك المناصب السياسة بعد اتفاق أوسلو واستقال من عضوية اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، على الرغم من أنه ارتبط بعلاقة وثيقة ووطيدة وحميمة مع الرئيس الراحل ياسرعرفات، وقال عنه إنه يخبئه في القلب، وهو الذي كتب بيان الاستقلال، الذي قرأه أبو عمار في ختام اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني يوم 15 نوفمبر 1988.لجأ محمود درويش للشعر لكي يحتمي به من السياسة، إلى أن توقف القلب العاشق لفلسطين، عن نبض الشعر، ويدفن جسد صاحب ديوان " عاشق من فلسطين " في مدينة رام الله، إلى جانب العاشق الكبير رمز فلسطين ياسر عرفات، الذي سبقه قبل ذلك بأربع سنوات، وكأنما أراد القدر أن يجمع بين القامتين الكبيرتين في تراب فلسطين بعد هذه الرحلة الشاقة والشيقة في حب فلسطين.
Comments