top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

أماني الزعيبي: آثار الحضارة الرومانيّة في تونس


أماني الزعيبي - تونس
أماني الزعيبي - تونس

أماني الزعيبي: آثار الحضارة الرومانيّة في تونس

يعود الاهتمام بالمادة التّراثية إلى عصور غابرة، فالتّراث هو الأثر الماديّ الذي تتركه الشعوب، وهو الشّاهد الرّمزي الّذي يُغالب الزمان، وهو تخليدٌ للذاكرة الجماعيّة ودلالات زمانيّة مكثفة وفقًا لعبارة الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار. مثّلت البلاد التونسيّة واجهة حضارية وتراثية، تمتدُّ جذورها على أكثر من 3000 سنة، تعاقبت عليها عديد الحضارات والثقافات، وهو ما جعلها تزخر اليوم بعديد المواقع الأثرية التي يصلُ عددها إلى 30 ألف موقع.

ازدهرت قرطاج تزامنًا مع المُدن الرُّومانيّة، واعتلت مكانة كبيرة في الغرب بعد روما. حينئذ، اندلع التنافس الروماني القرطاجي حول الحوض الغربي للمتوسط. وبذلك احتدمت الحروب البونيّة بين قرطاج وروما على ثلاث مراحل: أطلق على المرحلة الأولى حرب صقلية (سنة 264ق.م – 241 ق.م). ثمّ الثانية سميت بحرب حنبعل (219ق.م- 201)، والثالثة تعددت فيها محاولات إعادة إعمار قرطاج. 

وثَّق التاريخُ هذه الأحداث التاريخيّة والانتصارات التي حقّقها حنبعل على الرُّومان في حرب إسبانيا، وعبوره بعد ذلك نهر الايبرو، ليزحف برًّا نحو إيطاليا. من أجل هذا، خاض المعارك، ولكنّه فشل في فصل روما عن حلفائها. ومردّ ذلك ضعف إمكانياته العسكريّة، وأسوار روما المنيعة، ومنه استحال الأمر على القائد حنبعل وانهارت قوته، في مقابل ذلك، استولى القائد الرّوماني بوبليوسمورنيليوس سكيبيو على جميع المدن التابعة لقرطاجة، وعليه أنتجت هذه الحروب والفتوحات والصراعات، موروثًا تاريخيًّا ماديًّا في كامل تُراب الجمهوريّة. نذكر من بين المواقع التاريخيّة:

قصر الجم أو مسرح الجم أو قصر الكاهنة، واسمه الروماني "كُولُوسّيُوم تِسْدروس"، وهو مسرحٌ أثريٌّ يقع بمدينة الجم في ولاية المهدية في جنوب شرق تونس. كان يطلق عليها في العهد الروماني "يسدروس". أدرجته اليونسكو سنة 1979 ضمن التراث العالمي. يبلغ عمر المسرح ما يقارب 1800سنة، شيّده الرومان سنة 238 م في عهد الإمبراطور الروماني "كورديان الثاني" وهو أحد أهمّ وأكبر المسارح الرومانية في العالم، وذلك بعد مسرح كولوسيوم روما. 


قصر الجم أو مسرح الجم أو قصر الكاهنة
قصر الجم أو مسرح الجم أو قصر الكاهنة


يتميّز المسرح بهندسة معماريّة تُواشج بين الشرقيّ والغربيّ. تبلغُ مساحة القصر 18056 مترا مربعا، وأبعاد الحلبة 65 متر، وتتسع مدارجه لقرابة 35 ألف متفرّج. ويذكرُ في الرّوايات التَّاريخيّة القديمة أنَّ بناء القصر مرتبط بالإمبراطور الرومانيّ غورديان الثاني الذي قاد انتفاضة على إمبراطور روما، وهو الذي أمر ببنا المسرح. يُشكّلُ المسرح امتدادًا للعهد الرومانيّ، إذْ شهد جملة من الأحداث التاريخيّة ومُنعَطفات مهمّة. مثَّل حلبة لمصارعة الوحوش، وهو الآن من أهمّ الآثار والمعالم السياحيّة العالميّة. وُجدَ في القصر قِطَعًا أثريّة نادرة وحفريّات وقطعًا فسيفسائية تصوّر الحياة اليوميّة للرّومان. نُقِلَ أَغْلَبُهَا إلى مُتحف مدينة الجم. ازدهرت شُهرة القصر في ثمانينات القرن الماضي عندمَا استضاف أوّل مهرجان للموسيقى السمفونيّة، فضلًا عن العرّوض الفنيّة التي تحاكي الحضارة الرومانية. 

إلى جانب قصر الجم، نجدُ مدينة "دڨّة" " التاريخية الرومانيّة التي تقعُ في الشمال الغربي على بعد106 كم من تونس. وهي تقع في الشمال الغربيّ للبلاد التونسيّة، وتحديدا في معتمدية تبرسق من ولاية باجة. تنتصبُ في منطقة جبليّة تكسوهَا الهضاب والأودية والتربة الخصبة. ويعودُ تأسيس المدينة حسب المؤرخين إلى القرن السادس قبل الميلاد. 

تبدو الآثار بيّنة للعيان من مسافات بعيدة في واجهة معبد بعل حانون ساتورنوس. فقد تَعَاقبت الحضارات على هذه المدينة الكاملة التي عُثرَ فيها على حمامات رومانيّة وآثار فسيفسائيّة، والمعابد (معبد الكابيتول ومعبد كاركير)، والضريح البونيّ المنتصب في وسطها. ويمتد تاريخها على مدى25 قرنا.


مدينة "دڨّة" " التاريخية الرومانيّة
مدينة "دڨّة" " التاريخية الرومانيّة

"دڨّة" هي مدينة النقوش والزخارف، تجمعُ بين التاريخ وروح الفنّ، وتُطلُ بأقواسها المفتوحة على السماء كأنّها توشوشُ لأساطير الماضي البعيد. تضمّ بيوتًا فخمة، فضلًا عن الحمامات والمسرح الروماني داخل المدينة الرومانية، والمقابر والأصنام المقطوعة واللوحات، وهذا، دليلٌ على التأصّل التاريخي والطقوس الرّومانيّة القديمة التي لم تمحوها الحضارات المتعاقبة.  وقد اختار النوميديون هذا الموقع الاستراتيجي والدفاعيّ الموجود على ربوة عالية بعناية. وقد تحدّثَ عن "دڨّة" المؤرخ اليوناني ديودور الصقليّ أو ثيودور الصقليّ في القرن الرابع قبل الميلاد.

إلى جانب ذلك، نذكرُ الموقع الأثريّ في مدينة سبيطلة من ولاية القصرين والتي اعتُمِدَت في العصر الروماني مستوطنة مركزيّة. وهي مدينة صغيرة في الوسط الغربيّ، شهرت بموقعها الرّوماني وفيها مبنى الكابيتول ويحوي ثلاثة معابد مخصصة للآلهة الحارسة لروما. تاريخيًا، أسّس الرّوم هذه المدينة الفسيفسائيّة في منتصف القرن الأول، في فترة حكم الفلافيان. وعرفَ هذا العهد بالازدهار والرقيّ الذي تجسّد في المعالم الأثريّة، منها موقع سبيطلة الذي نجدُ فيه قوسيّ النصر والكنائس والحمّام العموميّ المزخرف والحصون والجسر المائيّ والكاتدرائية بالاتور، والمعبد المجهول. 

هكذا، خلّدت آثار سبيطلة مرحلةً تاريخيّةً رومانيّةً، وزادت الفضاء رونقًا جماليًّا، بأقواسها الباسقة، ولوحاتها الفسيفسائيّة الموغلة في البراعة والفرادة. 


مدينة سبيطلة الموقع الروماني الأثري - تونس
مدينة سبيطلة

نذكر كذلك قرطاج الرُّومانيّة التي أعيد بناؤها، في عهد الإمبراطور أغسطس في أواخر القرن الأول. وهي شرفة حضاريّة فخمة، جمعت بين الأعمدة الصلبة والمنازل الرومانيّة الأرستقراطيّة والمسارح والكنائس، والقطع الفسيفسائيّة الملونة. نذكر على سبيل المثال مسرح قرطاج الأثريّ الذي يقع في الجانب الغربي من قرطاج. شُيدَ في القرن الثاني للميلاد قرب هضبة الأوديون وقد اعتبره سكان قرطاج قديمًا فضاءً ثقافيًّا رحبًا في تلك الفترة، يستقبلُ عشاق المسرح، والموسيقى، وأحباء الفنّ والفلسفة. ويتكوّن المسرح من ركح ومدرج نصف دائريّ يفصل بينهما فضاء للمتفرجين، ويستقبل المسرح الآن آلاف المتفرجين كل صيف. وهو بذلك، منارة ثقافيّة وتاريخيّة وفنيّة، تُراوح بين خلود الماضي واستشراف المقبل، يصعدُ عليه في المهرجان الصيفي عشرات النجوم. 

ننتقلُ من العاصمة إلى ربوع سليانة الوارفة على جبال برقو الشاهدة على أهمّ المعارك المناهضة للاستعمار. نجدُ هناك مدينة أثرية نوميديّة، وهي "مكثر" في الشمال الغربي، تأسّست على يد البربر النوميدين في القرن الثالث قبل الميلاد وذلك كحصن دفاعي. بلغت المدينة قمة ازدهارها في عهد الإمبراطور الروماني ماركوس أوريليوس الذي بنى فيها العديد من المعالم الأثريّة. ومن بين أهمّ الملامح الأثريّة للموقع هناك قوس النصر والحمامات والمنتدى الروماني.

يَمتدُّ الموقع الأثري بمكثر الذي يضم متحفًا، ويحتوي أطلال كنيسة شيّدت على أنقاض معبد وثنيّ تظهر ساحته العامة يوشّحها قوس النصر وهنام تبرز الحمامات الرومانيّة التي تعد أكبر ثاني الحمامات في تونس بعد حمامات أنطونيوس بقرطاج.


لوحة فسيفساء من الآثار الرومانية بتونس


ومن بين الآثار الحاضرة منزل الشبيبة وهو مبنى يجتمع فيه أعضاء جمعية شبابية أو أكاديمية عسكرية، وجد فيه نصبٌ تذكاري مؤرخ، استخدم لأوّل مرّة في عهد الإمبراطور تينوسدو ميتيانوس ويعود تاريخه لعام 88م -89 م. 

يتكوّن المبنى من فناء محاط بالأعمدة والغرف وتجويف نصف دائري مغطى بقبة نصف دائرية، وقد خلدَ في الموقع أسماء الشبيبة، وتُبيّن النقوش الطابع الدينيّ لهذا المَعْلَم الذي كُلف أعضاءه ببناء الكاتدرائية والمستودعات على الأراضي العامة. واهتم هذا المركزُ قديمًا بنشر الثَّقافة وتأهيل الشباب للخدمة العسكريّة. شهد هذا المبنى عدّة مراحل، آخرها في القرن الخامس والذي تمثّل في تحويل جزء منه إلى كنيسة.

وقد اعتبر المؤرخون مدينة مكثر مدينة نوميديّة الأصل حَوَتْ عديد النقوش، وتَوَاصلت بعد الاحتلال الرومانيّ. وتثبتُ المدينة حضور الغزو الروماني. فقد دخلت مكثر سنة 46 ق.م تحت سيطرة روما بعد انتصار يوليوس قيصر على الملك النوميدييوبا الأوّل، وحسب النقوش التاريخية هناك، أصبحت المدينة مستوطنَة شرفيّة في عهد الإمبراطور ماركوس أوريليوس. 

في المدينة ضريح هرميّ وهو مقسم إلى مربعين وقسم هرميّ، ويرتكز على ثلاث درجات تشكل نوعا من البرج. يُحيطُ بهذا البرج من ثلاثة جوانب ثلاثة أعمدة كورنثية. تحتوي الغرفة القبرية داخليًّا على سبعة عشر محارة صغيرة مقوسة. والطابق الثاني لهذا النصب هو برج مستطيل ثان، بُنيَ داخل البرج السفلي، مزركش بأعمدة كورنثية. فيه أيضًا قبة كبيرة مقوّسة. أما البرج الثاني مُتوجٌ بإفريز يعلوه سقف هرميّ الشّكل.

ويُوجدُ في المدينة أيضًا مسرحٌ دائريّ مخصص لصراعات الوحوش ومسرحة الصراع عند الرومان، فضلًا عن اللوحة المنتصبة في الحمامات للموقع الأثري. وتعدُّ عنصرًا معماريًّا فخمًا يجمعُ بين الزَّخارف الدقيقة والفسيفساء الأصيلة، فضلًا عن تشيده لاهتمام الرّومان بجلب المياه في قنوات مرفوعة على الأقواس العملاقة.


لوحة فسيفساء من الآثار الرومانية بتونس

 هذه الشواهد الأثريّة الباقية في تونس في العهد الرومانيّ أفق حيّ يجسّدُ عمق الماضي وتأصلهُ في الحاضر، وقد ترك الحضور الروماني بتونس هذه اللوحات الخالدة التي تواشجت بين فنّ العمارة الفخم، وبين فنون أخرى كالفنون التشكيليّة والنحت والفسيفساء والنقوش التي كتبت بلغات مختلفة. وقد استقطب هذا الموروث علماء الآثار والمؤرخين والباحثين من البلاد التونسية ومن كافة أنحاء العالم، لثرائها ولأنّها أفق حيّ للاكتشاف والبحث.

٠ تعليق

Comentários


bottom of page