top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

أمير تاج السر: المكان في تجربتي


الروائي السوداني أمير تاج السر
الروائي السوداني أمير تاج السر

 

أمير تاج السر: المكان في تجربتي - السودان 

المكان في تجارب مختلفة

إذا اتفقنا بأن الرواية أو السيرة الروائية، هي في النهاية مجتمعًا متجذرًا، بكل شروط المجتمعات ومعطياتها، يتكون داخل نص شبيه بنصوص الحياة العادية، فلا بد إذن من مكان جغرافي حقيقي أو مخترع، لتجري فيه الأحداث.والمكان ولكي يمنح هبة احتضان النص كاملة، لا بد من رسمه بإتقان، لا بد من رصد تفاصيله، ووضع مكوناته، كل في مكانه الطبيعي، بمعنى أنه لا بد من بيوت للسكنى، من شوارع للمشي فيها، من أسواق للشراء، وأركان مضيئة أو معتمة للثرثرة. لا بد من قرية أو مدينة أو وطن لتمجيده أو عتابه بحسب ما يحكى في النص. وقد اعتدت في قراءتي للأعمال الروائية، أن أتعمق في تذوق مكان الأحداث أولًا، وجمع تفاصيله للاحتفاظ بها في الذهن، ومن ثم متابعة العمل الروائي، ورؤية مدى حنكة الروائي في جعل القارئ، ماشيًا أو راكضًا أو متعثرًا، حتى غافيًا باطمئنان داخل مكانه النصي.كان جاررييل غارسيا ماركيز يبهرني بمكانه الأسطوري، ذلك المكان المخترع لنصوصه باستفادة كبرى من بيئة الكاريبي، وما تمنحه من تميز حتى على صعيد الفقر والتشاؤم وتذوق الأساطير المتجذرة والعابرة، والذي يتعرف إلى قرية ماكندو التي أنشأها الجد خوسيه أركاديو بونديا، في مئة عام من العزلة، وأضحت بعد ذلك مكانا جغرافيا محتملا، بملامح القرى الكاريبية، لا يحتاج لكثير عناء، أن يلم بكتابة ماركيز بعد ذلك، سيلم جيدًا بأحداث روايته العظيمة: الحب في زمن الكوليرا، والعظيمة الأحرى: أحداث موت معلن، وحتى في قصته الحقيقية حادث اختطاف، حين حكى عن صديقته التي اختطفتها عصابات بابلو أسكوبار، سلطان المخدرات في كولومبياوأطلقتها وهي على حافة الانهيار. في كل تلك القصص، تتنوع الحكايات وقد تتنوع أسماء القرى والمدن التي تجري فيها الأحداث، لكن في النهاية، نحن إزاء المكان الجغرافي المستوحى نفسه، المكان بما وهبه وما قد يهبه مستقبلًا.هاروكي موراكامي، ذلك الياباني الملهم، هو أيضا وضع لبنات مكانه النصي في البداية ومن ثم نوع حكاياته بحيث لن تخرج من خريطة طوكيو الحقيقية، بالرغم من جعل العالم غرائبيا ومزدحما بتفاصيل كثيرة، القارئ لا تهمه أشياء كثيرة في النص، بقدر ما يهمه خيط قوي، أو عصا سحرية مستعدة لقيادته داخل النص، المكان، وإتاحة الفرصة له ليلم بالمعالم المهمة. لذلك ستبدو القراءة لموراكاميفي البداية مغامرة كبرى، لكن بعد الإلمام ببيئته جيدا، تصبح القراءة ممتعة.من الروايات التي قرأتها وما تزال أصداؤها ترن في ذهني بسبب ما قدمته من خدمة جيدة بالتعريف بالمكان جغرافيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، رواية الوله التركي لأنطونيو غالا، إنها رواية ضخمة تدور أحداثها في اسطنبول، قصة حب قد تكون غير متكافئة بين فتاة إسبانية مرفهة، ودليل سياحي تركي على حافة الفقر، ويعيش بشخصية تحتوي على كل الصلف العثماني القديم.لقد نقل غالا ببراعة شديدة، مكانا قطعا زاره، وتمعن فيه، وحفظ جزءًا كبيرًا من تفاصيله، وأظنها كانت رواية قصدية، أن تكتب فقط عن اسطنبول إحدى المدن المثيرة للجدل بتنوعها الكبير، واحتضانها لتاريخ قوي، يصعب تخيله أو الإلمام به، وستكون مهمة الدليل السياحي في البداية وقبل أن يأسر الإسبانية في حبه، أن يصحبها في جولات سياحية مع الوفد الذي أتت معه، وسنرى في تلك الجولات السياحية عددا من المساجد القديمة الضخمة، عددًا من القصور التي لا يمكن التخيل، كيف بنيت أصلًا، سنرى البازار الكبير، ونشم رائحة التوابل فيه، وسنرى السجاد المتنوع، المنسوج ببراعة والمنسوج بإهمال، وأيضا سنرى مغيب الشمس في خليج البسفور، وكل ما يمكن أن تضمه خريطة سياحية لمدينة مثل إسطنبول، وأظن أن المدينة هنا جاءت بالثوب المزركش أكثر من إسطنبول نفسها التي تجيء في كتابات الأتراك مثل أورهان باموق وإليف شفق، هنا المكان تلقائي بكل حسناته ومساوئه، فالكاتب التركي ليس سائحا ولن يقدم خدمة سياحية لبلده، هو يصنع مكانه الموازي لمدينة فيها الخير والشر، الشوارع الواسعة والأزقة، الأمن والرعب، النساء الجميلات والخاليات من صيغة الجمال، هكذا.أيضا رواية مثل ظل الريح للإسباني كارل رويس زافون.


كارل رويس زافون
كارل رويس زافون

هذا كاتب من برشلونة، ومؤكد هو ملم بخارطتها الجغرافية والإنسانية، وحين كتب حكايته عن الكتب المنسية في أحد الأماكن، بكل تلك الغرابة والفن، لم ينس أن يسير بنا في الشوارع البرشلونية، متبعا اللافتات نفسها التي تسمي بها البلدية تلك الشوارع، هو لن يقول مثلًا: انحرفت إلى شارع واسع، ولكن سيسمي الشارع بإسمه الرسمي، كذلك سيسمي المكتبات، وأماكن بيع التحف والملابس بذات الاسم الموجود في الواقع، فقط سيكون النص خياليًا، تم استلاف مكان مزدحم بالتفاصيل لاحتضانه.هذا يقودنا لمسألة الإلمام بالمكان التي ينبغي توفرها لدى الكاتب من أجل صياغة مكان مواز، أي البيئة التي يخبرها الكاتب بحكم نشأته فيها، أو خبرها مؤخرًا بعد أن سافر إليها بغرض العيش فيها أو لمجرد الزيارة السياحية كما شاهدنا في الوله التركي، تلك البيئة في رأيي أول ما يتبادر لذهن الكاتب حين يضع قدمه في درب الكتابة، سيطرقها على الفور مستوحيًا مكانه النصي منها، وسيستمر في طرقها في كل نص جديد، في الغالب، ما لم يكن نصًا تاريخيًا أو عن مكان بعيد، وسينتبه إليها القارئ، ولن يلهث خلف الفاصيل مجددًا، ذلك أنه يعرف المكان، فقط سيتابع الحكاية الجديدة.وبحكم عملي منذ سنوات في التدريب على الكتابة الإبداعية للشباب ممن شغفوا بالكتابة وأرادوا قواعد علمية لاتباعها، كنت أنبه إلى رسم المكان أولا قبل أي حوار أو حدث مهم، لأنني كقارئ لن أتفاعل مع الحدث جيدًا، ولن أهضم الحوار الذي يدور بين شخوص معينين ما لم أتعرف إلى المكان الذي تدور فيه الحكاية، والشخصيات التي تتحاور داخلها، غير مقبول أبدًا أن تضعني في نص بلا معالم، وتطلب مني الاستمرار، إنه أشبه بوضعي داخل غرفة من الصلب، وبناء حائط مكان الباب، ومن ثم تطلب مني الخروج منها. وقد كانت الكتابة الإبداعية حتى عهد قريب، هكذا بالسليقة وتعتمد على قراءات الكتاب المبكرة وما الذي تعلموه منها، ثم يأتي دور تقليد الكتاب المفضلين، حتى يضع المبدع قدمه بقوة في الطريق. الآن تبدو المسألة أسهل، قليل من الشغف بالكتابة، قراءات قليلة، ثم الانخراط في ورشة ستعلمك المطلوب. لكن وبرغم ذلك سيأتي من يقرأ لغيره، ومن ينخرط في ورش تدريبية ليكتب لنا نصًا بلا معالم، لن أقول بأنه قصور في التعلم، ولكن قدرات لن يكتسبها من لم يكن أهلًا لاكتسابها. وأظنني لن أغفر لكاتب من بلد بعيد أردت معرفته من نص روائي ولم أجد تلك المعرفة، لن أغفر لكاتب من جورجيا مثلًا، لا يصف لي ضجة الحياة في شارع مرجان شولي في قلب العاصمة، بالرغم من أن نصه يمر بذلك الشارع، ولا بكاتب من كوالا لمبور، لا يتوقف بالقارئ ساعة أو ساعتين في شارع بوكيت بنتاج العجيب والساحر والممتلئ بكل الحيل التجارية التي يمكن أن تصبح حيلًا نصية أيضًا، وقد كنت ممتنًا حتى للقصص البوليسية التي كنت أقرأها قديمًا لأجاثا كريستي، وموريس لبلان، حين وجدتني أعرف لندن جيدًا، وأنا أزورها للمرة الأولى، كانت بالضبط ذلك المكان المتخم بالتفاصيل الذي تم وصفه في تلك الروايات. كان شارع بوند هو نفسه الذي أعرفه نظريًا، وشارع أوكسفورد لم تتغير فيه معالم كثيرة، وفقط ازدادت ضجته عن  أيام كتابة تلك الروايات.



كازو أشيجورو
كازو أشيجورو

لقد قرأت مؤخرًا لكازو أشيجورو، البريطاني من أصل ياباني الذي حصل على جائزة نوبل عام ٢٠١٧، لقد ولد كازو باليابان، وعاش جزءا من طفولته فيها قبل أن يهاجر أهله إلى بريطانيا التي حصل على جنسيتها وما يزال يعيش فيها. حقيقة كانت الرواية التي قرأتها له تدور أحداثها في اليابان بعد الحرب العالمية الثانية، هناك تفاصيل كثيرة حميمة لا يعرفها إلا من خبر المكان، وأظن كازو كان يكتب مكان نشأته الأولى، وهذا يؤيد ما ذكرته عن العلاقة الفذة بين مكان النشأة والطفولة، وبين العمل الإبداعي الذي سيكتب فيما بعد.

تجربتي

في الحقيقة أنا بدأت الكتابة منذ زمن طويل، منذ طفولتي بالتحديد، لقد تأسست قارئًا أولًا، بفضل ما كان يفرض في البيت من ضوابط لا تحث على القراءة فقط، لكنها تجعلها واجبًا رسميًا، وبجانب ذلك جربت الكتابة، ولم تكن بالطبع كتابة ثرية أو ذات قيمة، فقط تكمن أهميتها في أن ثمة شغف ألم بي مبكرًا وأنني قد أغدو كاتبًا ذات يوم. لقد أمسكت بالشعر أولًا، وكان الشعر يملك هيبته وقيمته الكبيرة في ذلك الوقت، وكل من دخل الدرب الإبداعي يتمنى أن يصير شاعرًا، وإن صار يتمنى أن يلمع، وإن لمع ظل كما هو شاعرًا حتى النهاية، كتبت القصيدة العامية، وهذه حشوتها بمفردات العاطفة التي لا علاقة لها بالمكان الجغرافي قطعًا، ولا هي نهج سردي ليتبلور فيه مكان. بعد ذلك وبعد انتفاضة رجب - أبريل ١٩٨٥، في السودان كتبت القصيدة الفصحى وعدوت بها إلى الحداثة، لتصبح قصيدتي موغلة التجريب، وأشارك الشعراء الكبار صفحاتهم في كل الصحف والمجلات العربية، لكن هذا لم يعد يكفي، ثمة خيانة للشعر أو لنقل ثمة تعديل في الخطوات التي لم تكن خطوات شاعر وإنما خطوات سارد يرتدي ملابس الشعر.حقيقة ولدت في شمال السودان، في قرية كرمكول التي عند منحنى النيل بالرغم من أن عائلتي كانت تقيم في مدينة بورتسودان، ويعمل والدي في جمارك الميناء، لكنه تقليد قديم ما يزال ساريًا حتى الآن، أن تسافر الزوجة الحامل من مكان إقامتها لتضع مولودها في بيت أهلها. المسألة عادية طبعا، وفقط قد تثير الاستغراب، أن تذهب امرأة من المدينة حيث المستشفيات والأطباء، والدواء، ومواجهة تعثر الولادة، إلى ريف ليس فيه سوى: خادم الله بنت أمان، داية المنطقة بزيها الأبيض الذي لن يقدم أو يؤخر، إن تعثرت الولادة لأي سبب أو حدث نزيف، وهذه ليست أشياء نادرة.إذن نشأت في بورتسودان، وأمسكت ببيئة المدينة عاصمة شرق البلاد بصورة كبيرة وجيدة، وبالطبع استطعت الإلمام بجزيئيات أطرافها أيضا، وتلك القرى الصغيرة المحيطة بها، وعملت بعد ذلك في منطقة طوكر، وكان تعمقًا إضافيًا في تجربة شرق السودانوأساطير المكان والميثلوجيا الخاصة به.


جزيرة سنقنيب - بورتسودان - السودان
جزيرة سنقنيب - بورتسودان

وفي منتصف السبعينيات من القرن الماضي، انتقلنا للعيش في الخرطوم فترة، وسكنا في منطقة شمبات محاطين بحي الشعبية، وحي الصافية، وكلية الزراعة، وكانت المدرسة خلف سينما الصافية تطل على خلاء قح، كنا نشاهد فيه القطارات وهي تعبر من الأقاليم إلى محطة القطار النهائية، أو منها إلى الأقاليم. بعد ذلك انتقلنا للعيش عامين في مدينة الأبيض في غرب السودان، عروس الرمال كما تسمى، وكانت تجربة أيضا لها وقع كبير، وقد أتت بتغير جبار، وأذكر لها بامتنان أنها المدينة التي كتبت فيها الشعر أول ما كتبته بصورة جادة، وتلك الأغنيات التي رددها مغنون محليون هناك، ساعدت في الدعم المعنوي، والبقاء في درب الإبداع  كل هذه المدة، ثم عدنا بعد ذلك إلى بورتسودان.لن أتحدث عن أسفاري الخاصة، والدراسة في مصر، فكلها أمكنة ألممتُ بجزيئيات منها أو بها كاملة، ولا بد دخلت منها شظايا في أعمالي الكتابية، لكن لنرى ماذا فعلت في بيئة شمال السودان التي لم أعش فيها ولكن كانت الأسرة تنتظم في زياراتها للقرية، وبيئة شرق السودان التي هي بيئتي المفضلة.لقد كتبت روايتين مكثفتين عن الشمال هما كرمكول وسماء بلون الياقوت، كتبتهما أيام تأثري بالشعر وكانتا أشبه بالقصيدتين الطويلتين، لكن لا بأس، فقد كان الشمال الجغرافي والاجتماعي والإنساني حاضرًا فيهما بكثافة، بمعنى أن الأرض المروية والجافة كانت موجودة، الخطى الفقيرة المرهقة، كانت تتعثر في النصين، الميثولوجيا، التاريخ، الآثار، الأساطير الصغيرة والكبيرة، كل ذلك وجد، وإن كان بطريقة قد لا تشبع القارئ، ولكن تورطه في جوع كبير، حقيقة لم أكن كاتبًا ناجحًا في هذين النصين ونصين آخرين كتبتهما بعد ذلك بوحي من شرق السودان، بقدر ما كنت شاعرًا حاد قليلًا عن الدرب، لكنه ما زال موازيًا له، النصان نجحا نقديًا، ولم ينجحا على مستوى القراءة، وكانت القراءة في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن الماضي، هي الترفيه الأكثر توفرًا، لقد ذكرهما النقد بوصفهما من النصوص التجريبية التي تبشر بأعمال جادة مستقبلًا، وقال القراء: لم نفهم شيئًا، وربما لم يفهموا بالفعل، بالرغم من اقتناعي الشخصي، أنني قدمت نصين واضحين. تلك كانت تجربة طفا فيها المكان بشدة وصادر حق الشخوص في سرد الحكاية، وأظنني لو استمررت نابشًا لبيئة شمال السودان لكتبت أفضل بعد ذلك، لكني تركت تلك البيئة تمامًا، وذهبت إلى المكان الذي أعرفه أكثر، أي مكان النشأة الأولى، ومعظم أعمالي المعاصرة، كتبتها وإطارها مدينة بورتسودان أو مدينة طوكر، كما سيتضح ذلك في ما بعد.حقيقة بالرغم من أنني أعترف بالإطار البورتسوداني، وأجده واضحا في أعمالي المعاصرة مثل صائد اليرقات والعطر الفرنسي، و٣٦٦ واضحًا بكثير من المفردات مثل المقاهي والأحياء، والسينما، وإشارات لحوادث وقعت في المدينة، في الزمن الذي تدور فيه أحداث النص، إلا أنني نادرًا ما أكتب اسم المدينة، وغالبا لا أكتبه ولا أكتب اسم البلد ككل حتى، أنا مغرم بجعل المكان يشير إلى نفسه من دون أن أسميه، لذلك لن يخطئ أحد أبدًا وينسب النص إلى مكان غير السودان، ولن يكون صعبًا على السودانيين أن يتعرفوا إلى مدينة بورتسودان التي أخذ النص جغرافيتها، أو استلف من تلك الجغرافيا ما يهمه، والذين كتبوا عن ٣٦٦ مثلا، ذكروا ذلك، وتعرف كثيرون منهم على سينما الشعب القديمة، حين كانت تعرض فيلم جون ترافولتا حمى ليلة السبت، في الزمن الذي تدور فيه الأحداث، أي أواخر سبعينيات القرن الماضي، أيضا تعرفوا إلى موقف الباصات بأكشاكه الخشبية، وباعة الليمون والشعير، مثل محيى الدين، صاحب كشك الملتقى، وتعرفوا إلى أشجار المسكيت  أو السيسبان،التي تكثر في المدينة، وتشكل غابات في بعض الأحياء الجنوبية.إذن كان المرحوم بطل الرواية، يتحرك في بيئة موصوفة بدقة، لمدينة معروفة على أوسع نطاق. صحيح أن الأحياء لم تذكر بأسمائها الصريحة، لكن أفعال الأحياء الشعبية مثلًا،  وصفاتها وحفرها، وأزقتها واقتحام الخصوصيات فيها، من قبل السكان، يدل عليها، كذلك الأحياء التي صنفت راقية داخل النص، إنها أحياء موجودة  كما وصفت ببيوتها الكبيرة وحدائقها، وشوارعها الواسعة، والسيارات التي تقف أمامها. لقد كانت رواية ٣٦٦، محاولة كبرى في رأيي لاقتناص المكان الجغرافي وتوثيقه  وربطه بأحداث جرت ذات يوم، وكلما عدت إليها، تذكرت أيامًا خلت، وتذكرت معالم لم تعد موجودة الآن.


رواية ٣٦٦، - أمير تاج السر
رواية ٣٦٦

والشيء نفسه أجده في العطر الفرنسي، فلم يعد مقهى رامونا الراقي القديم موجودًا كما أعتقد، ونبتت مكانه بناية كبرى، أيضًا لم يعد سوق البطيخ، وأماكن تراص الإسكافية موجودًا وتحول إلى مكان للبنوك والشركات، وقد اختفى تمثال المحارب البيجاوي عثمان دقنة الذي كان في ركن واضح من حديقة البلدية، وكذا معالم كثيرة ذكرتها في النص، لم تعد على الخريطة الجغرافية الآن، وأحس بالسعادة أنها موجودة في نصوص مكتوبة ومنشورة، ولذلك دائمًا ما أقول إن الأدب، يوثق أكثر مما يوثق التاريخ.لقد كانت حادثة انقلاب العربة الأمنية، وفقدان عبد الله فرفار لساقه، حادثة حقيقية وأيضا في مدينتي الإطار، وكنت من الذين شاركوا في البتر داخل المستشفى، وسار النص بعد ذلك في المكان الجغرافي المتخيل، إنه مكان آخر سميته العاصمة، وليكن الخرطوم، فهناك تفاصيل كثيرة موجودة في النص وفي الواقع، لها علاقة بالخرطوم، وأيضا يمكن أن تكون تفاصيل بورتسودان موجودة، لم يكن الأمر يهمني كثيرًا وأنا أكتب، كان الهدف أن يكتب الجو السوداني العام لمدينة سودانية، تدور فيها أحداث سودانية، وإن كان الدكتور صلاح فضل، الناقد المصري، تحدث عن جو المقهى في صائد اليرقات، ووصفه بأنه جو لمقهى مصري، لأن السودان لم يعرف بمقاهيه الثقافية، وهنا أقول: ليس بالضرورة نقل الواقع كما هو، وإلا ما عاد الأدب خلقًا كما يسمى. وبمناسبة المستشفى، فقد زرته مؤخرًا ولم يكن هو المستشفى الذي عملت فيه، عنابر كثيرة أضيفت، تجديد واضح حدث في العنابر القديمة، وأولئك الخفراء الذين كانوا يحرسون البوابات بعناد ويمنعون الدخول إلا في الوقت المحدد للزيارة، ما عاد لهم وجود، ولدرجة أنني أحسست بالغربة فعلًا، ولم أستطع إكمال زيارتي، كان علي أن أبحث عن المستشفى  القديم داخل النصوص التي ذكرته فيها.رواية طقس الصادرة عن دار بلوميزبري منذ سنوات، اهتمت بالمكان أيضًا، وسمت بعض الشوارع والأحياء، والمستشفيات، هي قصة فيها جانب سايكولوجي، كان الغالب، لكن فقط أردت التنويه إلى الإطار البورتسوداني الذي كان واضحًا بالفعل.في أواخر التسعينيات، كتبت رواية اسمها صيد الحضرمية، إنها عن شخصية عاصرتها في مدينة طوكر أيام أن عملت مفتشا طبيًا بها، وكانت من البدايات الموغلة في الشعر، بالرغم من وضوح المكان الجاف، الصعب، المغبر بشدة، بذلك الغبار الأسطوري المسمى الإيتبيت، وأيضا وضوح الشخصيات التي بداخله، وفي فترة ما قريبة، أحسست بأنني لم أنصف تلك البلدة الصغيرة جيدًا، وأن نصي لم يكن بحجم أثرها، فأعدت كتابته من جديد في نص آخر اسمه اشتهاء، لم يحد عن الحكاية الأولى، فقط أعطى المكان الجغرافي وضعًا أفضل مما كان عليه سابقًا، ولي نص آخر عن البيئة نفسها، من نصوص البدايات، قد أعيد ترتيبه يومًا ما، إن عثرت على وقت ومزاج.

المدينة بصورة أوضح

عندي كتب سميتها سير، وهي سير فعلا، بمعنى أن الخيال فيها لم يكن موجودًا، وأي سطر حكي فيها، كان من الواقع الذي خبرته. قد يبدو الأمر غريبًا عند البعض، وقد يتساءلون عن شخصيات بعينها تبدو أقرب للأساطير، لكن الأمر هكذا، ودائمًا يوجد في الواقع ما هو أسطورة، أو ما هو يسعى ليصبح أسطورة، حتى الثرثرة والإشاعات التي يطلقها الناس، فيها بعض الفقرات التي تسعى لتصبح أساطير.لقد كتبت مرايا ساحلية عام ١٩٩٩، ونشرتها في بيروت أول الأمر، وكانت فترة منتقاة من ذاكرة طفل، عاشها أوائل السبعينيات، وهنا كتب المكان الجغرافي كما هو، بحلوه ومره، بحيله وعدم حيله، بسكونه واضطرابه، بالشخصيات الجيدة والشخصيات القذرة، بالمجانين والعقلاء، بالمتحرشين الذين كانوا يتراصون أمام السينما والمستشفى، وأماكن معينة في السوق، والآباء والأعمام الذين يمنحون الدفء في أي وقت. لقد كانت مرايا ساحلية- سيرة مبكرة كما سميتها، وأظنني لو وسعت فيها أكثر لكانت أفضل، فقط ألوم هوس الشعر الذي كان ما يزال مسيطرًا ذلك الوقت، وكتب النص بإشرافه.


كتب وروايات أمير تاج السر

وقد عدت مرة أخرى للسيرة واستلفت بورتسودان باسمها وأسماء أحيائها لأكتب قلم زينب، سيرة المحتال إدريس علي مع الطبيب الذي افتتح عيادة في حي النور، أو ديم النور كما يسمى بالعامية، لقد كنت أنا الطبيب العائد من مصر، بعد إكمال دراسته، والعيادة هي عيادتي، وإدريس وغيره من الشخصيات، احتككت بها زمانًا، أو بما يكفي لكتابة سيرة. هنا ذكرت المدينة بكل ما فيها كما قلت، وأيضا ذكرت أشخاصًا كانوا موجودين في تلك الأيام بأسمائهم منهم الممرض عز الدين الذي كان يملك العيادة ويعمل فيها، والهندي (برد) الذي اشتريت منه مولد الكهرباء، وآخرين غيرهما.ولأن فترة طوكر كانت خصبة جدًا، فقد جاءت تلك النصوص الحقيقية، مؤطرة لها بصورة واضحة وصريحة، إنها نصوص الوجع في كتاب سيرة الوجع، أحد أنجح كتبي، وقد وضح لي شغف الناس بقراءة السير، التي ربما يعثرون فيها على شيء ممتع أو مفيد.الآن عندي سيرة سميتها تاكيكارديا، أي زيادة دقات القلب، وكانت عن أيام عملي في قسم النساء والتوليد بالمستشفى، مساعدًا للراحل دكتور توم حامد، هنا كتبت كل شيء عن تلك الفترة، وأظنني ركزت على المكان أيضًا، كان قسم النساء والتوليد مكانًا مميزًا في مستشفى قديم في مدينة تخرج إلى شوارعها الأحداث الموصوفة في السيرة، تاكيكارديا نشر ٢٠١٩ وأظنه إضافة مبهجة لي، ونصًا قضيت فيه شهرين كاملين في كتابة يومية.

المكان التاريخي

لقد كتبت عددًا من الروايات التاريخية، أو لأقل الروايات المستوحاة من التاريخ من دون أن يكون ثمة تاريخ حقيقي حدث لأي شخصية ذكرتها. إنها روايات لأمكنة مخترعة أو أمكنة خيالية لكنها مملؤة بحوادث تحولها إلى أماكن حقيقية، وهذا يقودنا للحديث عن المكان المتخيل، وبتعريفي البسيط، هو مكان يمتلك شروط المكان الجغرافي ويستطيع ضم الحكاية واحتضانها حتى تثمر، ويمكن أن يوجد في أي وقت، وعادة حين أكتب مثل هذه الأعمال، اقرأ الفترة التاريخية التي أريد العمل عليها جيدًا، أتشبع بالأمكنة القديمة وروائحها ومعطياتها كاملة، وحتى بالمجتمع والناس، وأكتب بعد ذلك، وأظن مهر الصياح، التي تدور أحداثها في سلطنة أنسابة المتخيلة، والتي أعدها من أهم نصوصي، وتوترات القبطي عن فترة تاريخية معينة من دون تدخل في التاريخ الحقيقي، ورعشات الجنوب عن جنوب السودان في فترة قديمة، كلها أمثلة عن المكان الموجود في النص، ويمكن أن يكون في الواقع، وأعتقد أن مثل هذه الكتابة لها صعوبتها القصوى، ومن الممكن جدًا أن يسهو الكاتب فيصيغ حدثًا معاصرًا بوصفه حدثًا تاريخيًا. وكانت آخر أعمالي المستوحاة من التاريخ، رواية سيرة مختصرة للظلام، وتتحدث عن حداد أصبح وزيرًا للثقافة، في مكان متخيل، في زمن متخيل، هي واحدة من الروايات الساخرة، لكنها استطاعت إيصال الفكرة كما أردتها.أخيرًا، كانت هذه شهادة مختصرة عن تأثير المكان على النصوص الروائية، وعلى تجربتي في هذا الخصوص، وقد ذكرت أن مكان النشأة الأولى هو الأكثر تأثيرًا من أمكنة أخرى قد يكون عاش فيها الكاتب، إنه المكان الذي سيحتضن كتابته وهي تحبو وفي الغالب تكبر وهي في أحضانه، قد تأتي أماكن أخرى، لكنها تذهب، ويبقى المكان الأول، المكان الوطن.

 

 

 

 

 

 

٠ تعليق

Comentarios


bottom of page