إستبرق أحمد: احتمالات الفيض والغيض في الكتابة
الكويت
ما قبل فض أختام هذه الشهادة
لا أدعي أيها القاريء الصدق في كل ما سطرت، فالمحو في الكتابة والذاكرة لهما أفاعيلهما الغريبة والكتابة في الأصل مراوغة.أنا فقط أحشو دمية الحكاية بقطن صور غائمة، فاقرأ وأنت تعي: أنني نسخ كثيرة مني، آتي غالبًا متأخرة خطوتين ، ومازلت أظن بسذاجة عالية أنه تبقى لي وقت كثير للكتابة.
الكلمة، الجنينسلامًا عليك أيتها الكلمة التي ظلت تؤانسني 3 شهور.مثل دمغة وضعت سرها فيّ وحجبت دمعة. أعرف أنها هبطت في جوف أمي بعد انزلاق غاليتي على بلاط بارد فسقطتُ بالصمت وانزويت. استفحلت الوساوس في روح والدتي، فتحت عيني لسبب ما، وجدتها كائنًا أليفًا يحدق بي، أخبرتني بصوت رصين اسمها "الكلمة"، ستهرع لي دومًا في أحوالي ومآلي. شجعتني على الخروج من كمين الخرس وقالت "لا يليق بك"، رأت أسئلتي ماثلة، قلقة، فربتت على أكتافها وأكدت أنها ستكون لي طريق وطريقة، سردت أحداث عن أناس يعشقون الحرف، يحبون الحكي ويحفرون مكامن العزلة وإني منهم. في الشهر الأخير، أمسكت بيدها لكنها أهدتني الصرخة فانزلقت طفلة نحيلة جدًا، كلما رآها جدها قال ستموت فأنجتها كلمة العناد ونمت صحتها.هكذا صارت الكلمة دائما تنقذني..
المتسع..
يا أسرتي يا فكرتي عن الحب.قذفت فرحة أولى، أول الأبناء، أواجه الصواب والأخطاء المرتكبة في ارتجالات التربية وبروتوكولاتها، جاور الدلال العظيم الطموحات الكبيرة وكانت ذراعا القراءة تحاوطني بالدفء والود الباهر.كم لمحت الكلمة كثيرًا تلتمع، تتأملني، تخطر في مجلة أحضرها والدي أو أحيانا تمشي في شوارع جوثام ووراء ظهر باتمان، أو تحشر رأسها في خطط الزعيم "خليل توفيق خليل توفيق" الملقب بتختخ قائد المغامرون الخمسة في المعادي وضواحيها أو تقف بجانب ماما منال في مجلة سعد. أكبرُ قليلًا فتظهر مكتبة والدي ولها نصيب الأسد، في التهام اليومي العادي ووضعي في عرين الكتب المشوّقة. لأجد الروايات المصرية نتيجة لدراسة والدي الجامعية مع روايات مترجمة رومانسية يزينها توقيعه بخطه الباهر الذي لم أرثه. والمزيد من دواوين نزار قباني و يعقوب السبيعي، وأشرطة الفرق الغربية، كآبا السويدية أو البوني إم، وعبدالحليم وعوض الدوخي الذي كان يحتل ذوقه في مشوارنا العائلي يوم الجمعة، فأحببت التنويعات الغنائية ولم أستسغ الدوخي .كل هذه التأثيرات و التراكمات أوقدت النار المقدسة، جعلتني أرسم، اقرأ كثيفًا، أما جاذبية الكتابة فمن مغناطيس "كل فتاة بأبيها معجبة" فكنت بشكل واعٍ وربما لا واعٍ أقلده فأكتب الشعر مثله، في سن ال12 جنحت مرة للسرد عبر نص لم يتجاوز الصفحات القليلة ويبدأ بجملة "كانت هناك ثلاث فتيات" هاربات في قطار لم ولن يصلن لوجهتهن في نص لم يكتمل.
10 سنابل عجاف يتبعها حصاد المصادفات.
ورحل والدي بحادث مروري مفجع. علّق أسئلة كثيرة على مشجب الحزن، إحداها تساؤل إن كان كاتبًا جيدًا؟ مستذكرة موقف الكاتب أورهان باموق مع والده، حين أعطاه حقيبة مليئة بأعماله ليقيمها. باموق الذي ارتاح حين عرف الإجابة بينما لم أجد ذلك أو أمسكه على وجه اليقين معه، إذ رأيت في سن صغيرة أن أشعار والدي في دفاتره بها حلاوة، وقرأت في سن الثامنة عشرة عند وفاته المزيد منها، وفاجأني بعد غيابه اكتشافي لجدتي الشاعرة الشفوية في مرارة فقده، أو انتبهت متأخرة لكونها تقول القصيدة، و سجلت لها لقاءً في شريط تسجيل، وكلاهما الدفاتر الصغيرة و التسجيل اختفيا في ضربة إهمال عظيمة ما زلت أسمع موج الندم صاخبًا في نفسي، وضاعف ألمي أنني لولا طفولة وعيي آنذاك لوصلت للإجابة. ـ غرقنا عشر سنوات في أسى غيابه، لملمت أمي غيبوبتنا العميقة، تسند نفسها من هول الفقد، وتعيننا وتدفعنا لليقظة والوفاء لأحلامنا، بحنانها الطاغي و تحفيزها. تعد هذه المرحلة الفراغية في حياتي رغم ذلك منجزة في الأهداف المتمثلة بالدراسة والوظيفة، مثل عموم البشر دون اقتراب أو طموحات في نداء آلهات الإلهام في الرسم والكتابة المركونين. وأظن الكلمة لم تسمح بهجرها أكثر، إذ تدخلت عبر القراءات والنصوص المحفزة، بينما اللون لم يجذبن له مجددًا إلاّ لمدة وجيزة وانصرف عني لاحقًا.استغرقت في أحاديثي مع الكلمة لتنقذني من الخرس والجمود، فأنبتت حدائق صغيرة للتساؤل، بها ورد وريحان وعرفج وكف مريم ونوير، خلقت واحة ودوحة وارفة الظل والثمر، أدت لتشعب الكلمة بالأعماق تمتص آبار الأسئلة الوجودية وكل غصن بها يكرر.. ثم ماذا؟ أولى المصادفات حين عدت للكتابة عبر موقع إماراتي بعنوان"شروق" باسم مستعار يدعى "منيرفا" آلهة الحكمة التي ولدت من رأس أبيها "زيوس"، وبمصادفة أولى كان أحد زملائي في العمل يكتب فيه وتحمس جدًا لنصوصي، طالبني بالاستمرار فأحسست بالثقة، تبعتها سريعًا مصادفة ثانية عندما شجعني أحد أعضاء منتدى المبدعين للانضمام، ولم أكن بعد قاربت فن القصة القصيرة عشقي الأول، فكتاباتي تشبه الشعر، أكره بها البحور وأميل للنثر، أدهشت البعض لكنها تظل محاولات بدائية.في منتدى المبدعين لرابطة الأدباء وملتقى الثلاثاء تعرفت على أسماء رائعة، وجدت التجارب الجادة المتنوعة. ذهبت بأوراقي فقيل إن لها روح القصة، حدقت بها فوجدت الكلمة تعرفني عليها وأدركت أنها شغفي الحر، عاينت معها الفرص الذهبية والقفزات الكتابية والجوائز، وبالرغم من ذلك تعاملت مع الكتابة بإطار الهواية ووضعت مبررات واهية بسبب حساسيتي ومخاوفي، على الخصوص لأنني شققت شرنقتي توًا ومشيت في طريق الشك، دون أن أفلت عصا فكرة "الكمال" المعطّلة للمشاريع، والتي أرهقت الفنانة في نص زوسكيند نفسها للوصول للعمق فانتحرت، تمسكت بقول بورخيس ذو العمى الأصفر بأنه قاريء أكثر منه كاتب، كما أربكني تلون العلاقات وخفوت الصداقات، فآمنت بضرورة أن أحاول ألاّ أخسر نفسي ولا صوت نصي وبالرغم من ذلك لم أكن ملاكًا ولا جنديًا منضبطُا وملتزمًا في طريق الكتابة وحدها.السلحفاة والجديمررت بين مراحل لهاث البطء وأطوار الركض أيضًا، مضيت سلحفاةً في التعاطي مع الكتابة، مابين إقدام و شجاعة النشر وإحجام وانتظار يطول أحيانًا، وجدتني بين فترة وأخرى أقف أمام مرآة ذاتي وأعيد تنظيم أولوياتي، أزيح كرات الصوف التي تتشابك وأجذب خيوطها في ذات الوقت وأنسج، هكذا نهرق ونرهق الأحبار.
أقع، أقف وأبحث، متحاشية الضجيج وغباره، أستمر، تزداد عناوين كتبي، ابتسم، أساعد، وأتجاهل، أتشبت برؤيتي لماهية الكلمة وكيفية رفقتها. كنت امرأة الجدي التي غادرت قوقعة السلحفاة وخطوتها، تحسست طريقي بحافر من حذر يواجه فشل حدسي المريع، باحثة عن المزيد من الصبر أستعين به في رهانات جديدة، أراقبني وأنا أفكك أسئلتي وترددي وخجلي و تحولات الكلمة وتطورها وأزمنتها، موازنة بين كتابة ما أحب والإنصات للآراء الزاخرة بالفائدة، تتقاطع معي صداقات مبهرة تضيف ولا تعرقل، أدفع للقارئ سفن القص والنصوص المفتوحة و أخيرًا أدب الناشئة الذي له حكاية عجيبة وطويلة خاصة من ناحية بهجة تجاور وتحاور لوحات الصديقة الفنانة إيناس عمارة فيه، واخترت السفر معرفة أخرى مؤثرة على المستوى الشخصي والكتابي، أتجول وأسعد برؤية عوالم أخرى أو ما بقي منها، لا أكتب من معين ضرورة وجود ألم وشقاء مضنٍ أدعيه وأتكوّر فيه كما ينادي البعض، إنما من واقع أن العالم بائس حد السخرية منه والضحك عليه لذا أرصده وأكتب أكتب أكتب، أكتب...
Comments