د. إبراهيم طلحة: إضافة إلى نسق السرد: ذكريات البرام في (ملاذ آدم).. اشتعال إبداعي تنويري واشتغال روائي استثنائي
الأدب بقالبيه الشعري والنثري، يتشكل اليوم في نسيج متماهٍ متناهٍ منفتحٍ على عوالم ما وراء النصوص.
وقد يكون التذكير بنماذج وأعمال منتمية إلى صنف (النص المفتوح) مساعدًا لنا على فهم القوالب المعاصرة للكتابة الأدبية، ونقول تذكيرًا: لعلَّ من المعروف أنَّ العمل الروائي بطبيعته عبارة عن مغامرة تتطلب شجاعة أدبية من نوع خاص؛ كونه يتناول تشكيلات المجتمع ويحاول استقراءها، من حيث المنظومات الدينية والاجتماعية والسياسية والثقافية المعقّدة، ما يعني احتمال اصطدام الأديب بمعتقدات ومسلَّمات راسخة في الوعي الجمعي، أو كما تُسمَّى (تابوهات)، لا يخلو المساس بها من المخاطرة والحساسية المفرطة، بل قد يؤدي إلى عواقب وخيمة، وهذا يستدعي أدوات معالجة دقيقة وإمكانيات كتابية عالية، وهو ما يمكن التأكيد أن الروائية اليمنية الشابة ذكريات البرام امتلكته بكفاءةٍ واقتدار.
ورواية (ملاذ آدم) أو (رفيقات القات والدُّخان) للبرام، الآنسة ذكريات، استقراء احترافي للوسط النسائي واشتغال استثنائي في العمل الروائي.
تحمل الرواية عنوانًا مزدوجًا من شقّيْنِ كما هو واضح؛ لتشابُك موضوع الفكرة الأساسية مع معادِلات موضوعية أخرى، كما يدل هذا العنوان المزدوج على ثنائيات كثيرة في طياته، منها: آدم وحواء، الرجُل والمرأة، الولد والبنت، الفرد والمجتمع، الأرض والإنسان، الحقيقة والخيال، الوجودُ والعدم، الحضور والغياب... إلخ.
وقد تشابَك في ثنايا الرواية أكثر من شكلٍ ذي طابعٍ ثُنائيّ من قبيل: الذاتية والموضوعية، الأنا ونحن، الواقع والافتراضي، اليقين والشك، الذُّكورية والنسوية، وخرجنا بعمل يستكنه مكنونات النفس البشرية بكل مستويات اختلافها وبكل تقلباتها وتناقضاتها.
هذه الرواية مختلفة نوعًا ما في شكل التحشيد الكتابي الخاص بها والأدوات الفنية المستعملة، وهي ليست رواية فحسب، كما توضح ذلك الكاتبة في ناصية روايتها؛ حيث إن العمل اشتمل على رؤية فكرية تنويرية، وتكامَلَ لغةً وأسلوبًا مع التفريعات الكتابية الأخرى كالشعر والمقامة والمقالة والمنشور، فقد جاء العمل متَّسمًا بنفَس شاعري خاص وتماهى مع المراجع والإحالات الثقافية، وكان للسوشيال ميديا بلغتها المحايثة حضورٌ فيه.
وعمومًا ربما يمكن القول: إن العمل استطاع أن يقتحم عوالم المسكوت عنه بذكاء، وأن يعالج أشكال القُبح في المجتمع بأسلوب جميل، وتلك هي أهمُّ مهامِّ الكاتب، إذْ ما هي مهمَّة الكاتب إن لم يتناول ما في المجتمع من ظواهر قبيحة بطريقة جميلة؟!!
يُحسَبُ لكاتبتنا الفذة ذكريات البرام اعتدادها بقيمة المرأة/ الأنثى، في المجتمع، وهذا بخلاف كثيرات ممن يتناولن قيمة المرأة من زاوية مظلوميتها فقط، ويتذمّرن من سيطرة الرجل في المجتمع الذكوري.. لقد تجاوزت ذكريات البرام هذه العُقدة وتعدَّتها إلى تفسيراتٍ مردُّها إلى النظريات العلمية والطبائع الإنسانية، بما يبقي لكل منهما الفضل والقيمة والدور وفق مفاهيم حضارية تنظر للمقاصد.
إلى ذلك، نلاحظ ما يمكن تسميته تناسخ الشخصيات في فصول الرواية بما يشبه تناسخ الأرواح في ثقافات عديدة، لتعزز بذلك فكرة وسطية خليقة الإنسان بين الملائكية والشيطانية، فلا هو ملاك كريم ولا هو شيطان رجيم، وإنما بشر يصيب ويخطئ، ويزهد ويطمع، ويوقن ويشك، ويشتهي ولا يشتهي...
رواية في مضمونها لا تكتفي بمخاطبة قارئ واحد، بل تخاطب عوالم مختلفة من القُرَّاء، وتتفوَّق على شرائح مختلفة من الكُتَّاب، وإنْ لم تخلُ من نزعة التَّمرُّد .
في الرّواية أيضًا، استطلاع موازٍ لأحداث ومُجْرَيات ووقائع ومستجدات واكبتها الكاتبة مضافة إلى ما كانت قد عايشته في مجتمعها من قبلُ على مدار ربع قرن.
أما الزمن في الرواية فتناوب عليه الماضي الذي بدا أنه مرَّ سريعًا والحاضر الذي يبدو أنه يمشي بطيئًا، ربما لتضع الكاتبة قُرَّاءَها أمام نص مفتوح يشبه نصوص العوالم الافتراضية، في الفيس والواتس والأنستا وغيرها وكأننا أمام مستقبلٍ اصطناعيٍّ نحن من نرسمه عن وعي أو من غير وعي.
وأنت تتفيّأ في ظلال رواية (ملاذ آدم) لذكريات البرام، وتتنقل بين سطورها مستمتعًا برحلة عبر محطات عديدة، من مطارات عربية إلى مطارات أمريكا وأوروبا، لا تملك إلا أن تعود منك إليك مندهشًا، وتستمتع بقراءة ما لك وما عليك مقتنعًا، فقد رأيت رأي العين ما ترى كل يوم ولا تستطيع وصفه، فجاءت الكاتبة لتصفه هي نيابةً عنك وعن مجتمع كامل، بأسلوب إبداعي استثنائي فريد، وما الإبداع إلا أن نحوّل الشيء العادي إلى شيء غير عادي، ونحاول الإتيان بالجديد ي ظل استفحال عبارة: لا جديد!!
وإجمالًا نقول: إنَّ رواية (ملاذ آدم) ـ (رفيقات القات والدُّخان).. فعلًا ليست مجرد رواية كما تقول ذكريات البرام في مطلع استهلالها الجميل.. بل إنها بتجلياتها زلزال وجداني بِبُعدٍ إنساني.. وهكذا عندما تشعل أنامل الجميلات ثورة فكرية وثقافية واجتماعية حقيقية.
ذكريات البرام في (ملاذ آدم).. اشتعال إبداعي تنويري واشتغال روائي استثنائي
Comments