الفرن الملعون - محمد فيض - مصر - قصة قصيرة
يَتبَاهى "مسعود الفنجري" في ثقةٍ مُفِرطة، يُمصمصُ شَفتيِه في الأخيرِ، ليقول:"العبد لله أول من أدخلَ الكنافة لقريتناالمنّحوسة"، تلك حقيقة لا ريبَ فيها، فالقرية لم تَعهد مثل هذا من أصنافِ التَّرفيهِ، وأهلها أبعدَ ما يكونون عن مَظاهرِ التَّرفِ، التي يعتقدون جهلًا وبهتانًا، أنَّها تُفسِد عليهم أخلاقهم، بل وتُنافي مظاهر الخُشونة التي تَدوم بها النِّعم.
لكنَّ للأمانةِ استطاعَ "مسعود" التَّمرد على تلك التَّقاليد البالية، وكَسرَ عُرفَ الأولين والآخرين، واستجابَ لنوازعَ الغريزة التي تَدفع الضِّعافَ دفعًا من بني الإنسان، أن يذوقوا النَّعيم، حَتّى وإن مَسوه مسَّا.
هَبَّ من نَومهِ ذَاتَ صبيحةٍ والعزم يَملأه على غَيرِ العَادةِ، جَهز حماره قاصدًا "كوم الأشراف" وهي قريةٌ كبيرة، مَشت في أهلها رُوح التَّحضر، وفي معايشهم تقاليع المدنية والأُبهةِ، فتعاطوا في مآكلهم ومشربهم ما لم يسبقهم إليه أحدٌ، أُضيئت منازلهم بالكَهرباءِ، وامتلأت بالدَّكاكينِ التي اكتظَّت أرففها بصُنوفِ البضائع المَجلوبة من البَندرِ، وعَرفَ بناتهم طريقًا للمدارسِ والجامعات، في هَاتهِ الأثناء لم يَكن ليَخطُر على بَالِ أحدٍ من دهماءِ القرية، أن يَفزعَ صَاحبنا مثل فزعته هذه، التي تَوقدت فيها حَماسته، فمع كُلّ يَومٍ يَتردَّدُ على "مرتضى عبده"، صَاحب فرن الكُنافة الأشهر في الزِّمام، يُقسِّمُ الرجل برأس جده، أن يكشف له السِّر، ويُطلِعُه على ما خَفي من مَخبوءِ المِهنِة، يتَذكَّر جيدًا زمالتهما أيام العسكرية، يُديرُ يده بكُوزِ العجين فوقَ الصَّاجةِ، يقول في ابتهاجٍ وقد تَهلَّلَ وجهه: "كان مسعود رجلًا بمعنى الكلمة، وعشرة عمر وابن أصول"، وحسب المُقرَّر وبعد أسبوعٍ بالتمام، بُني أولَ أفرانِ القرية، ودارت يد "مسعود" بكُوزِ العَجينِ، وامتلأ على إثر ذلك الدربَ بدخانِ البُوصِ والَحطب، واختلط مُنذ الصَّباح ضَجيج النساء وثرثرتهن ببُكاءِ الصّغار وتلهيهم من حوله، لا تُطفأ ناره من المشرقِ حتى المغَيبِ، فاضت البيوت بعجينهِ الشَّهي الذي طيّبته النار، وذَاقَ الناس الكنافة المحلاة بشرباتِ الورد، ليصبح ومن بعدها له الحظوة والقبول، يتزايد زبائنه في كُلِّ يومٍ، شَدَّوا إليه رِحالهم أسَرابًا من كلّ صَوبٍ، يَحملونَ دقيقهم، تَراكم الحَطب ليَغرق السَّاحة، وتَراقصت ألسنة الدُّخان الأبيض في عَبثٍ، على وقَعِ دندنة صوته النُّحاسيّ الخَشن. بدا المَشهدُ غَريبًا عن المكان الذي ظَلَّ دهرًا، لا يعرف أهله من شؤون الدنيا غَيرَ فلِاحة الأرض والطّين، فلم يذوقوا من متعها غير ما يُقوّي أبدانهم على حَملِ الفأس.
انتعشت أحوال الرجل وجرى القرش في يدهِ، واُضيئت يد زوجته المتُصابية بأساورَ من ذهبٍ، وبَرقت عيون صغاره بالنِّعمة، بعدما جرت الدماء في وجوههم، وتبدلوا من بعد ضعف قوة.
لكن ما أسرعَ انتكاسة الحَال وتبدلها، لم يتوقع أحدٌ يومًا؛ أن تَسوء الأمور لهذهِ الدَرجِة، عندما صَحت القرية مَفزوعة على ألسنِة النَّيران، وقد التهمت أكوامَ الحطب في غَضبٍ، حاصرت المنازلَ القريبة لتأتي عليها في ثَوانٍ، اضَطربَ الناس وزلزلوا زلزالًا شديدًا، وتَطاير الرَّمادُ في فوضى يعابث الوجوه، وانفجرت سُحب الدخان لتُغطّي كلّ شِبرٍ بطبقٍة سوداء كئيبة، ووسط أهوال القيامة، تَنادى الناس في اهتياجٍ، وتَحركت ألسنتهم في غضبٍ تلعن "مسعود" المشؤوم الذي جرّ الخراب إليهم، وَروّعَ قريتهم المطمئنة. بقي الرجل في ذُهولهِ لا يصدق ما جرى، يُطاِلعُ بعين الأسف الفرنَ الذي أذابت المياه طينه، وجرفت ركامه، فتركته وحَلًا تدوسه الأقدام، وكأنّه لم يغن بالأمسِ، بعدَ أيامٍ لملَمت القرية أحزانَ الأمسِ وجراحه، بيد أنَّ لعنة الفُرن لا تزال حاضرةً تُحاصِر الرؤوس، تدور في كُلِّ ناديٍ، وبَقي "مسعود" نَذيرُ شرٍّ، وعَادت الحياة لسَابقِ عهدها من القَسوة والجَفاف، وكُلَّما تَشهّى صغيرٌ الكنافة، ذكَّرته أمه بالماضي الأليم، لتذهب بكُلّ لذٍة.
Comments