top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

بان الشمري: خيط رفيع - قصة قصيرة


القاصة بان الشمري - العراق
القاصة بان الشمري - العراق

بان الشمري: خيط رفيع - قصة قصيرة

العراق

طرقت باب المنزل طويلاً فلم يفتح لها. عندها اضطرت لاستخدام نسخة المفتاح الاحتياطي الذي وجدته تحت السنديانة قرب نافذة المطبخ.كان المنزل هادئاً جداً وكأنه مهجور. لا أثر للحياة فيه. فتحت باب غرفته المُظلِمة فضربت أنفها رائحة الرطوبة ودخان السجائر. كانت رائحة المكان كريهة عَفِنة لا تُطاق فغطّت أنفها بالمنديل. أيعقل أنها ستجده هنا على قَيْد الحياة؟

جالت بنظرها في أرجاء الغرفة حتى وجدته جالِساً على الأريكة الصغيرة في الزاوية بعيداً عن النافذة. بدا لها كشبحٍ في حال سكون لا هدف لديه في إخافة المزيد من البشر الأحياء. ساعدها خيط رفيع من شُعاع الضوء النافِذ بين الستارة لرؤية طريقها، اقتربت منه وقد شعرت بوخزةٍ في صدرها، فقد آلمها المشهد بشدَّة. لم تتوقَّع أن تراه على هذه الحال أبداً. وقفت أمامه وتمعَّنت في ذلك الوجه الشاحِب المكسو بلحيةٍ طويلةٍ مُهْملَةٍ وهالتين سوداوين تحت عينيه اللتين لم تحزر لونهما يوماً، وكانتا سبباً في تسارُع دقّات قلبها. ها هو الآن يعلم بوجودها قُربه من دون أن ينطق بكلمةٍ أو يرفع رأسه لينظر إليها بلهفةٍ وشوقٍ كما في السابق. شعرت بالخيبة وهي تتحوّل داخلها إلى غضبٍ ورغبةٍ بتمزيق ستارة النافذة وخطف السيجارة من بين أصابع يده ودَعْسها ثم صفعه على وجهه!


لوحة قلب بنصف أزرق ونصف أحمر

-  حسناً، يمكنني تجاوز فقرة الترحيب بقدومي، هل لديك شيئاً لأشربه؟

-  لماذا أتيتِ؟

- تعرف جيّداً لماذا أتيت، وأعتقد أنك تعرف أيضاً ما أريد قوله.

- جيّد، لنقفز إذاً إلى نهاية اللقاء ما دمت أعرف وتعرفين أنه لا جدوى من الحديث أساساً، ولا تنسي إغلاق الباب خلفك.

مدَّت يدها لتأخذ السيجارة فأمسك بمِعصَمِها وشدّ عليه بقوّةٍ حتى آلمها. انتبه إلى ردّة فعله العنيفة بعدما سمع أنينها فأرخى قبضته وقال بصوتٍ خافِت:

-  آسف لم أقصد أن أؤلمك.

-  هل تعني بأنك لم تقصد فعل كل هذا؟

أفلت يدها وأخذ يُدخِّن سيجارته بعصبيّةٍ ثم قال:

-  أرجوك لا تزيدي مُعاناتي.. اتركيني فأنا لم أعد أنفع لشيء، انسيني واكملي حياتك كأني لم أكن..

-  لماذا عدت إذن يا (جون)؟

ارتجف صوتها فجثت على ركبتيها ووضعت يديها فوق ساقيه ثم أردفت قائلة وهي تُمسِك يده برقّة:

-  أنظر إليّ.. أرجوك لا تهرب بعينيك وأنظر إليّ فقط، لم أطلب منك يوماً طلباً مُستحيلاً أنت تعلم ذلك جيّداً، ولم أعد أريد شيئاً سوى أن تبقى بجانبي، هل أصبح هذا الطلب مُستحيلاً الآن؟

 

-  نعم مُستحيل.. كل شيء أصبح مُستحيلاً، لا تتفاجئي وتستنكري ما أقول وأفعل فلن يتغيَّر شيء، لن تعود علاقتنا كالسابق ولن أفتح هاتفي لأُجيب على مُكالماتك. ألا ترين بأننا لم نعد نحصل على ما نريد ولم تعد الأمنيات تكفي. فهي تستهلك وقتنا وطاقتنا فقط كأننا عبيد لديها!

تستعبدنا الأمنيات ويصفعنا الواقع بسوطه فنرتمي تحت رحمة القَدَر .. بالنسبة لي الحياة أصبحت عبارة عن سجنٍ نتعذَّب به حتى الممات.

اغرورقت عيناها بالدموع وبدأت تتساقط بصمتٍ، وخانتها قوَّتها التي حرصت على استجماعها والتمسّك بها طوال طريق قدومها إلى منزله؛ فقد كانت واثقة بأنها ستحتاج إليها لمواجهة رياح اليأس التي ستهبّ عليها من باب أملها الوحيد.

-  ألم تفهميني بعد يا (تولين)؟ لا أريدك أن تتعذّبي معي، أنا اخترت سجني الانفرادي الذي سأتعذَّب فيه لوحدي، رؤيتك وسماع صوتك سيصعب عليّ الأمر.. أرجوكِ.

-  ووعودنا؟ وعدتك بأني لن أتركك أبداً، وأنت.. أنت وعدتني بأنك ستبقى بجانبي وستكون سنداً لي. ألم تقل لي ذلك؟

-  أجل قلت ولكني لم أعد أصلح لأكون سَنَداً لأحد، لن أستطيع أن أفعل شيئاً جيّداً، فكل ما تطاله يدي ينقلب إلى خراب، لن أتمكَّن من إسعادك ولن تنالي مني سوى الألم.

-  كفى.. يكفي ما تفعله. أنت مَن وضعت نفسك في هذا السجن. أنت مَن يريد العذاب وكأنك تُعاقِب نفسك على كل شيء عشته. لقد كان قدره يا جون. لم يكن بيدك فعل شيء لإنقاذه. لقد كنت معه في السيارة حينها وكاد أن يكون مصيركما واحداً. اللوم والندم لن يُعيداه إلى الحياة!

-  لا لن يُعيداه، لكني أستحق العِقاب. كيف لي أن أعيش ما تبقَّى من عُمري سعيداً وكأن شيئاً لم يحدث، وكأن أخي قد سافر إلى بلادٍ بعيدةٍ كما يُخبِرون الأطفال الصِغار عندما يموت أحد أفراد عائلتهم!

 

-  مرّت سنتان على الحادثة. كنت أعتقد بأنها كافية لتعتاد وتحاول المُضيّ في حياتك كما يفعل الآخرون. حاولت أن أقف معك وأمنحك القوَّة كما كنت أفعل في جميع أزماتك ولكنك هربت مني قبل أن أراك. حتى الطبيب وقتها لم يسمح لي بزيارتك. كان يُطمّئنني أنك بخير وتحتاج للراحة فقط. لم أجد لك عنواناً بعدها حتى وصلني خبر عودتك إلى المنزل، فشعرت بقدمي وهي تسرع الخُطى لتصل إليك، لكنك ما زلت لا تكفّ عن إلقائي بعيدًا عنك.

- وأنا اعتقدت بأن عامين مدة كافية لتنسيني وتمضي في حياتك.

- سنوات عُمري بأكملها لن تُنسيني إيّاك ..

نهضت تولين ونفضت ثوبها ثم مسحت دموعها بعصبيّةٍ وأردفت قائلة: إن احتجتني فأنت تعرف مكاني. 

ثم غادرت الغرفة تاركةً إيَّاه مع حقل الأفكار السلبية الذي يشلّ حركته بصعقاته المُتتالية، لقد شعر برغبةٍ عارمةٍ في اللحاق بها وضمّها إلى صدره بقوَّة.

بخطواتٍ بطيئةٍ أخذ عصاه وراح يضرب بها الأرض ثم تلمَّس الجدار حتى وصل إلى النافذة وأغمض عينيه وقال: ليتني استطعت رؤية وجهك للمرة الأخيرة يا حبيبتي.

 

 

 

٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page