top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

حسن المقداد: البحثُ عن السرِّ الكامل... محطّاتٌ في رحلةِ التّرجمة العربيّة


حسن المقداد - لبنان
حسن المقداد - لبنان

حسن المقداد: البحثُ عن السرِّ الكامل... محطّاتٌ في رحلةِ التّرجمة العربيّة - يصلُ المطّلعُ على تاريخِ الحضارة، مواسمِ هجرتِها وانتقالِها وصعودِها وهبوطِها، إلى أنَّ حركة الترجمة في أمّةٍ من الأمم، تعدُّ مرجعيّةً ملائمة لقياس تقدّمِ هذه الأمّة وقدرتها على التواصلِ والتفاعلِ والتكيّف.

بل إنّ النماذجَ التاريخيّة المتواترة تشيرُ إلى أنَّ تفعيلَ حركةِ الترجمةِ يعدُّ لبنةً أولى مؤسِّسةً لصعودٍ حضاريٍّ متين، ولعلَّ ترجمة العرب بعد الإسلام لعلوم الإغريق وفلسفتهم - ما أسهم في رفدِ نهضتهم الحضاريّة - وترجمة الغرب في فترة الأندلس لعلوم العرب وكلامهم - ما فتح الأبواب لخروجهم من عصر الظلمات - نموذجانِ على ما للترجمة من حضورٍ كثيفٍ في بنية الحضارة وتاريخِها.

غير بعيدٍ عن هذا، يذهبُ الفيلسوف الألماني (هانز جورج جدامر) إلى أنَّ "عمليّة الترجمة تتضمّنُ في جوهرها السِّر الكامل لفهم الإنسان للعالم"، وغيرَ بعيدٍ عن هذا، هذه المساحةُ ستكون رحلةً لتعرُّفِ ثلاثةٍ من المترجمين العرب الذين بحثوا عن هذا السرِّ الكامل في فتراتٍ تاريخيّةٍ مختلفة، وأسهموا في رفد المكتبةِ العربيّةِ بالمُهم والمؤسِّس من مكتباتِ لغاتٍ أخرى، على أن تكون الرّحلةُ مخصّصةً للتّرجمات الأدبيّةِ لا العلميّة.

ولأنَّ الترجمةَ قد تكونُ قشّةَ خلاصٍ في واقعنا العربيِّ الراهن، نطلُّ على وضعها ومآلاتها آخرَ رحلتنا، مع مترجمٍ شابٍّ يملكُ رؤيتهُ وأفكاره وآماله.

ستة وثلاثون عامًا فقط عاشها روزبه بن ذادويه (٧٢٤-٧٥٩م) المعروف في التاريخ الإسلامي باسم عبد الله بن المقفَّع، ويعدُّ أوّلَ من أدخلَ الحكمة الفارسيّة الهنديّة والمنطق اليوناني إلى الثقافة العربيّة من خلال ترجماتِه الرائدة.

ستةٌ وثلاثون عامًا، منذ ولادتهِ لأبوين مجوسيَّين في المقاطعة التي تسمّى الآن فيروز آباد في إيران، مرورًا بإسلامهِ، وصولًا إلى مقتلهِ المأساوي في البَصرة التي نشأ فيها بالعراق، على يدِ واليها سفيان بن معاوية، أثناء فترة حكم الخليفة العباسيّ الثاني أبي جعفر المنصور، وبإيعازٍ منه كما تشير بعضُ المصادر.

ستّةٌ وثلاثون عامًا كانت كافيةً ليصبح أبو محمّد - وهي كنيتهُ بعد اعتناقهِ الإسلام على يدِ عيسى بن عليّ عمِّ الخليفة - واحدًا من أبرز المترجمين إلى العربيّة على الإطلاق، كيف لا وهو ناقل الأدب الكبير والأدب الصغير من كلام المتقدّمين الفرس كما يشير. وكليلة ودمنة، أحد نماذجِ الكتب العابرة للثقافات من الهنديّة إلى الفارسيّة إلى العربيّة، وهذه النقلة الأخيرة هي جوهرة إرث ابن المقفّع، ويذهبُ بعضُ الدارسين إلى أنَّها كانت سبب هلاكه أيضًا، بعدَ خلافٍ مع والي البصرة أدّى لاتهامهِ بالزَّندقة استنادًا لما كَتَب فيها، وهيَ تهمةٌ كافيةٌ لإباحة الدّم، وربّما تخوّف أهلُ الحُكمِ من هذا الشّابِّ الطموح وما في كتبهِ من إشاراتٍ للسّياسة والسّلطان، فقُتل قتلةً شنيعةً مشهورة، أشرف عليها الوالي شخصيًّا.

بعيداً عن قصّةِ مقتلهِ المُثيرةِ للجدل، نشأ ابن المقفّع في البَصرة مولًى لآل الأهتم، الذين اشتهروا بالفصاحةِ والبلاغة، فشرب العربيّة من أصولها، وأضافها لعلمهِ بالفارسيّة وما نُقلَ إليها من الحكمة الهنديّة والفلسفة اليونانيّة، وعملَ على مزجِ كلِّ هذا في مؤلفاتهِ وترجماته التي عكف عليها كاتبًا في دواوين البَصرة العامرة آنذاك، فترجم للخليفة أبي جعفر المنصور كتبًا في المنطق، وضاعَ أكثرُ أثرهِ المكتوب فلم يبقَ لنا منهُ إلا قليل، ولكنَّ أثرهُ في حركةِ الترجمة إلى العربيّة كان جليّاً، حيثُ ألهم كثيرين من معاصريه ولاحقيه بشخصيّةٍ فذّةٍ وطاقةٍ متفجّرة، حتّى قيل: ليس في العرب أذكى من الخليل بن أحمد، وليس في العجم أذكى من عبدالله بن المقفّع.

بعد قرونٍ من الانقطاع، نتيجة انهيار وتفكُّكِ المنظومة الفكريّة والعلميّة في الشرق العربيّ إثر سقوط الخلافة العبّاسيّة، وما تلاها من انحدارات، استأنفت الترجمة العربية في القرن التاسع عشر نهضتها، بوصفها مشروعًا موسوعيًّا لنقل العلوم والآداب والمعارف إلى اللّغة العربيّة، فكان هذا القرن قرن نهضة الترجمة من جديد.

وفي هذه الأجواء ولد سليمان بن خطّار البستاني عام ١٨٥٦م، في بكشتين، من قرى إقليم الخروب، التابع لقضاء الشوف، بجبل لبنان. وتلقّى تعليمَهُ الأوليّ بالعربيّة والسّريانيّة، على يدِ المعلّم عبد الله البستاني، ثم التحق بالمدرسة الوطنية في بيروت عام ١٨٦٣م، فدرس الإنكليزيّة والفرنسيّة وتلقّى العربيّة من المُعلِّمَين ناصيف اليازجي ويوسف الأسير، وحفظَ ألفية ابن مالك فى النحو، وما لبثَ أن أتقنَ التّركيّة والإيطاليّة والألمانية، وتعلّمَ مبادئ اليونانيّة وأتقنها أثناء عملهِ على مشروعه الأهم: ملحمة الإلياذة للشاعر اليونانيّ (هوميروس) منظومةً بالعربيّة.

استغرقت ترجمة الإلياذة ١٧ سنة، وصدرت عن مطابع الهلال في القاهرة في مجلّدين، وهي أوّل ترجمةٍ عربيّةٍ لهذه الملحمة الخالدة، في ٢٢٠٠٠ شطرٍ شعريّ، علماً أن الأصل اليونانيّ ١٦٠٠٠ شطر، وما إسهابُ البستانيِّ إلّا لإيضاح ما استشكل من المعاني وإيصالِ الصورة الكاملة للأصلِ اليونانيّ، كما صدّر الكتاب بمقدّمةٍ أدبيّةٍ متينةٍ تقارب المئتي صفحة، وألحقهُ بشروحٍ ومعجمٍ وتعقيبات.

وبقيت ترجمةُ البستاني فريدةً عن كلِّ الترجمات التي أتت بعدها بمتانتها وأسلوبها وشروحها، ومن النقّادِ من يعدُّها إلى الآن أحسن ترجمات الإلياذة.

"أن تكون مترجمًا مُهِمًّا، أفضل من أن تكون روائيًا سيئًا".

هذه العبارة التي كان يكرِّرُها المترجم الفلسطيني صالح علماني، قالها أوّلَ مرّةٍ حين مزّق مخطوطَ روايته الأولى ليتفرّغ للتّرجمة، بعد ملاحظةٍ إيجابيّةٍ ومحفّزة من أحد النقّاد الذين قرأوا ترجمته لرواية (غابرييل غارثيا ماركيز) "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" وهي أوّلُ روايةٍ صدرت بترجمةِ علماني، وفاتحةُ زمنٍ عمل فيه ١٠ ساعاتٍ يوميّاً طيلة ٤٠ عامًا، في نقل الأدب الإسبانيّ إلى العربيّة، بعد أن هجر كليّة الطّب في برشلونة، وتركَ العمل في الصحافة، وخبر التشرّد في قاعِ المدينة عاملًا في الميناءِ يخالطُ العامّة والبسطاء، ويسمعُ أحاديثهم فيغذّي خبراته اللغويّة.

كلُّ هذا بدأ حين التقى الرجلُ المولودُ عام ١٩٤٩م، في مخيّم لاجئين في مدينة حمص السّوريّة، المتسكّعُ في مقاهي برشلونة بعد تركه دراسة الطب والأدب الإسباني، بصديقٍ نصحهُ أن يقرأ كتابًا هو الطّبعةُ الأولى من رواية (ماركيز) "مئة عام من العزلة" عندما بدأ بقراءتها، أدهشته لغتها العجائبيّة وشدّتهُ بسحرها صفحة بعد صفحة، فقرر ترجمتها إلى العربيّة. وبعد أن أنجز فصلين منها عَلِمَ بصدور نسخة عربيّة منها فتركها، لكن بعد عودته إلى دمشق، ظلّ أدب ماركيز يشدّه، فترجم قصصًا قصيرة له، نشرها في الصحف المحليّة، ثم انكب على ترجمة "ليس لدى الكولونيل من يكاتبه" عام ١٩٧٩.

أنجزَ علماني ترجمةَ "مئة عام من العزلة" لاحقًا، ومعها كل أعمال ماركيز باستثناء "خريف البطريرك"، كما ترجم عدداً من أعمال (ماريو بارغاس يوسّا) و(إيزابيل الليندي) و(جوزيه ساراماغو) و(إدواردو غاليانو) وغيرهم، وامتازت ترجماته ببصمةٍ خاصّةٍ، ولغةٍ حسّاسةٍ وحارّةٍ وعالية، يعبّرُ عنها في حديثه عن بعض الأعمال التي ترجمها:

"أشعر أثناء ترجمة (غارثيا ماركيز) بأنّني أعيش الرواية كما لو أنّني أكتبها، حين عملي على "مئة عام من العزلة"، أحسست كأنّني لا أزال مع (فلورينتينو اريثا) ومعشوقته

(فيرمينا داثا) نبحر في رحلة ذهاب وإياب مدى الحياة، والأمر ذاته وجدته في أعمال (ماريو بارغاس يوسا)، لدرجة أنّني أثناء انهماكي بترجمة روايته "توما في الأنديز"، اتصل بي أحدهم سائلاً: أين أنت؟، فأجبته مباشرةً: أنا في الأنديز".


يعتقدُ المترجمُ اللبنانيُّ الشّاب بهاء إيعالي، أنّ الترجمة هي السبيل الذي يصل الشعوب ببعضها، فلا سبيل لمعرفة ثقافات الآخرين وآدابهم سوى من خلال ترجمتها.

وفي حوارٍ مع (Seagulls Post) قال إيعالي: إنّ الجيل الجديد من المترجمين الشبّان، لديه ما يميّزهُ عن الأجيال التي سبقتهُ على عدّة مستويات، دون التقليل من قيمة الأجيال السابقة من المترجمين الكبار، فعلى مستوى الجودة، أشار إيعالي إلى أنّ التّرجمات الصادرة حديثًا باتت أفضل وأجمل لغويًّا وفنيًّا، خاصّةً وأنّ المترجمين الشبّان يدركون أهميَّة حفاظ المترجم على روح الكاتب وأسلوبه وإيقاع نصّه، فبات بإمكاننا التمييز بين كلّ كاتبٍ وآخر ولو كانت الترجمة من اشتغال مترجمٍ واحد.

وعلى مستوى التنوّع، رأى إيعالي أنّ المكتبة العربيّة بدأت تعرف العديد من الأسماء العالميّة في الأدب والفكر عن طريق الجيل الجديد من المترجمين، وهو ما أدّى لتبدّلٍ في مزاجات القارئ العربيّ، فعلى سبيل المثال، لم يعد يرى الأدب الفرنسيّ متمثّلًا في (كامو) و(هوغو) وحدهما، ولا الأدب الأمريكيّ متمثّلًا في (همنغواي) و(وكنر) و(شتاينبك) وحدهم، ولا أدب أمريكا اللاتينيّة متمثّلًا في (ماركيز) و(آينده) (أو ألليندي كما تُترجم عادةً) و(ميسترال) وحدهم، كما بات واضحًا أن المترجم العربيّ بات يبحث أكثر عن الأعمال التي تستحقّ الترجمة.

يشيرُ إيعالي إلى أنَّ حقل الترجمة يتّخذ مسارًا تصاعديًّا، ولكن ثمّة مشاكل لا زالت تعاني منها الترجمة العربيّة، منها:

  • افتقار المكتبة العربيّة إلى المزيد من الأعمال الكلاسيكيّة المهمّة التي لم يسبق ترجمتها للعربيّة، أو تُرجمت وباتت ترجمتها قديمة وتحتاج لتجديد.

  • عدم تمكّن عديد المترجمين من التفرّغ لهذا العمل بشكلٍ كلّي لأسباب لا يمكن حصرها.

  • عمل الترجمة ما زال عملًا مبنيًّا على مبادرات فرديّة ولم يرقَ لمستوى العمل الجماعي.

٠ تعليق

Comments


bottom of page