خولة العلوي: مايا - قصة قصيرة
المغرب
يسافر بي الحنين إلى الطفولة، أرى بيتنا القديم، أطفال الحي الكثر.. ومايا.. أتوقف قليلاً، تغالبني دمعة، أفتش في الذاكرة عن تفاصيل الحكاية، أرتب الأحداث تباعاً، ثم أسمح للدمعة بالانبجاس.
سمعت قصة مايا قبل أن ألتقيها بليلة، وأجدني الآن أكتب عنها بعد عقدين من اللقاء. كنا مجتمعين حول مائدة العشاء، أبي صامت كالعادة، أختي الكبرى لا تنظر خارج إطار الطبق، وأمي تحكي أخبار الجيران السعيدة والحزينة بنبرة موحدة. كنت أصغي لأمي دائماً بإمعان، لكنني لم أعد الوحيد الذي يفعل ذلك تلك الليلة بعد أن خاطبتْ أبي بحماس: "لقد تم بيع المنزل السفلي أخيراً، أخبرتني بذلك صاحبة المنزل حين مرت لأخذ سومة الكراء، تقول اشترته امرأة فرنسية مسنة تخلى عنها أفراد أسرتها حين علموا أنها أوصت بإرثها للكلبة التي ترافقها. توقفت أمي فجأة عن الحديث كأنها تنتظر إبداء رأي حول الموضوع. تكلم أبي أخيراً دون أن يتوقف عن الأكل: "وما الغريب في الأمر؟ إنها ظاهرة منتشرة عند الأجانب، يفضلون الكلاب على البشر، وهم محقون في ذلك". لم تضف أمي بعد كلام أبي شيئاً، بل سرحت طويلاً، ثم انتفضت وهي تومئ لأختي بلم الصحون.
في الصباح الباكر، عرف مدخل البيت حركة نقل للأثاث وأعمال تنظيف كثيفة لم تنته إلا بحلول المساء، حينها أطلت المرأة الفرنسية بابتسامة جميلة وقصة شعر قصيرة تركت الشيب يغزوها دون أن تلجأ لصبغات الشعر. ما إن لمحتُها حتى صعدتُ راكضاً نحو أمي لأبلغها بذلك كما أوصتني، ملأتْ عندئذ صحنين من الحلوى وأمرتني بمرافقتها.
لغة أمي الفرنسية متعثرة، لكنها لم تجد يوماً حرجاً في التكلم بها، بل كنت أندهش وهي تجري حوارات طويلة مع الفرنسيين بثقة عالية قد تجعل غير المتكلم بها يخيل إليه أنها تتقنها للغاية. هذا ما فعلته يومها وهي ترحب بالجارة الجديدة. أما أنا فلم يكن لدي الوقت للإنصات لبقية الأحاديث بعد أن تعرفتُ على مايا، تلك التي صارت بعد ذلك اليوم أقرب الرفاق إلى قلبي.
أضحت عطلة الصيف آنذاك أكثر متعة؛ كنا نقضي اليوم كله في اللعب. بشوق صرت أنتظر كل ليلة حلول الصباح كي أنزل إلى جارتنا، ألقي عليها التحية، فتمنحني بعضاً من الحلوى وتطلب ألا أصرف انتباهي عن مايا. ما زلت أتذكر كلماتها: "أرجوك لا تغفل عن صغيرتي فهي كل ما أملك في هذا العالم". شعرت حينها بالمسؤولية لأول مرة، فكنت أبذل جهدي كله لأكون على قدرها.
كانت مايا كلبة شديدة المرح، تحظى باهتمام الجميع منذ الوهلة الأولى، فبعد أن كنت منبوذاً لضعف بنيتي الصحية، محروماً من اللعب بدعوى أنني لن أجلب سوى الخسارة للفريق، صار أطفال الحي يلتفون حولنا مشكلين دائرة كبيرة، بينما أغوص أنا وهي في اللهو، تحضنني تارة وتقفز فوقي تارة أخرى، نركض طويلاً إلى أن أتعب، أرتمي على الأرض، فتداعبني آنذاك بتمرير شعرها البني حول جسدي.
بعد لحظات السعادة الكبرى، انتهت عطلتي ككل العطل التي تبدو طويلة للآباء، قصيرة للأبناء. وكان عليَّ أن أتأقلم مع فكرة أنني لن أرى مايا إلا مساءً بعد الرجوع من المدرسة وإتمام واجباتي المنزلية.
حلّ يوم الجمعة بعد انتظار طويل، عدت إلى المنزل مسرعاً وفرحاً، لأنني سأقضي يومين كاملين في اللعب مع صديقتي الجديدة. طرقتُ الباب مرة ثم مرتين، أطل وجه الجارة الفرنسية، كانت التجاعيد في وجهها واضحة أكثر من أي وقت مضى، ربما لأن ابتسامتها الدائمة لطالما غطت على علامات تقدم عمرها. أدخلتني بهدوء إلى المنزل، أجلستني على الأريكة واتخذت مقعداً بجواري. ظلت صامتة للحظات قبل أن تنطق:
- مسكينة هي مايا، إنك لا تعلم، بعد، ماذا جرى. لقد اشتد عليها المرض ليلاً، انتظرتُ حلول الصباح وحملتها إلى الطبيب البيطري، لكنه لم يقل شيئاً مطمئناً...
- وأين هي الآن؟
- ماتزال عند الطبيب، يقول إنّ حالتها حرجة لا تسمح بمكوثها في المنزل.
تصلبتُ في مكاني للحظات، أردت أن أقول أيّ شيء، لكن غصة في القلب باغتتنا سوياً، فضمتني إلى صدرها ونزلت دموع كثيرة من مقلنا.
لم أنم يومها... حزن، خوف، توجس... ربما كانت تلك المرة الأولى التي أكتشف فيها أحاسيس خانقة. ظل الحال كما هو لليلتين متواليتين، إلى أن حل صباح يوم الأحد، هرعتُ إلى جارتنا، طرقت الباب، لم تكن هناك... لم أعد إلى منزلي، قعدت على الدرج أنتظر خائباً أي خبر يُـنهي مجريات القصة.
جلستُ، رأسي بين ركبتيّ وأمي تجرني من الخلف كي أصعد معها... فُتح باب البيت أخيراً، تقدم نحوي رجلان قويا البنية، أمسكا ذراعي اليمنى وثبتا عليها حقنة، كنت أصرخ رافضاً ذلك، لكن مفعول الحقنة سرى في جسدي فلم أذكر بعدها نفسي إلا وأنا فوق سرير تفوح منه رائحة المعقم، نظرت حولي، كانت أمي تبكي، والطبيب يقول في نبرة صارمة: " إن استمرت النوبات على هاته الحال قد نضطر لإبقائه هنا لفترة"، لم آبه لكلامه، كنت أستمتع بحضن مايا، صديقتي التي أدركت بعد زمن أنني كنت الوحيد الذي استمرت في زيارته بعد أعوام من رحيلها...
Comments