د. أحمد خريس - الأردن
وداعًا زكريا محمد ...المدن الخفية والجزيرة المقلوبة
تنهض قصيدة الشاعر الفلسطيني زكريا محمد: "الجزيرة المقلوبة" [صدرت في ديوان: الجواد يجتاز أسكدار، 1994] من رماد رواية الكاتب الإيطالي (إيتالو كالفينو): "مدن لا مرئية" (1972)؛ فبالإمكان عدّها تأويلاً مكثفاً للرواية، وبمقدورنا الاتكاء على الرواية – كذلك - في تأويل القصيدة، انطلاقاً من ركيزتين: الأولى تتعلق بالطبيعة المرجعية للنصوص الأدبية، التي لا تحيل إلى العالم أو الواقع فحسب، وإنما تحيل إلى النصوص السابقة، وقد تحيل إلى ذواتها فيما يعرف بالانعكاسية الذاتية. والركيزة الأخرى أن رؤية العالم أدبياً ليست عملاً فردياً خالصاً، فقد تتبنى بعض الأعمال الأدبية رؤية سابقة، أو تطورها عبر اتساعات نصية متباينة الأهداف والأنواع.. تقول القصيدة:
الرحالة الذين مرّوا بها،
وضعوا نقطة على خرائطهم ومضوا،
فقد كانت جزيرة طحالب وحجار براكين
ولم تكن أكثر من حجر بين خطوط العرض والطول،
وكان في وسع أية غيمة
أن تسحبها بظلها
غير أن الطيور التي مرّت بها صدفةً /
رأت ما لم تره العيون /
فعلى سواحلها
كانت تحت المياه الأسماك:
حمراء كالشقائق
خضراء كالزمرّد
زرقاء مثل الوهم،
وكانت الأشجار والأحياد والأصداف والشمس
التي من وراء الجبال،
هكذا كانت الرحالة
لا يبصرون الجنة
ولا يدرون أن الجزيرة مقلوبة
وأن أهلها تحت الماء.
(1989)
تتأسس رواية (كالفينو) على تلك العلاقة الملتبسة بين الرحالة الإيطالي (ماركو بولو)، والإمبراطور التتاري (قبلاي خان)، الذي يستعين بـ "بولو" في بعض سفاراته، فماركو بولو في الرواية يختلف عن بقية مبعوثي الخان؛ لأنه لا يعود إليه بأخبار "المجاعات والاختلاسات والمؤامرات..." وإنما بالأفكار، وبوصف واحديّ متعدِّد لمدن متخيلة تبلغ خمساً وخمسين مدينة. وإذا كانت تلك المدن المسماة بأسماء نساء، ليست موجودة على الحقيقة، فإن ذلك مُضيٌّ بكتاب "رحلات ماركو بولو" إلى آخر الشوط. فالكتاب الذي سطّره بولو يفتقر بدوره إلى المصداقية، والدقة التاريخية، وهو الأساس الذي بنيت عليه الرواية، بما فيه من إعمال للخيال، ووصف عجائبي لمدن وأقاليم لم يثبت – دائماً - أن بولو زارها.
لا شك أن الثيمة المؤطرة لرواية (كالفينو) هي الرحلة، فالروائي الإيطالي مولع بالجغرافيا، وله اهتمام منقطع النظير بالخرائط التي يعدّها مجازات، ودعوة إلى ملاحقة المجهول، وهو ينهي الرواية بمطالعة الخان لأطلسه، وتخيل أراضٍ لم تكتشف بعدُ أو تعمّر. ويأتي وصف المدن في الرواية –غالباً- بعد ذكر مقتضب للرحلة التي أفضت إليها، كما يصف لنا (كالفينو) وسيلة الوصول، والطريق الواصل لها، سواءً أكان بريّاً أم بحريًّا، وهو ما نلحظه –أيضاً- في مستهل القصيدة، لكن زكريا محمد يختار جزيرة لا مدينة، ويغمز من قناة الرحالة الذين مرّوا بها، فهم لم يجوزوا البصر إلى التبصّر، وإنما ألقوا نظرة عابرة إليها، كفلت لهم – فقط - استكمال توثيقاتهم الجغرافية. وعلى الرغم من النظرة العابرة للرحّالة، فإنهم قاموا بدور مهم حين حوّلوا الوجود الحقيقي للجزيرة إلى وجود ورقي، فأثبتوها نقطة على خرائطهم، مما يوحي ببداية انتقالها إلى سياق رمزي، أقرب إلى عالم الكتابة، وهو الأمر الذي يعوّل عليه (كالفينو) في مهمة (ماركو بولو) الوصفية والإدهاشية، فهو ـ بتعبير (كالفينو) ـ "لا يملك إلا الكلام". ولنلحظ أن النقطة في خرائط الرحالة ستتحول إلى كون عامر حين ترى الطيور ذات البصيرة [نستذكر هنا هدهد سليمان وحمامة نوح عليهما السلام] ما لم تره عيون الرحالة المتعجلين، أي إن النقطة (=الحجر) ستؤول تأويلاً مضاعفاً يتسع لكم كبير من الأوصاف، بانتقالنا من السطح إلى العمق، أو من الدال إلى الدلالة، وهكذا يتأتى لنا التعامل إشارياً مع المكان تماماً، مثلما تعامل بولو مع الخان حين افتقر الاثنان في بداية الأمر إلى لغة التواصل، فجاءت الحركات والإيماءات لتشير إلى المدن. وعندما تعلّم بولو لغة الخان جاء الشرح والتفصيل والحجاج ليعوض التعبير الغائب أو المختزل.
ليس مهماً بعد ذلك أن يصدق الخان كل ما يقوله له ماركو بولو، فاللغة لا تشيع التواصل فحسب، وإنما تقوم بفاعلية مضادة عندما تلاشى الوجود الفعلي للأشياء والأماكن، وتحوله إلى خطاب تتحكم به الأهواء والتفسيرات، ومن هنا نفهم عزوف (بولو) عن الكلام حول مدينته فينيسيا، فالكلام في جانب منه طمس للحقيقة، وعجز عن تمثيل الواقع والتشبيهات، بوصفها أداة جمالية للإدراك، لا تسعف دوماً، فأسماك الجزيرة لا تنصاع في ألوانها ـ إحاليًا ـ إلى عالم المحسوسات (الشقائق والزمرّد) وحسب، وإنما تغدو ألوانها –أحياناً- وهمية حين يصعب التمييز، ويستحيل الوصف. إن التوتر بين الدال والمدلول الناشئ عن الاختلاف الإبستمولوجي بين الكلمات والأشياء ليس المدخل الوحيد للتعبير عن الإخفاق في القبض على المعنى، فالإدراك الحسي قابل للخداع أيضاً، وهذان الجانبان يتواشجان ليصوغا مدن (كالفينو) وجزيرة زكريا محمد، فمدينة "ديسبينا" لدى (كالفينو) – مثلاً- لا تبذل نفسها طواعية لزائرها، فهي تبدو كسنام جمل للقادم إليها من البحر، وسفينة لمن يأتيها من الصحراء ويسهم الإسقاط النفسي وخداع البصر وانفساح مدى التأويل في التشكل الدائم لمدنه، وإخفاء حقيقتها، وهذا ما تقوم به وضعية الجزيرة المموهة، فهي للناظر المتعجل مستوية وظاهرة بطحالبها وحجارتها البركانية، وقابلة للتفسير المباشر والمحدود، وهي جنة مقلوبة ومتخفية للناظر العارف المدقق، إنها أشبه بأطلنطا الغارقة في كلام أفلاطون، غير أنها ضاجة بالحياة، فسكانها لم يغادروها لكنهم متوارون تحت الماء، وعناصر الطبيعة كالأشجار والجبال والشمس غير منقوصة. وما يحول دون الإحساس بهذه الحياة هو ذلك التواري خلف مظهر مصغر يشبه عند (كالفينو) مدينة "أولند" التي يصفها بالنقطة التي لا تتجاوز في حجمها رأس الدبوس، وإذا نُظر إليها عبر عدسة مكبّرة أبصر الناظر أسطح منازلها وساحاتها وحدائقها. إن ميكروسكوبية الجزيرة النسبية بادية أيضاً في إمكانية إخفائها بظل أية غيمة، وكأنما تتواطأ الطبيعة في كتمان السرّ وخداع الحواس.
Comments