top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

د. إبراهيم طلحة: "أصدقاء المقالح" يكذّبون خبر موته!!


د. عبد العزيز المقالح - اليمن
د. عبد العزيز المقالح

إبراهيم طلحة
د. إبراهيم طلحة

د. إبراهيم طلحة: "أصدقاء المقالح" يكذّبون خبر موته!

"يا سيّد الحرف والعشب والليل، هب لي بقايا حروفٍ مبرّأةٍ من غبار الكلام".

(من ديوان: أبجدية الروح للمقالح).

ها نحن أولاء في مقام سيّد الكلمات وهو يسمو بالحب فوق مستوى الأوجاع، وفوق مستوى العادات الاجتماعيّة المخاتلة.

الدكتور عبد العزيز المقالح، الإنسان المثقف، الشاعر الناقد، الفيلسوف العارف، كان حين يكتب يسعى إلى إسعاد الناس ولو على حساب أوجاع قلبه التي يكتمها.

حين يكتب المقالح كان "يحتفل بالجرح"، ويستند إلى روحه التي لا تخذل شاعريّته، ولا تخذل المريدين الذين يستلهمون منها المزيد والمزيد.

له طريقته في الشعر، التي ظلت تشبه طريقته في الحياة، طوال حياته، وكلتا الطريقتين تشبهان طرائق المتصوفة العارفين الذين تستند تقاليدهم ومناهجهم المعرفيّة إلى أدبيّات المحبة والإخلاص والتفاني، وصولًا إلى ما يعدُّونها درجات اليقين.


مسار:

دروب المقالح الشعريّة كانت محفوفة بالشوق والذوق، والأمل والألم، ولم تكن مجرد رحلة ورقة وقلم.

في إحدى قصائده الباذخة المشهورة وهي قصيدة "في الطريق إلى يفرس" يقول:

قريةٌ تلكَ، أمْ هيَ سَجّادَةٌ للصَّلاةِ؟

نوافذُها نصفُ مفتوحةٍ

يدخلُ الفجرُ عَبْرَ عناقيدِها

ويحطُّ الأذانُ الذي لا ينامُ على الشُّرُفاتِ

فتصحو العصافيرُ والناسُ،

يصحو الندى..

تتضوَّعُ روحي بعطرِ الجبالِ

وتمسحُ أشجانَهُ بندى صخرةٍ لا تنامْ.


 تشيخ نصوص المبدعين مبكرًا، لكن نصوص المقالح ستظل تعيد إلى الزمان بهجته وشبابه، وإلى المكان ملاحته وجماله، ومن خلال هذه النصوص نستطيع أن نستشفّ تاريخ القصيدة الأجدّ كما سمّاها شاعرنا في كتاباته النقديّة، وهو تاريخٌ سابقٌ لتنظيرات الحداثيين أنفسهم بمراحل، وإن تماهى نص المقالح مع افتراضات اصطلاحاتهم ودرجات تقديرهم.

ففي طريقه إلى يفرس، كان يستقبل قِبلة الجمال، ويستعدُّ لدخول محاريب الجلال بكلِّ خشوع، ويبادل النوافذ التي تستقبله الإعجاب، ويستكين إلى عبق العطور الفواحة منها، مُعمِلًا حواسّه كلّها، تاركًا لها حريّة أن تتراسل، فيرى ويسمع ويشمُّ ويُحِسّ.. حتى لا يبقى للأشجان مكان في مخياله المُثقَل المتيقِّظ.

يستوحي الشاعر لغته من محيطٍ مترع بالدهشة، حيث تتمازج أصوات الناس مع أصوات العصافير، وتتلقف الآذان حلاوة الأذان مع ساعات الفجر الأولى، ساعات المناجاة وتقابُل السماء مع الأرض، وما يتفوّه حينئذِ إلاَّ الندى بلغةٍ لا تَلبَثُ أن تتلى حتى يهتف هاتفٌ داخل الإنسان.




الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح

وحين غادر شاعرنا قرية يفرس، ومقام ابن علوان الذي فيها، لم يفته أن يودّعها على طريقته، فيقول:

يا أهلَ القريةِ..

يأتينا الواردُ عبرَ غيومٍ مُتْرَعةٍ

بتسابيحَ تضيءُ الرُّوحَ،

ويأتي الرَّمْزُ جنينًا

لينامَ على عرشِ القلبِ

ويُطلقَ أحلامًا تتزاحمُ

تتشظَّى.. تتساءلُ:

مَنْ هذا الفارسُ لا يترجَّلُ

يتهادَى فوقَ حصانٍ منْ نورٍ

بينَ أصابعِهِ سيفٌ منْ نورٍ

يقرأُ فيهِ المظلومونَ زمانَ العدلِ

وينظرُ فيهِ الفقراءُ نعيمًا لا يَبْلَى؟!!


حضور مفرداتٍ باشتقاقاتها المختلفة، من قبيل: الروح والقلب، والضوء والنور، والفارس والحصان، والظلم والعدل.. وما فيها من تقابل أو تضاد، وتناظر وتشاكل ثنائيّ، يعطينا فكرةً عن معجم المقالح الشعريّ، والأبعادِ التي يشير إليها الاستعمال اللغويّ في مستوياته البلاغيّة، بين الصوتيّ والصرفيّ المورفولوجيّ، والتركيبيّ النحويّ والدلاليّ السيمانتيكيّ، فالإنسان له قاموسه اليوميّ في تخاطبه، وله قاموسه المقاصديّ في مقامات اللغة العليا، لغة العلوم والآداب.

لغة المقالح ليست لغةً أُحاديّة الاتجاه، بل هي لغة فنيّة جماليّة إنسانيّة، تنبني على قاعدة الحوار الثقافيّ المفتوح مع ملابسات الواقع المعقدة، ومع احتمالات تناغم أو عدم تناغم الروح مع الماديّات، في بحثٍ مستمر عن أفضل المخارج.

ولا عجب ـ إذن ـ من استنطاق شاعرنا لكلّ أيقونة واقعة في نطاق المستوى الجماليّ، والبحث عن القيم الإنسانيّة الممكنة، ولو عن طريق محاولة الكشف عن المعنى الظاهر بالعودة للباطن.

لقد كانت التناظرات واضحة في كتابات المقالح، فله كتاب (الكتابة البيضاء)، وله بالمقابل كتاب (تأمّلات خضراء).. وهكذا كتب عن (ثوار ومتصوفة) ومدن وقرى، وله كتب موازية كدواوين، منها: (كتاب الأم) ـ (كتاب صنعاء) ـ (كتاب المدن) ـ (كتاب القرية) ـ (كتاب الحب) ـ (كتاب الأصدقاء) ...

تناظرات تنمُّ عن الفكرة الفلسفيّة الواحدة في اشتغالات المقالح على مستوياتها كافة.

ويعتقد شاعرنا بأنّنا لا بدّ وأن نكون على قدرٍ من الوضوح مع أشهاد الكون من بشر وكائنات، حتى لا تفقد أرواحنا ألقها ورونقها؛ لذلك نراه ينشد المحبة والسلام مع الآخرين، متناسيًا طعنات أصدقائه، متساميًا على أوجاعه واحتياجات نفسه.

يا صديقي:

لماذا تعجَّلْتَ موتَكَ

واخترت أن تشربَ الكأس

منفردًا؟!!

أنتَ من كانَ يؤثرُ أصحابَهُ

ويقاسمُهم – في المودةَّ -

وردَ الحياة!!

وكان لكلّ صديق حظّ من اهتمام شاعرنا به، بل كانت أسماء أصدقائه حاضرة من خلال عناوين دواوينهم، فعلى سبيل المثال لا الحصر نراه يقول عن (عبد الودود سيف):

أماَمكَ بحرُ

وخلَفكَ بحرُ

ولم يبق إلا الصعودُ إلى الغيم ِ

فاصعدْ بنا

واتجِهْ بخيولكَ نحو فِجاج الفضاءِ

وسَمّ البلادَ التي خذلتك بأسمائها

وإذا شئتَ فاصنعْ "زفاف الحجارةِ للبحر"


لقد تأقلم المقالح مع ظروف الحياة التي عاشها، وتصالح مع ذاته، فجاءت لغته منسجمة مع قوالبها، متوافقة مع اهتمامات الناس وشرائحهم، ابتداءً من العوام، وليس انتهاءً بالساسة والمثقفين، ولطالما ظلّ شاعرنا ينأى بنفسه عن المعارك الأدبيّة الجانبيّة بالكتابة؛ ليحتفظ في ذاكرته بما يحبّ الاحتفاظ به من صورٍ وتصورات جيّدة (فقط)، عن الآخرين.

لقد رتّب "أوراق الجسد العائد من الموت" ـ وهذا بالمناسبة هو عنوان أحد كتبه ـ بطريقته، واستعان بالمفردة الصوفيّة في تعبيراته، واستوحى اللغة الروحيّة الصوفيّة الراقية الشفافة؛ ليجمع بها بين الغنائيّة والدراميّة، وحالات التراجيديا والكوميديا، ويغوص في خفايا الحالة الإنسانيّة، وهو ما يعني أنّ اللحظة الشعريّة لم تكن لتتخلَّقَ في كتابات الشاعر قبل أن تتخلَّقَ في نفسه، وفي الإحالات الرَّمزيّة التي استطاع المقالح أن يوظّفها توظيفًا استثنائيًّا، نلحظ أنّنا عشنا أجواء النصوص التي كتبها في سياقات استعمالها اللُّغويّ التصويريّ تفصيلًا، رغم أنها مُجمَلَةٌ في فكرةٍ خطيرةٍ اشتغل عليها الشاعر بتفرُّد، وهي فكرة إنصات الإنسان إلى فرضيّة أن تصبح الحياة أقسى من الموت، فإن هو آمن بالحياة فإنّه لن يموت، وإن هو آمن بالموت فإنّه لن يحيا، بمعنى أنَّ الموت قد يغيّب كثيرين عندما تموت ضمائرهم أو تموت قلوبهم ونفوسهم، أو تموت مشاعرهم وأحاسيسهم، أمّا الَّذين يكتبون ليحيا الناس فهم أحياء في قلوب الناس، باقيةٌ بصماتهم ولمساتهم وأعمالهم ومآثرهم في سجِلّات الخالدين.

لعلَّ هذه الطريقة العبقريّة في العيش بهدوء والموت بهدوء هي ما حدت بأصدقاء المقالح إلى تكذيب خبر وفاته بطريقتهم، حيث أكدوا أنّه حيٌّ وباقٍ في قلوبهم إلى الأبد، معلنين الحِداد على روحه منذ أُعلِن عن رحيله يوم 28 نوفمبر 2022م، وما كان منهم إلا أن تداعوا إلى بكائيّة أدبيّة ثقافيّة واسعة، شهدتها الأوساط الأدبيّة والثقافيّة في اليمن وأقطار الوطن العربيّ، حتى قال الشاعر يحيى الحمادي بلسان حال الجميع معبِّرًا: "طبت حيًّا وميّتًا يا حبيبي".

رحيل المقالح شكَّل صدمة لأصدقاء المقالح، ولكنه ـ في الوقت نفسه ـ أحيا في نفوسهم فكرة إعادة تفعيل دور جمعيّة "أصدقاء المقالح" التي كانت قد تأسست في حياته بوصفها كيانًا ثقافيًّا، وكان ديوان مقيله بمنزله في صنعاء حاضنًا لهم أسبوعيًّا.

من حقّ أصدقاء المقالح أن يكذِّبوا خبر موته، من خلال إصرارهم على إحياء فعاليات لاستذكار رموز اليمن الكبار من أدباء وشعراء، خاصة من أمثال المقالح والبردوني، فقد تركا رصيدًا عابرًا للقلوب والعقول، والزمان والمكان، والأرض والإنسان، قبل أن يأويا إلى إيوان الخلود الأخير.


"لأرضِ الرُّوح أكتب ماء أشعاري

وللهِ الذي بسمائهِ وجلالهِ يحتلُّ وجداني

وأفكاري

وللأطفال

للمرضى

لكلِّ مسافرٍ في شارع الإيمانِ

متَّهَمٍ بإنكارِ السَّماء

وفي رحاب اللهِ تحتفل السَّماء بهِ

لكلِّ مسافرٍ في شارع الإيمانِ

تشرِقُ في مرايا قلبهِ

أسرارُ مَنْ سوّاهُ مِنْ ماءٍ وفخّارِ!!

لهم أتعمَّدُ النّجوى

وأرسم ظلّ أحزاني

وأوزاري

أنا المنفيُّ بين خرائب الأرواحِ

داخل حفرةٍ للوقت

خارج وردةٍ للعشقِ

أخشى اللهَ حين يقولُ لي: أخطأتَ..

لا أخشى من النَّارِ".

(الراقد في قلوب أصدقائه بسلام: الراحل د.عبدالعزيز المقالح).





٠ تعليق

Comments


bottom of page