حوار
د. عبدالله الغذامي: ما أعاق المناظرة بيني وبين أدونيس هو أدونيس نفسه...
حاورته حنان فرفور - لبنان
كلّ ما يحتاجه الأمر، بضعة رجالاتٍ يفتحون في صدر الأفق الذي أطبق طويلا على الماضي نوافذ تبتسم من حين لآخر لفتوحات موغلة بالضوء والأمل مبشرة بقيامات جريئة ولّادة..و"عبدالله الغذامي" واحد من هؤلاء ولعله في مقدمة الشخصيات العلمية التنويرية الجريئة التي قاربت النقد والفلسفة والفكر الإنساني، بإخلاص نادر في البحث، وجدة في الطرح، وشجاعة في الفكر ، فاستحق مكانته المهمة ليس فقط كناقد فذ وأكاديمي ملهم ومفكر شجاع، إنما كمؤثر في وسائل التواصل وأنموذج سعى الحالمون الجادون إلى استلهام مناقشاته للتراث الشعري، ومقارباته المهمة للإبداع العربي المعاصر، فقرأوا بشغف تدشينه الرائد لواحدة من أهم النظريات النقدية العربية الخالصة والمعاصرة، "نظرية النقد الثقافي" التي قارب من خلالها الإنتاج الإبداعي والفني ، كما أولى دراسات المراة مكانة خاصة، فكان بتواضع شخصيته وعمق نبوغه النقدي وجرأة طرحه الفكري فاتحًا لعهد من الدراسات النسوية الجادة..د.عبدالله الغذامي الناقد السعودي الذي حصل على جوائز عديدة مستحقة أهمها : جائزتي" العويس" الثقافية في الدراسات النقدية، و" جائزة الشيخ زايد للكتاب" عن شخصية العام الثقافية ، تجاوز تأثير مؤلفاته الكثيرة حدود المملكة لتطال الوطن العربي كله، ومن أهم كتبه: " النقد الثقافي مقدمة نظرية وقراءة في الأنساق الثقافية العربية"، "المرأة واللغة " تأنيث القصيدة و"القارئ المختلف" " ثقافة الوهم مقاربات عن المرأة واللغة والجسد"، القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة"...وكان لنا سعادة اللقاء والحوار معه..
1- تقولون في إحدى المحاضرات إنكم تنطلقون وترتكزون على جملة من مقولات الجرجاني، وتبنون عليها ، وتلك دعوة صريحة كما فعلتم في منهجكم " النقد الثقافي" للاتصال مع التراث، لكنكم في مقالة أخرى، أشرتم إلى أن التراث نفسه قابل للاختطاف.
سؤالي : كيف ينجو المثقف العربي المأزوم اليوم بالعولمة والاستلاب الثقافي، من جهة، والمعرّض لانفعالات ووسائل التيارات المتطرفة التي اختطفت ووظفت التراث لخدمة أهدافها من جهة ثانية؟
كل ما هو قابلٌ للتوظيف فهو مفتوح على كل احتمالات التوظيف فالإرهابي مثلا يوظف النصوص الدينية لتعزيز دعاويه ، والمحاماة كمثالٍ آخر تنشط بمعنى إحقاق الحق وكذلك بالنقيض أي بتحويل الباطل إلى حق ، ذاك لأن الإنسان يقوم على قدرات عقلية تسير وفق هواه نحو الخير أو نحو الشر ، وكلنا نرى مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان توظف حسب مصلحة القوى التي يتم التلاعب بها حسب مستوجبات اللحظة بل ان الحرية والعدالة والمساواة كلها وظفت حسب مقتضيات الأحوال ، وكذلك جرى ويجري توظيف التراث حسب هوى النفوس ، وقديماً وظفت الفلسفة منذ نشوئها لتتحول لتبرير الهيمنة وتفضيل عرق على عرق وجنس على جنس .
هذا صراع عقلي وفكري متصل يخضع لشروط الأدلجة وهذا ما تفعله التنظيمات الحزبية من حيث دفع المريدين والمتضررين معاً نحو نوع من الفهم المبني على دعوى الحقيقة والقصد في ذلك هو الاستحواذ على المعاني وجعلها أداةً لتجنيد الصغار سناً أو الضحايا الاجتماعيين لجرهم لتنفيذ مرتب لتنظيم معين ، ومثل ذلك يجري في الخطابات الإعلامية حيث يجري الاستحواذ على المشاعر أولاً ، من أجل تحقيق الاستحواذ على العقول تبعاً لذلك ومن ثم تمرير الأجندات المرغوب بتمريرها والتي يتم رسمها من قبل مكاتب تخطط سلفاً وتسعى لتنفيذ مهمة الهيمنة العقلية والعاطفية ، ولعل أحد الحلول تجاه ذلك هو في تنويع مصادر المعرفة ، وكلما تنوعت مصادرنا صرنا أقدر على إجراء المقارنات بين الأقاويل سواءً الأقاويل المعرفية أو الثقافية أو السياسية أو الاقتصادية ، ومن يتمكن من الوقوف على مصادر المعلومات سيتمكن من المقارنة والقياس ، لأن من طبيعة القوى التي تسعى للاستقطاب أنها تجادل القوى الأخرى وعبر جدليات القوى فيما بينها تتكشف ثغرات الخطابات .
٢- يتقصّى النقد الثقافي الأنساق المضمرة في النصوص ككل، بغية الكشف عنها للتحرر منها غالبا، لكن ثمة من يتساءل : لماذا تركزون على الشعر دون سواه من فنون القول المبدَعة؟
لم اركز على الشعر ، بل تعرضت للفلسفة وللمجتمع وللسياسة ، وكتابي القبيلة والقلبائلية أولا ثم كتابي الليبرالية الجديدة ، وقبلهما خمسة كتب عن المرأة واللغة ، وبعد ذلك ثلاثة كتب في نقد العقل والفلسفة ، وكلها وقفت فيها على دور الأنساق المضمرة من حيث علاقة الوعي بالنسق ، ومن ظن انني حصرت الأمر على الشعر فقط فهو لم ينظر باطروحاتي في الحقول الفلسفية والاجتماعية والسياسية ، وقد ذكرت كتبي في هذه الحقول ، وكلها موجودة في موقعي Alghathami.com ، وهو متاح للتحميل القانوني والمجاني .
٣- دائما ما تشبهون النسق بالفيروس، وتقولون إن الذات هي مرتكز هذا النسق، هكذا تصبح الذات الفردية والجماعية منتجة الأنساق، فكيف تفسرون مقولة " اغتراب الذات الشاعرة"؟ وهل تبشر بتحرر الشاعر من أنساقه الثقافية والمجتمعية؟
لا الشاعر ولا غير الشاعر يستطيعان التحرر من الأنساق ولن يتحرر الناقد أيضاً إلا لو تحرر الطبيب مثلاً من الفيروسات ، وحسب الطبيب أن يتعرف على الفيروس وأن يحاول تعريفه وتمييزه والتعرف على فعله وتأثيره ، وكذلك الحال مع الأنساق فهي تصيب الكل ودورنا هو في التعرف عليها وكشفها ومن ثم الوعي بها ونقدها ، وهذه هي مهمة الناقد الثقافي التي تشبه مهمة الطب في التعرف على الفيروسات ولكن لن يأتي اليوم الذي تنتهي فيه الفيروسات ولا اليوم الذي تنتهي فيه الأنساق ، وتظل مفاهيم الهيمنة وتضخم الذات والتعالي على المختلف ، وتحويل الجميل إلى قبيح ، ستظل هذه كلها انساقاً تتجدد وتبدل جلودها وتحتال لديمومتها لأن النفس البشرية ميالة للتركيز على الذات مقابل سحق الغير ، وإن بدرجات ، وتاتي الخطابات الثقافية لتعزز ذلك من حيث هي منتوج ومنتج بشري فيها أحوال البشر كلها حسنها وسلبيها .
٤- ثمة ضجة إعلامية كبيرة حدثت بعد وصفكم لأدونيس" أبي الحداثة" كما عدّه كثيرون، ب" الحداثي الرجعي الذي لم يتخلص من فحولية أسلافه"
بأي معنى يصبح أدونيس بما يمثله متهَمًا بما نظّر وناضل ثقافيًا للتحرر منه؟ وهل هذا ما أعاق انعقاد مناظرة فكرية مع أدونيس بعد زيارته الأخيرة للسعودية؟
ما أعاق المناظرة بيني وبين أدونيس هو أدونيس نفسه ، وهو وحده يملك الجواب على ذلك ، لأنه وافق على المناظرة بيننا ، ثم كرر الموافقة وأكد ووافق على الموعد والمكان ، ولكنه فجأة اعتذر ، فالجواب حصرياً عنده وحده ليبين لماذا وافق مرتين ثم اعتذر .
أما مسالة رجعية أدونيس فقد ناقشتها بتوسع في كتابي النقد الثقافي ، وكذلك وقفت على أبي تمام والمتنبي ونزار قباني ومثلهم أدونيس وأعملت منهجية النقد الثقافي كما أعملتها على أفلاطون وعلى الجاحظ ، وعلى الخطاب الشعري عند العرب. والخطاب الفلسفي في أوروبا والخطاب السياسي في أمريكا ، وهذا بحث منهجي ومعرفي مبني على نظرية النقد الثقافي .
ولو كان المتنبي ونزار أحياءً لقالوا عني أفدح مما قاله ادونيس عني ، وهو كان يتوقع مني مدحاً فهاله أن انتقده ، وقديماً قال المتنبي ( وعداوة الشعراء بئس المقتنى ) .
٥- إذا كان العقل _والكلام لكم_ يتغير بحسب المكان، الزمان ،الذات والتحول..
فالإنسان العربي المعاصر في زمن العولمة والانفتاح شهد تحولات جذرية كبرى ، السؤال :
لماذا ما زلنا نشهد أزمة في العقل العربي المعاصر وتأخرًا في الإنتاج النقدي والمعرفي والعلمي؟
الأزمات المعرفية لا تخص العقل العربي وحده ، بل هي معضلة ثقافية شاملة منذ زمن أفلاطون وحتى اليوم ، وأفلاطون هو من قال مثلاً إن المساواة والحرية شر مؤكد لأنهما يساويان بين العبد والسيد ، وهذا بداية مرعبة للفلسفة وهي تتكرر في الاقتصاد الرأسمالي وفي السياسة الليبرالية وفي النسقيات في أوروبا الحديثة أوروبا الاستعمار والعنصرية وفي وريثة أوروبا التي هي أمريكا بكل نسقياتها الثقافية الاستعلائية ، وهذا يحدث على مستوى كل الثقافات ، أممًا وأفراداً ، وأزمة العربي هي أيضا أزمة كل إنسان على وجه البسيطة ، فقط تختلف العناوين والمستويات ، أما الإنتاج فليس من العدالة القول ان النتاج الإبداعي والنقدي العربي متأخران ، بل لدينا إبداع عظيم وخطاب نقدي عظيم ، ومهما لاحظنا من نصوص متخلفة فإن الجيد عادة هو الأقل ، ويكثر الرديء بجوار الجيد وهذا طبع ثقافي كما نرى مثلاً إعلاماً عالمياً جيداً وبجانبه غثاء كثير . والعبرة فقط في اتجاه الرؤية ، وإن طلبنا الجيد فلن نعجز عن تمييزه .
٦- الكثير من المختصين اليوم ، يعيدون تعثر المشهد الإبداعي عن التفرد والتميز لتراجع في المشهد النقدي، بينما يرى آخرون العكس إذ يتأخر النقد بمعنى التقاعس عن الفن عموما والأدب خصوصا،
باستثناء نظريتكم " النقد الثقافي"، لماذا ما زال العربي عاجزا عن اجتراح مناهجه النقدية الخاصة وهو المتكئ على تراث معرفي وأدبي ثري؟
الحقيقة أني لا أرغب بجواب قد يجر إلى احتمالات سلبية وكأنني أعرّض بجهود غيري من النقاد والباحثين ، وكلٌّ يرى أن عمله هو الأحسن والأنجع ، والخوض في هذه الأمور بين الأنداد سيجر حتماً لنوع من المنافسة السلبية ، أما أنا فهمي هو منهجيتي في ( النقد الثقافي ) ، ولا يزعجني هنا سوى الخلط الذي لا يميز بين الدراسات الثقافية وبين النقد الثقافي ، وهو خلط يقترفه البعض فيشوهون عملهم أولاً من حيث تلبيسه بغير لبوسه ومن حيث ادعاؤهم ما لا يتسق مع عملهم ، وهذا تشويه معرفي يجعلهم في خانةٍ سلبية وكأنما يغطون على نقص في معرفتهم بمنهجيات النقد الثقافي ، وقد وضحت الفرق بين النقد الثقافي والدراسات الثقافية في الفصل الأول من كتابي النقد الثقافي الصادر عام 2000 كما وضحت المنهجية المتبعة للنقد الثقافي في الفصل الثاني من الكتاب وما يعزز ذلك ويثبته هو التطبيقات في الكتاب نفسه وفي كتابي المرأة واللغة وكتابي الليبرالية الجديدة وكتابي القبيلة والقبائلية ومشروعي في نقد العقل ، وهي كلها أعمال وبحوث تطبيقية في النقد الثقافي ، ولذا أشعر بالضيق على حالات التطفل الثقافي لدى من يكتبون أعمالًا هي من جنس الدراسات الثقافية ويلصقون فوقها عنوان النقد الثقافي تشويشاً وتشويهاً ، وهذه خطيئةٌ علمية لا تصح من أي باحث يحترم نفسه ويتورع من تسمية عمله بغير اسمه .
٧- منذ الأمس القريب ، يتحول القلم الذي بقي طويلا أداة ذكورية إلى وسيلة إشهار تفصح عن خطاب مؤنث، تعبر به المرأة عن ذاتها المستلبة، فهل نجحت المرأة العربية الشاعرة أو الساردة أو المفكرة بتجاوز فحولة اللغة ،والخروج بها إلى فضاء مؤنث؟ وهل سنشهد ريادة نسائية في الفكر الإنساني والعربي قريبا؟
نعم نجحت المرأة المبدعة والمرأة الناقدة ، وحققت نجاحات نوعيةً كبيرة ومفصلية ، وتدرجت المرأة باتجاه تأنيث الذاكرة وتأنيث ضمير اللغة عبر تأنيث المكان وتأنيث السياق ، وقد تتبعت ذلك في كتابي المرأة واللغة وما تلاه من كتب في المشروع نفسه ، وعددها خمسة كتب كلها عن إبداعية المرأة وتحولاتها الكبرى .
٨- يقودنا السؤال السابق ، لموضوع النسوية ، هذا المفهوم المتهم بالاستيراد و بالتطرف لقضايا المرأة وحقوقها، بين الشعبوية والإتهامات بالخروج عن العرف السائد ، كيف يقارب الغذامي هذا المفهوم؟
مصطلح النسوية مثله مثل أي مصطلح يخرج من دوائر التخصص إلى دائرة الاستخدام العام ، وهذا حدث من قبل لمصطلح العلمانية ومصطلح اللبرالية وهما معاً مصطلحان دخلا في العموم المطلق فاكتسبا دلالات تتحفز لتوظيفهما حسب مراد المستخدم مما أوقعهما في شبكة دلالية بين الإيجابي والسلبي وكذا حدث مع مصطلح النسوية الذي تحول لمصطلح ٍموشوم ويتصبغ بألوان تلحق به مع استخدام توظيفه حتى ليبدأ الحكم عليه حسب اسم وصفة من يستخدمه ، وتنطلق الأحكام على مستخدميه ومستخدماته وما بان من سلوك المستخدمين ، فهو إذن مصطلح خاضع لحالٍ سلوكيةٍ وليست حالاً علمية ولا جدلية معرفية ، فإذا تعامل الملحد مع مصطلح العلمانية أو الليبرالية سيحسب قوله في سياق الإلحاد حتى ليعلق في المصطلح نفسه أنه يعني الإلحاد ونفي الدين ، فقط لأنه جرى على ألسنة ملحدين مثلاً ولن يستطيع غير الملحدين أن يصححوا مسار المصطلح وتحريره من الوشم وهذا أمر مشهود وملحوظ وكذا هي حال النسوية ولذا تجنبت استخدام هذا المصطلح في كتابي المرأة واللغة وما تبعه من كتب عن قضية المرأة وهي خمسة كتب ، خوفاً من تشويه حال الاستقبال لكتبي ومقولاتي ، بينما منهجيتي تعتمد الموضوعية العلمية وستفقد كتبي صبغة الموضوعية بسبب الآصباغ المقحمة على كلمة النسوية وهي تعود لأسباب تتعلق بمن استخدموا المصطلح للتشنيع على الخطاب التنويري للمرأة أو استخدام بعض النساء للتغطية على تطرف ثقافي يقول بالتمرد السلبي والرفض المطلق ، وليس المصطلح في صيغته المنهجية متطرفاً ولا هو منحاز لولا سوء استخدامه من الفكر الرجعي والفكر التحريري معاً ، ولذا يحتاج الباحث الموضوعي المنهجي ان يحرس خطابه من مآزق سوء الفهم والتلبيس ، وهي حال قاتلة تشوه الخطاب وتفسده .
Comments