top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

د. منتصر نبيه: الأدب الرقميّ وإشكاليّة النسق الثقافي


د. منتصر نبيه - مصر
د.منتصر نبيه

د. منتصر نبيه: الأدب الرقميّ وإشكاليّة النسق الثقافي - مصر

إذا كان النسق الثقافي يشير إلى تلك التراكمات والأبعاد المعرفيّة التي تحيط بإنتاج نصّ ما خارج حدود أدبيّته، وجماليّاته الفنيّة، فإنّ الأدب الرقميّ واجه عدة تساؤلات تتعلق بظهوره ونشأته، وكذلك، آليّات إنتاجه، كأحد أنواع النصوص التي ظهرت مرتبطة بهيمنة اتجاه ما بعد الحداثة في الدرس الأدبيّ، وهذه التساؤلات مثلت إشكاليّة معرفيّة فرضتها طبيعة ذلك النسق الثقافيّ الذي تبنى ظهور الأدب الرقميّ بكافة أشكاله وأجناسه المختلفة.

وإذا كان تيار ما بعد الحداثة يتشكك في الأفكار والنماذج العامة، ويؤمن بالشتات وعدم الاستقرار في الكليّات الفلسفيّة والثقافيّة والفكريّة، والأدبيّة كذلك، إذ جعله الفيلسوف فرانسوا ليوتار في كتابه حالة ما بعد الحداثة: تشككًا موجهًا إلى الادعاءات الكبرى، فإنّ الأدب الرقميّ نشأ في ظلّ هيمنة أفكار هذا الاتجاه، حيث مثل تعدد وتشابك وسائل التكنولوجيا والاتصال الحديثة حالة التعدديّة التي يعيشها إنسان القرن الحادي والعشرين، كما أنّه عبر عن أشكال الغموض والتناقض والتشتت التي أصبحت ملازمة للنص الأدبيّ بشكل خاص، إذ لم يعد النص الرقمي يستند على فكرة المركز، والمرجع، والمؤلف صاحب الكلمة الأولى والأخيرة في النص. من هنا بدأت تظهر تلك الإشكاليّة التي تتعلق بالنسق الثقافي الذي أذن بظهور فكرة النص الرقمي، وهذه الإشكاليّة ربما تجلت بشكل كبير في عدة تساؤلات صاغتها ألسنة بعض من يرفضون الحداثة وما بعدها، ويتخوفون من التجريب والخوض في غمار كل ما هو جديد، لا سيما في حقل الإبداع الأدبيّ بشكل خاص، وكان من أبرز هذه التساؤلات: كيف تتوافق التكنولوجيا بمكوناتها الماديّة مع الأدب وما يحمله من تخييل؟ وما العلاقة التي تربط المعرفة المعلوماتيّة ـ التي تتمثل في الوسائل التكنولوجيّة وما تقدمه من إمكانات ـ بالنص الأدبيّ وما يقدمه من أدبيّة؟ وهل الثقافة العربيّة مؤهلة لتقبل ذلك الوسيط الرقميّ الجديد في مقابل الاستغناء عن الوسيط الورقي؟ وهل هي مؤهلة للتعامل مع ذلك النص الجديد وما يصاحب ذلك من معرفة بالتكنولوجيا الحديثة والتعامل معها؟ كذلك هل يمكن للمبدع العربيّ صاحب النصّ أن يعترف بشراكة المتلقي، وكذلك المبرمج، في عمليّة تأليف النص وتشكيله، أم أنّ عقليته نشأت على فكرة السلطة الإبداعيّة المطلقة تجاه النص؟ ثم يأتي السؤال الأكثر إشكاليّة وتوترًا، وهو: ما هو موقف النظريّة النقديّة من فكرة العولمة التي صاحبت النص الرقميّ؟ بمعنى: كيف يمكن الوقوف عند جنس أدبيّ محدد للأدب الرقمي في ظلّ نص قادر على استيعاب عديد من الوسائط المتعددة من صور، وموسيقى، وفيديو، ونصوص وفنون أخرى متنوعة؟ هل تلك النظريّة أصبحت الآن غير قادرة على التعامل مع ذلك النتاج الجديد؟

لعل معظم تلك التساؤلات السابقة تتعلق بفكرة تقبل الثقافة العربيّة بذلك النسق الثقافي الجديد_ ما بعد الحداثة_ وما صاحبه من ثورة تكنولوجيّة سريعة، هذه الثورة عملت على إحداث فجوة تكنولوجيّة بيننا وبين الغرب، إذ إننا ـ دائمًا ـ نتخوف من كل ما هو جديد، ولذلك يؤكد الدكتور سعيد يقطين، في كتابه: النص المترابط ومستقبل الثقافة العربيّة، على محاولة تخطي تلك الفجوة بسرعة حتى لا تحدث هزّة في الفكر والثقافة العربيّة. هذه الفجوة يطلق عليها الناقد أحمد فضل شبلول في كتابه: أدباء الإنترنت أدباء المستقبل، اسم: رهاب التكنولوجيا، وهي حالة من الخوف والترقب من التكنولوجيا والتقنيات الحديثة.

ويمكن النظر إلى التساؤلات السابقة، ومحاولة تقريب وجهات النظر المختلفة بناء على المرجعيات الثقافيّة التي بدأ ينهل منها أدبنا، بأن قضيّة الصراع بين ماديّة العلم وحسيّة الأدب من القضايا المتغلغلة في جذور التاريخ، فالإبداع الأدبي لا يمكن أن يتخلى عن أدبيّته المعتمدة على التخييل مهما ارتبط وتأثر بماديّة العلم، وقد ظهرت ملامح هذا الصراع كثيرًا في التراث العربيّ عند الحديث عن قضيّة الطبع والصنعة، ولكن يمكن النظر إلى مثل تلك الإشكاليّة من خلال الإيمان بحقيقة التكنولوجيا في حياتنا، وأنها أصبحت من ضرورات الحياة، لذلك يذكر هربارت ماركوز، في كتابه: الإنسان ذو البعد الواحد، أن التكنولوجيا أصبحت شيئًا إجباريًّا وليس اختياريًّا، ومن ثم لا بدّ للأدب ـ وهو منتج ثقافيّ يخضع لتطورات العصر ـ أن يواكب ذلك التطور، وأن يخوض غمار تلك التجربة مع ما يتوافق والذائقة العربيّة، بعيدًا عن الأفكار التي تنادي بالعولمة الثقافيّة، وهيمنة نموذجٍ ما على بقيّة النماذج الأخرى، هنا يمكننا أن ننشئ أدبًا رقميًّا يمكن الاعتراف به ضمن منتجات الإبداع العربيّ.

وإذا استطاع المبدع العربي أن يتسلح بالثقافة التكنولوجيّة التي أصبحت_ كما ذكرنا_ إجباريّة، فإنّه سيكون قادرًا على التعامل مع مثل هذه النصوص إبداعًا وتلقيًا، عندها سيؤمن بفكرة التعدديّة التي يطرحها الأدب الرقمي، ومن ثم يكون مؤهلًا لتقبل فكرة أنّ علاقته بالنص تنتهي بمجرد طرحه للجمهور، لتبدأ مرحلة تأليف جديدة يتزعمها المتلقي. وهذه الفكرة نجد لها أصداء من قِبل اتجاهات رافقت رواج النص الورقيّ، والتي تمثلت فيما عرف لدى رولان بارت بنظريّة موت المؤلف. الأمر يحتاج فقط إلى الإيمان بكل ما هو جديد، وعدم العودة للخلف من أجل الوقوف عند حدود معينة وعدم تخطيها؛ خشيّة الخوف مما هو جديد. نحن نحتاج إلى وسطيّة في التلقي، وجرأة في الإبداع، حتى نتخطى تلك الفجوة الرقميّة الراهنة.

بقي أخيرًا النظر إلى ممارسات النظريّة الأدبيّة تجاه تلك النصوص الجديدة، فإذا كانت هذه النظريّة لا تزال عاجزة عن مواكبة ما حدث للأدب من تطور وتحديث، فإنّنا بالفعل نتطلع إلى نظريّة نقديّة ربما رقميّة، يمكنها التعامل مع النصوص الرقميّة بكافة أشكالها، وتحديد الملامح العامة التي تشكل هويّة كلّ جنس أدبيّ/ رقميّ على حدة، مع الأخذ في الاعتبارما ذكرته زهور كرام، من: أن ما يحدث في المجال التخييليّ الرقميّ ليس قطيعة، بقدر ما هو تغيير سؤال الأدب.

إنّ أيّة محاولة من محاولات التجريب لا بدّ أن تمُرَّ بمجموعة من التحديات، ربما نظنّ بعدها أنّها توقفت عند هذا الحد، أو فشلت في تقديم ما هو جديد نتيجة تلك التحديات، لكنا نؤكّد على أن الدراسات الإنسانية_ والأدب منها بصفة خاصة_ لا تعرف الكلمة الأخيرة، ولذلك يجب ألا نتوقف عند حدود التقليد، أو نغالي في مواكبة الحديث، حتى لا نقع في تخبط تجاه الإشكاليّة التي تنسب الأدب إلى أنساقه الثقافيّة السائدة.



٠ تعليق

Comments


bottom of page