دينا الشيخ: نسق آخـــر.. لكل كمال نقص، وفي النقص كمال أيضا
"التغيير يحدث ببطء شديد، ويحدث فجأةً أيضًا"
دورثي برايان
التوحد مع فكرة والتماهي مع أبجدياتها، يمكن أن نقول إنه أول نافذة تمد يدًا لتصافح أنت حقيقتك التي تعرفها مسبقًا أو ستكتشفها لاحقًا. في مجتمعات تتماسك فيها وحدة العائلة وحلقة الأصدقاء، ليس من الغريب أن تجد من يحقق رغبات الآخر وطموحاته وتطلعاته بتسليم فترة وجوده على الأرض لفكر غيره. نظرة الآخرين تضعنا في حيز يعكس صورة ما رُسمت من طبيعة شخصيتنا الظاهرة لهم، أو من خلال عدسة لم تسعفها ثقافة الفهم الناضج للحياة واحتمالاتها المطاطية الأفاق، منهم من يريدنا أن نحقق ما عجزوا عنه؛ لأنهم صلبوا على عتبات أنهم ضحية الزمن والخسارات.
فخ لا يسلم منه الكثير من الناس، يصبحون ضحايا لضحايا سابقين، ليفقدوا ذواتهم بتشويش مهّد له دفء العلاقات والنظرة "البعيدة" لشخص يؤتمن.
نسق آخـــر
أن تنحصر التجربة في ذات الأنماط والدوائر المتاحة بحكم البيئة المحيطة، ما هو إلا استنساخ لخلاصات مكررة، والنجاح في استنساخ تجربة ناجحة فشل "لطيف" إذا لم يَستحِدث ويأخذها إلى مدىً أبعد، وحين تقول الآية الكريمة: (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ) فهذه دعوة مفتوحة للتجريب.
أن تمنح عقلك فرصة ليمارس تمرده على الانسياق المعتاد، ليستكشف العوالم البكر هنا وهناك؛ فهذه رخصة معرفية وإبداعية تتناسل منها حيوات وحيوات.
بين اختيارات ومغامرات مجهولة في بداية طريق، لن تمنح الرؤية نفسها بسهولة للكثيرين، لأن التجربة لم تحدث بعد. يحدث التغيير بعد تردد أو اندفاع، ولكلٍّ منهما احتمالان: أن تجف الشجرة في فكرة بذرتها، أو أن يصادف القدر ضالته فتنبجس ماء القدرة إن تم الأمر.
يقول خزعل الماجدي: (في البدايات تكمن النواة الأولى وشفراتها البدئية، ويجتمع عندها كل تاريخ الشيء والظاهرة، ولكننا لا نشعر بكل ذلك للوهلة الأولى، فالتأمل العميق وحده الكفيل بأن يشعرنا بذلك ويجعلنا قادرين على فهم ما جرى).
أن تقف في الطريق بعد أن تلونت ببعض أمطاره وقصصه وشربت من كل بئر ونهر في انتقالك من حالة لأخرى، هو طقس ضروري؛ لتلمس ملامحك مرة أخرى، والسؤال الذي سيكبر مع الوقت؛ هل ما أنا عليه الآن يشبهني؟! هل وجدتني أخيرًا؟!
لكل كمال نقص، وفي النقص كمال أيضا
الإجابة ليست سهلة دائمًا؛ فلكل كمال نقص، وفي النقص كمال أيضًا. ربما تثمن كل المشاق التي أوصلتك لذروة الحلم وصرحه الكبير، وربما تذهب الأصوات القديمة التي ضجّ بها رأسك طويلًا في مهب الريح، وتمزق ما بيدك لأنه خالٍ منك، وتبحث عنك بلا هوادة مجددًا. لذلك كانت سطوة البداية تعلو على خلاصة النهاية بكل احتمالاتها.
يقولون إن استطعت أن ترى نفسك في مكان ما، ولم تلتبس عليك الرؤية والطرق، فقد وصلت إلى حقيقتك وأفقٍ خُلق لطاقتك الكامنة، تبدأ الرؤية ثم تتحقق أنت، فما لم تره أكثر بعدًا ومشقةً.
الطفل لحظة ولادته، يأتي بهوية مجهولة، يضع أقدامه الصغيرة في حقل تجارب يصقل صوته وقبضته ونظرة عينيه، ليفرّغ فيه طاقة ما، تسمى بعد معالجات كثيرة، بسيرة أو تجربة. لذلك الحكم على مخاضات في طور نشوء أو تحولات في مستهل الرحلة أو حتى منتصفها، ليس بالضرورة من الفراسة في شيء. حين تُختتم التجربة الكاملة بالوصول إلى حافة الزمن المعار، يمكن ساعتها بثقة توثيق الصورة بكل تجليات الطريق الأولى والآخرة.
Comments