top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

 رضا عطية: الرواية العربية الحداثية في عصر النهضة (الليبرالية المصرية)


رضا عطية - مصر
رضا عطية - مصر

 رضا عطية: الرواية العربية الحداثية في عصر النهضة (الليبرالية المصرية)

 سيمضي بنا أي تناول لبدايات الراوية العربية إلى "أحراش" من المعلومات ومتناثرات من النصوص في مختلف البلدان والأقطار العربية وسيعود بنا إلى عدد من التواريخ الزمانية ترجع إلى أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ولنا أن نجمل ونختار أبرز هذه البدايات في تجربتين هما تجربة جورجي زيدان في كتابة القصص أو الروايات التاريخية وتجربة محمد حسين هيكل صاحب رواية زينب (1919) التي ذهب أغلب الباحثين والنقاد إلى اعتبارها أول نص أدبي مصري عربي يمكن أن يعد رواية بالمفهوم الحديث للرواية.


وبالطبع لا يخلو أدبنا العربي القديم والجديد فيما قبل هذه الحقبة التاريخية من نصوص وأشكال سردية وأنماط كتابية تنتمي إلى جنس القص أو الحكي، ولكن ليس هذا مقصد موضوعنا الذي نحن بصدده. وبالطبع أيضًا ثمة أكثر من بداية أو بالأحرى مجموعات من البدايات تخص كتابة الرواية العربية؛ إذ مرت بتطوَّرات فنية وتناميات مفاهيمية تخص النوع حتى أخذت تترسخ كشكل فني يرتبط بقواعد وأصول الفن الروائي الحديث في الثقافة العالمية وتحديدًا الغربية.

بدايات

ما نتعرض له في مقالنا هذا هو بدايات الرواية العربية بعد أن أخذ مفهومها يستقر في الأذهان وبدأ الاستقرار على معرفة شكلها وإدارك قواعدها يتحقق، بمفهوم الرواية الحديث التي ظهرت في أوربا التي يُرجع تاريخ بداياتها إلى القرن الثامن عشر وإن كانت هناك محاولات وإرهاصات سابقة تعود إلى بدايات القرن السابع عشر كالنص الخالد، دون كيشوت، لسيرفانتس، أي أنَّ ما نركِّز عليه في هذا المقال هو الرواية العربية الحداثية المكتملة التشكيل الفني، استيفاءً لنظام السرد الروائي في نمطه الحديث الذي ظهر في الغرب.

ويعد عصر الليبرالية المصرية في تلك الحقبة التاريخية التي امتدت لما يناهز ثلاثة عقود من عشرينيات القرن العشرين حتى منتصفه تقريبًا هو العصر الفكري الزاهي الذي عاشته مصر، نتيجة حالة النهضة القومية وحصول مصرعلى استقلالها في العام 1922، وسعي الأمة إلى تأكيد استقلالها وخصوصية هويتها، فضلاً عن الانفتاح الثقافي ومد جسور التواصل المعرفي والتلاقح الفكري مع الغرب بعد عقود من إيفاد البعثات في مختلف صنوف المعارف إلى الغرب وبالأكثر فرنسا، طلبًا لعلوم الحداثة الإنسانية وتعرفًا على فنونها وآدابها.

وفي اختيارنا لنماذج من تجارب كتابة الرواية العربية بعد أن بدأ وجودها كجنس أدبي يستقر في أذهان القراء حتى وإن أبقى بعضهم على تسميتها بـ"القصة"، نختار نموذجين لتجربتين لعملاقين سطرا اسميهما في تاريخ الثقافة والأدب العربي بحضور بارز ووجود خالد هما طه حسين وتوفيق الحكيم.

يبدو اختيار طه حسين وتوفيق الحكيم تحديدًا كنموذجين لرواية الحداثة العربية، لعدد من الأسباب، منها: أن كليهما تمثيل لعصر النهضة الفكرية والليبرالية في مصر التي كانت مركزًا للإشعاع الفكري والإشراق الثقافي في الشرق والوطن العربي، كذلك فإنَّ كليهما صاحب تجربة عريضة ومتشعبة المجالات ومتعددة الممارسات في الأجناس الكتابية والأنواع الإبداعية، فطه حسين خاض مجالات الكتابة الفكرية والنقدية بكافة مدارتها وكذلك الإبداع السردي في عدد من النصوص الروائية، أما الحكيم الذي يعد رائدًا للكتابة المسرحية العربية بعد استقرارها في سمت حداثي للدراما المسرحية، أبدع أيضًا في نوعي الرواية والقصة، إضافة إلى كتاباته النثرية والفكرية.





طه حسين
طه حسين

طه حسين: مشروع سردي ثري

كان سرد طه حسين نموذجًا فنيّا غنيًا لأدب الواقعية الاجتماعية، ومثالاً يحتذى في فنيات الكتابة في هذا النوع، وكانت شخصيات رواياته بمثل كونها نماذج إنسانية خاصة بمثل ما هي تمثيل متنوع للشخصية المصرية في هذا الوقت، في جوانبها المتنوعة، وحالاتها المختلفة، وبمثل تنوع سرد طه حسين في موضوعاته وشخصياته وبيئات أحداثه كان تنوعه الثري أيضًا في أساليبه الفنية وآلياته التعبيرية، فتجيء روايته العظيمة دعاء الكروان التي أصدرها في العام 1934 لتكون بمثابة نقلة نوعية مهمة في فن الرواية العربية، ليس لتميز موضوعها الذي يتعرض للظلم الاجتماعي والقهر الواقع على الأنثى فحسب، ولكن لحداثة أسلوبها السردي حيث إطلاق الفرصة للأنثى لتكون لسانًا ساردًا ناطقًا وصوتًا يروي الأحداث ويكشف عما يخلتج في النفس من مشاعر هادرة، عبر صوت آمنة، فيمنح طه حسين المرأة حقها في أن تكون ضميرًا للسرد وشاهدًا معبرًا عن مأساة إنسانية بالغة القسوة، ولنا أن نعاين ذلك في مقطع من هذه الرواية، عبر صوت "آمنة" الشخصية الرئيسية في الرواية وبطلة "القصة" أو الحكاية المسرودة عن مأساة أختها:

منذ ذلك الوقت تمَّ العهد بينك وبيني أيها الطائر العزيز على أن نذكر هذه المأساة كلما انتصف الليل حتى نثأر لهذه الفتاة التي غودرت في هذا الفضاء، ثم نذكر لهذه المأساة كلما انتصف الليل بعد أن نظفر بالثأر (....)

لبيك لبيك أيها الطائر العزيز! إنَّا لنلتقي كلما انتصف الليل منذ أعوام وأعوام، فندير بيننا هذا الحديث، أفتدعني أقص أطرافًا منه على الناس لعلهم أن يجدوا فيه عظة تعصم النفوس الزكية من أن تزهق، والدماء البريئة من أن تُراق؟!

لقد بَعُد صوت الكروان قليلاً قليلاً حتى انقطع ولم يبلغني منه شيء، وعاد الليل إلى سكونه الهادئ الثقيل، واطمأنَّ من حولي كل شيء، فما أسمع إلا هذه الدقات المنتظمة تصدر عن الساعة غير بعيد، وهذه الدقات المنتظمة تصدر عن هذا القلب الحزين. وأنا آخذ نفسي بالهدوء لألائِم بينها وبين ما حولها فلا أوفق لبعض ذلك إلا في مشقة وعناء، وأنا أمدُّ عيني إلى المرآة أمامي وأثبتها في أديمها الصافي الصقيل حينًا فتعود إليَّ بصورة إلا تكن رائعة بارعة، فإنَّها لا تخلو من رُواء ونضرة وحسن تنسيق، وما لي أسأل عن صورة هذه المرآة الجامدة الهامدة التي لا تحسُّ شيئًا ولا تشعر بشيء ولا تعرب عن شيء، وإنَّي لأرى صورتي مرَّات ومرَّات في غير مرآة من هذه المرايا الحساسة الشاعرة البليغة التي تحسن الإفصاح عما في النفوس، وهي العيون!

تتبدى بعض سمات الرواية الجديدة أو الشكل الروائي الذي بدأ الأدب العربي يعرفه، من حيث مراوحة السرد بين وصف الحدث الخارجي وتمثيل الآثار النفسية له في داخل الذات, ثمة تطوُّر فني حدث في كتابة "قص" عربي يتخذ شكلا روائيًّا يماثل فنيًّا وتقنيًّا الشكل المتعارف عليه في الأدب العالمي للرواية الحديثة. لم يعد النص مجرد "حكاية" أو سرد لأحداث ومواقف تتعرض لها الشخصيات، بل أمسى مجموعة من المكوِّنات والبنى المتمازجة في تشكيل فني وتفاعل هارموني، فتجاوزت الرواية العربية في شكلها الجديد وطورها المؤسس للنوع الأدبي الجديد في الأدب العربي مسألة الحكي عن حركة الأشخاص ومصائرهم وما يدور بينهم من أحداث إلى العناية كذلك بسرد الخلفيات وتناول الأشياء والنثريات الدقيقة التي تُسهِم في تشكيل المشهد السردي، ثمة عناية بمكوني "الشكل" و"الأرضية" أو "الخلفية في الصياغة الفنية للرواية العربية في طورها التأسيسي الجديد.

يتجلى سبق طه كاتبًا مبدعًا وصاحب منجز فريد ومنتج سردي ليس في مساهمته في تأسيس أدب الواقعية الاجتماعية في فن الرواية ولكن أيضًا في تقديمه ما يمكن أن نسميه السرد النفساني، بجلائه عبر مرايا شخوص رواياته التموجات الشعورية والذبذبات النفسية لأبطال حكاياته الذين هم بعض نماذج أيقونية لقطاع من شخصيات الواقع، فضلاً عما امتاز به سرد طه حسين من شعرية خاصة تبدت في موسيقى لغته المتبدية في إيقاعية جمله السردية الواصفة واستعاراته التمثيلية المعبِّرة عن الحالات والمشاعر والأفكار وهذه الالتقاطات الاستعارية التي تسجلها عين الكاميرا السردية في تكوين مشدي يجمع بين حركة الخارج والداخل في آن، وفي مزج رابط بين أشياء الخارج كدقات الساعة وفعلية الداخل كدقات الساعة ما يمنح تشكيله السردي ثراء في معطياته ومخرجاته على مستويات عدة، سواء على مستوى خطابه والدلالات المنتجة من خلال قصه المبرز لمأساة الأنثى ومأساة ذات إنسانية معذَّبة، أو على مستوى شعرية التشكيل السردي الناجمة من موسيقى الجمل في تتابعاتها وتوازياتها وكذلك من إنشائه ما يمكن أن نسميه المفارقة الاستعارية، كما هو باد بين انتظام دقات الساعة واضطراب دقات القلب.

يتبدى لنا أن طه كان يقف على مسافة واحدة بين الذائقة الشعرية لتلقي الأدب، كما تجلى هذا في أسلوبه السردي المموسق والمهندس الإيقاع والمُطَعَّم بالاستعارات والوعي الجمالي الطليعي، بمعايير ذلك العصر والرغبة وفي التجريب الواعي والتأسيس الأسلوبي، بتقديم نماذج فنية بأسلوب جمالي حداثي معبر عن أغراض النص ويخدم مقولات الخطاب السردي ليكون صاحب سبق تأسيسي وريادة فنية.

وبالنظر إلى مدخلي النص الروائي لطه حسين ممثلاً في إهداء إلى العقاد ومقدمة حول قصيدة نظمها خليل مطران في نص طه حسين،


عباس محمود العقاد
العقاد

خليل مطران
خليل مطران

نجد أنه يكتب الرواية وعينه على (أو في اعتباره) ثنائية الشعر والنثر، فيقول في إهدائه إلى العقاد:

إلى صديقي الأستاذ الكبير عباس محمود العقاد

سيدي الأستاذ

أنت أقمت للكروان ديوانًا فخمًا في الشعر الحديث، فهل تأذن في أن أتخذ له عشًّا متواضعًا في النثر العربي الحديث، وأن أهدي إليك هذه القصة.

تحية خالصة من صديق مخلص.

طه حسين

وأرود طه حسين في مقدمته لنص دعاء الكروان قصيدة لخليل مطران عن نصه:

أتيح لهذه القصة أن تبلغ من نفس شاعرنا العظيم خليل مطران موضع الرضا، فأهدى إليَّ هذه القصيدة الرائعة، فضلاً منه أتقبله فخورًا شكورًا، (...):

دعـــــاء هـــذا الكـــــــــــروان الذي            خلَّدته في مسمع الدَّهرِ

له صدى في القلب والفكر من           أشهى متاع القلب والفكر   

آيات طـــــه نـــزلت بالهــــــــــــدى           فيم استعارت فتنة السحر

أحــــــدث ما جاءت به طُــــــرفَة           بديـعة في أدب العـــــــصــر

جَلتْ خيـال الشعر في صورة            أغارت الشـعرَ من النـثـــــر

يكشف مدخلا النص الممثلان في الإهدء والمقدمة أن ثمة أثرًا فاعلاً في عملية التلقي الأدبي لثنائية الشعر والنثر، على ما تحمله هذه الثنائية، ضمنيًّا، من مفاضلة بين النوعين، وأن ثمة جمعًا لفنون الكتابة النثرية المتنوعة لتُوضع في مقابل الفن الشعري، كذلك يتبدى جليًّا أن مصطلخ الرواية لم يكن قد استقر بعد في أدبيات خطابات التلقي الأدبي واستمرار المصطلح الأقدم "القصة" تصنيفًا لهذا النوع الحديث على الأدب العربي، وهو ما قد يفسر بعض السمات الأسلوبية في كتابة طه حسين الروائية وبخاصة لغة السرد التي تحمل بعض آليات التعبير الشعري، كالاستعارات والجمل المموسقة التي تمضي على إيقاع سيمتري أو تنشأ من متقابلات، وهو ما أضفى على فن الرواية العربية في تشكُّلها الجديد خصوصية فنية نابعة من السياق الثقافي لهذا العصر وأدبيات التلقي.



توفيق الحكيم
توفيق الحكيم

توفيق الحكيم: السرد الرؤيوي المتنوع

لما كانت تجربة توفيق الحكيم في كتابة الرواية العربية ذات ريادة في تقديم فن الرواية إلى الأدب العربي في مرحلة بدايات نضج هذا الفن- فإنَّ الحكيم في نصوصه الروائية الأولى قد قدَّم موضوعات مختلفة متعددة وأشكالاً متنوعة لهذا الجنس الأدبي الجديد حينها، كما في عدد من النصوص الروائية المهمة والمؤسِّسة التي قدَّمها في ثلاثينيات القرن العشرين مثل: عودة الروح (1933)،  يوميات نائب في الأرياف (1937)،  عصفور من الشرق (1938)، لكن الخطوط العامة الجامعة لهذه النصوص هو تمثيل روح الأمة المصرية والتأكيد على الهوية القومية في مواجهة المستعمر أو الآخر الغربي أو إبراز خصوصية الحياة المصرية كما في يوميات نائب في الأرياف.

وقد جاء سرد الحكيم الروائي مازجًا الأحداث في تطورها الدرامي بطرح منظور رؤيوي يشملها وإطار فكري يكتنفها، ويكشف حوار قد دار في عصفور من الشرق بين «أندريه»/ الغربي، و«محسن»/ الشرقي عن التمايز البالغ حد التقابل بين الغرب والشرق في النظر إلى المكان المقدس:

- أيها العصفور الشرقي!.. تُعد نفسك لدخول الكنيسة؟! ما معنى هذا؟.. إنّا ندخلها كما ندخل المقهى.. أي فرق؟!.. هناك محل عام، وهنا محل عام.. هناك الأرغن، وهنا الأوركسترا!..

فلم يلتفت إليه «محسن» وهمس كالمخاطب لنفسه:

بل هناك السماء!.. وليس من السهل على النفس الصعود في لحظة.. إنه لمجهود!... فلم يبدُ على الفرنسي أنّه فهم «محسن». ولم يكلف نفسه عناء سؤاله.

يجسد هذا التمايز بين محسن وأندريه في النظر إلى المكان المقدس البون الشاسع بين الغرب بماديته وبراجماتيته، والشرق بروحانيته ومثاليته، كما يكشف من ناحية أخرى عن علمانية الغرب، وتسويته الجمالي والفني بالمقدس؛ فالشرقي يرى المكان المقدس سماءً تتعالى بروحانيتها على الأرض وماديتها، وينم عدم التلاقي في الحوار أو عدم استئنافه بين محسن وأندريه وعدم فهم أندريه لمحسن وكذلك عدم تكلفه عناء سؤاله أنّ المسافة بين الشرق والغرب في النظر إلى المقدس باتت جد بعيدة ويكاد يكون تقريبها مستحيلاً.


توفيق الحكيم

يتبدى أنَّ النص الروائي العربي عبر مساهمات الحكيم في تأسيسه الشكلي في بواكير عهد الرواية العربية المؤسسة تقنيًّا على نظام رواية الحداثة في الأدب الغربي قد بدأ يعرف بعض تقنيات السرد الروائي وخصوصًا تقنية الحوار بنوعيه: الثنائي (الديالوج)، والفردي الداخلي (المونولوج)، لما في هذا التقنية من تأسيس للمكون البولوفوني في البناء السردي، وجلاء لتنوعات الأفكار وجدل الرؤى التي تحملها أصوات الحكاية الروائية المسرودة.


٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

댓글


bottom of page