top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

روعة سنبل: عيّوش - قصة قصيرة


القاصة السورية روعة سنبل
القاصة السورية روعة سنبل

روعة سنبل: عيّوش - قصة قصيرة

 سوريا 

عيّوش اليومَ امرأةٌ سعيدة، أخبركم هذا بيقينٍ تام، ومن المفترَض أن تصدّقوني، فأنا السّارد العليم في هذه القصّة.

-1-

مع كيسين أسودَين كبيرين تغادر عيّوش المدخل الرّخاميَّ لبناءٍ أنيق في حيّ الشّعلان، وعميقاً بين ثدييها الفتيّين يختبئ كيسٌ أسود ثالث بحجم قبضة اليد، تمشي الآن متجهة إلى كراجات الانطلاق تحت جسر الرّئيس، لتركب ما يحملها إلى الضّاحية البعيدة حيث تسكن، ورغم رائحة الكلور المزعجة التي تفوح من جسدها وثيابها، أحرص على مرافقتها عن قرب، لأصف لكم تَلاحُقَ أنفاسها، وانشغالَ ذهنِها بعملياتِ جمعٍ وطرحٍ كثيرة، "ربُّنا المدبّر" تهمس أخيراً، ثمّ تدخل دكّاناً صغيراً.

صاحب الدّكّان الذي دخلته عيّوش الآن، لن يصدّق أبداً أنّها امرأة سعيدة، فهو يراها معطفاً رمادياً رثّاً يغطّي جسداً نحيلاً، ويراها وجهاً شاحباً وعينَين غائرتَين وكفّين مشقّقتين.

" أربعة أكياس (شيبس)، أبو الخمسمئة لو سمحت" قالت بحسم، لكنّ أصابعها تردّدتْ وهي تُخرج ورقةَ ألفي ليرة من جيبها.




حي أو سوق في دمشق

-2-

عيّوش اليومَ امرأةٌ سعيدةٌ جداً، وقد أضفتُ "جداً" حرصاً على التزام الدّقّة، فسعادتها زادت بعد شراء (الشيبس) لأطفالها، وها هي تحاول السّير بخطواتٍ أوسع، لكنّ ساقَيها تخذلانِها، فطوال الصّباح كانت تحمل السّلّم الحديديَّ الثّقيل، وتنقله من مكانٍ لآخر في أنحاء منزل الحاجّة أمّ موفّق، الذي تنظّفه عيّوش مرّتين أسبوعيّاً، صعدتْ ونزلتْ عشراتِ المرّات بجسدها العشرينيِّ الضّئيل، مع دلو تبدّل ماءه باستمرار، وتغسل الفوط القماشيّة، ومع أنّني كنتُ إلى جانب الحاجّة، فلم أستطع أبداً رؤية البقع المتّسخة في السّقف والجدران، التي كانت تشيرُ إليها آمرةً عيّوش بإعادة التّنظيف، لكنني استطعت من مكاني نفسِه أن أسمع بوضوحٍ الشّتائمَ التي كانت تُبربِرُ بها عيّوش، مستغلّة ضعف سمع العجوز.

بعضُ القلق بدأ يكسو الآن ملامح عيّوش، فقد تأخّرتْ، ولو وصل صغارُها الغرفةَ قبل وصولها، سيرمون حقائبهم المدرسيّة عند الباب، وسيلعبون مع أطفال نواطير الأبنية المجاورة، ستصل لتجدهم معجونِين ليس بالسّعادة فقط، بل بالتّراب والعرَق. ماذا لو لم يسعفها الوقتُ لتغسلَ وجوههم وأيديهم، وتبدّلَ ثيابهم؟ ماذا لو أنهى عدنان، زوجُها، غسيلَ السّيّارات قرب البناء، ووصل قبلها؟

 "تريدين أن تبهدليني أنتِ وأولادك؟ ها؟ تريدين أن يطردونا؟"، سيصرخ بها، وقد يصفعها، ستبتلع ريقها بصعوبة وتسكت، وسيذكّرها للمرة الألف أنّهم ليسوا في بيتهم أو حارتهم، البيت والحارة مدفونان هناك بعيداً، شمال البلاد، وهم هنا غرباء، تؤويهم منذ خمسة أعوام غرفة ضيّقة قرب مدخل البناء البُرجي.

 تتذكّر الكيسين، فتغلّف طمأنينةٌ قلبَها، سينسى زوجُها بعضَ غضبه حين يرى الأرز والدّجاج في كيسها الأسود، "طبختُهم قبل ثلاثة أيام، شمّي رائحتَهم، إن أعجبتكِ فخُذيهم" كانت تمسح رفوف البرّاد حين قالت الحاجّة هذا، لم تحاول شمّ شيء، بل سكبتِ الطّعام في الكيس بفرح، فثلاثةُ أيّام في البرّاد، وفي هذا الشّتاء، لن تكفي ليَفسُد شيء.

 تنظرُ إلى الكيس الآخر، وتتنهّد بارتياح، فالجزء الباقي من غضبِ زوجها سيتبخَّر حين يرى الكنزاتِ الصّوفيّة المستعمَلة التي أعطتْها لها الحاجّة، قد تكون كبيرةً عليه قليلاً، لكنّ مهاراتِ عيّوش في الخياطة ستكفي لجعلِها ملائمة.

-3-

 تصل عيّوش جسر الرّئيس، تنزل الدّرجاتِ المكسّرة، لتنضمّ إلى المنتظرِين في الأسفل، ولأنّ أنفَها مسكونٌ بروائح المنظّفات، فلن تشمَّ رائحةَ البولِ الواخزة المعشّشة في الزوايا والتي أشمّها أنا الآن، تمرُّ إلى جانب البسطاتِ المزدحمة فتلمح عجينة السّكّر، تمدّ يدها إلى جيبها لتشتري، "الحلاقة أسرع وأوفر" تزجر يدَها.. "أسرع صحيح، لكنّها تجعل شعر الجسد عنيداً قاسياً، يبقى النّتفُ هو الأفضل" تجيب نفسها، ثم يخطر لها أن بإمكانها صنع العجينة بنفسها، تطمئن لهذا القرار فتبتسم، لكنّ ابتسامتها تذوي حين تتذكر البطاقة التموينيّة الحكوميّة، فإن كانت البطاقة (ذكيّة) وتحسب بدقّة حصّتهم من السّكّر كلّ بضعة أشهر، أليس عيباً أن تكون هي غبية ومبذّرة؟ "احلقي وأمركِ لله" تقول لنفسها ثمّ يشرق وجهها بابتسامة، فهذه الليلة ستنتظر أن يخرج زوجها كعادته، مع عودة التيّار الكهربائي، تمام التّاسعة، سيتوقّف بالمصعد طابقاً طابقاً ليجمع أكياس القمامة، يستغرق هذا نصف ساعة تقريباً، ستدخل الحمام في غيابه، وبشفرة حلاقته ستجزّ الوبر النّافر من الكنزاتِ الثّلاث، ستفعل هذا بحرص حتى أنّها ستبدو جديدة، ثمّ ستخلع ثيابها، وبالشّفرة نفسِها ستحلق ساقَيها وعانتها وتحت إبطيها، ثمّ ستحمل الكيس الصّغير وسيقطع أفكارها صوت بوق سيّارة، فتصعد الرّصيف دون أن تلتفت، يتكرّر الصّوت بإلحاح، فتلتفت بغضب لتشتم، لكنّها تبتسم حالما تسمع النّداء: "عيّوش، اركبي، بسرعة".

-4-

وسطَ أكياسِ خضارٍ ومؤونة وعلب دهان، تجلس عيّوش في حوضِ الشّاحنة الصّغيرة، بين الحين والآخر تلتفت نحوها أم محمّد، جارتها المحشورة في الأمام مع أطفالها، تبتسم لعيّوش عبر الزّجاج الفاصل بينهما، بينما زوجها أبو محمد، ناطور البناء المجاور، منهمكٌ بقيادته السّريعة الخرقاء.

يصفع الهواء القارس خدّي عيّوش، فتخبّئ رأسها بين كتفَيها، تلامس ذقنُها صدرَها، فيخطر لها الكيسُ الصّغير؛ كانت الحاجّة قد أدخلتْها فور وصولها صباحاً إلى المطبخ، وقفتْ عيّوش عند حوض الجلي الممتلئ بالأواني المتّسخة، فتحتِ الصّنبور وقبل أن تغسل تفل القهوة الملتصق بأسفل الفناجين والرّكوات، التفتت حولها، وحين لم تجد أحداً، جمعتِ التّفل بالملعقة، وضعتْه في كيسٍ صغير، وخبّأته بسرعة في صدرها بيدٍ مرتجفة. والليلة، وبعد أن تحلق شعر جسدها، ستضع التّفل في الإبريق، ستضيف الماء الدّافئ، وتحرّك قليلاً، ثمّ ستغسل بالسّائل البنيَّ الفاتح أطراف شعرها، أمّا العجينة الدّاكنة الرّاسية في الأسفل، فستدهن بها جسدها، ستنتظر ربع ساعة، ثمّ ستشطف الشّعر والجسد، وستحصل على "نعوووومة الحرييييير"، هكذا قالتها المذيعة في (الرّاديو) صباحاً حين كانت عيّوش في الباص.

-5-

عيّوش اليوم امرأةٌ سعيدة، ولا شيءَ سيعكّر سعادتَها، لا الهواء القارس، ولا القيادة الجنونيّة لأبي محمّد، ولا آلام كتفَيها، كل ما يهمّها هو أنّ عدنان يعشق القهوة، بل ويعشق رائحة القهوة، لكنّ البنّ لم يدخل غرفتهما منذ شهور، وهذه اللّيلة ستفوح رائحة القهوة أخيراً في الغرفة، ليس من ركوةٍ على النار، بل من جسدها الأسمر في الفراش، سيشمُّ عدنان الرّائحة، وسـيجذبها إليه بلهفة، سيدعكها، ويطحنها تحته كما تُطحَن حبّةُ بنٍّ سمراء.

***

عيّوش اليوم امرأةٌ سعيدة، أخبركم هذا بيقينٍ تام، ليس فقط لأنّني السّارد العليم، ولا لأنّ خيالاتٍ حميمة تداعبُ الآن جسد عيّوش، ولا لأنّها ستصل غرفتها في الوقت المناسب، بل أيضاً لأنّ صعودها الشّاحنة وفّر عليها خمسمئة ليرة كاملة.

"لو أنني اشتريت كيس شيبس لي!" تهمس عيّوش حين تخطر لها الخمسمئة ليرة، ثمّ تُسند رأسها إلى حافّة الشّاحنة، وتغفو مبتسمة.

 

٠ تعليق

Comments


bottom of page