حوار مع الشّاعر الإعلاميّ والإعلاميّ الشّاعر اللبناني زاهي وهبي
إعداد: هندة محمد
زاهي وهبي: الينبوع والعصفور، هما تميمة طفولتي ورفيقا سنواتي الطريّة العذبة...
ولد يوم 5 مايو سنة 1964م، في عائلة تؤمن بقداسة اللّغة العربيّة وسحرها وقدرتها على رسكلة هذا الواقع، هناك في قرية "عيناثا" في الجنوب اللّبناني، طفولة منحته شغف كتابة الشّعر.. وواقع سياسيّ واجتماعيّ منحه كثيراً من القوّة والحكمة واللّيونة في التّعاطي مع الآخر مهما كانت طائفته ... فكره أو توجّهه الأيديولوجيّ.
أصدر ٢٢ كتاباً بينها ١٢ ديواناً شعرياً وقدّم برامج مهمّة للتلفزيون.. عمل إذاعيًّا وصحفيّاً في أكثر من جريدة، حاور على مدى ٣٥ عاماً أكثر من ٤ آلاف من المبدعين والمثقّفين من أجيال مختلفة ومن مختلف البلدان العربية. زاهي وهبي الشّاعر الإعلاميّ والإعلاميّ الشّاعر..
مزيج رائع من الجمال والسّحر، يأخذنا إلى عوالم شخصيّة متفرّدة بإنسانيتها العالية وعالية بتفرّدها الإبداعيّ،
مرحباً بك أستاذ زاهي على صفحات" سيقلس بوست" لنغوص معاً في تفاصيل الرّوح وخرائط القصيدة...
القصيدة صوت الرّوح، والمطّلع على نصوص زاهي وهبي يقرأ كثيراً من العذوبة والعمق والإنسانيّة، هل استطاعت القصيدة يوماً ما تغيير الواقع؟.. وهل يناط بالشّاعر حمل قضايا وطنه، أم أنّها تبقى قاصرة لا محالة وحاجتنا لها كحاجتنا لنسمات منعشة في يوم قائظ؟
الشِّعر ضرورة للحياة مثل أي ضرورة أخرى، لا يمكن تصور الحياة بلا شعر؛ لأنه في نظري ماء الروح. لئن كان الجسد يحتاج الطعام والشراب كي ينمو ويستمر، فإن الروح بأمسّ الحاجة للفنون والآداب، وكذلك العقل الذي لو اكتفى فقط بالعلوم لظلّ فظاً خشناً. الشِّعر، بوصفه فناً وأدباً في آن، هو حاجة وضرورة؛ كي يحافظ الكائن الإنساني على توازنه، وكي يحصّن روحه تجاه شوائب الحياة الدنيا، وإلاّ تحوّل إلى مجرد كائن، أسوة بالكائنات الأخرى، التي لا يهمها سوى الأكل والشرب وإشباع الغرائز الجسدية.
ليست وظيفة الشِّعر تغيير العالم، لكنه يغير صاحبه على الأقل، ويساهم في تغيير قارئه، ومتى تغيرنا، أفرادًا، يمكن للمجتمع أن يتغير تلقائيًا. أما الشاعر فيحمل قضايا وطنه وشعبه بوصفها جزءاً من الهمّ الإنساني العام الذي يسكنه. لا يمكن للشاعر الحقيقي إلا أن يكون مسكوناً بقضايا الإنسان أينما كان، والكتابة عن الوطن والأرض والناس ترفع شأن القصيدة شرط عدم وقوعها في الخطابية والمجانية والابتذال. البعض يظن أن الكتابة عن الوطن والأرض والشهادة أسهل. لكن العكس هو الصحيح، القضايا النبيلة تقتضي كتابة نصٍّ يرتقي إلى مصافها ويسمو معها، لا أن يتسلق عليها ويجعلها وسيلة، لأن هذه القضايا غاية نبيلة بحد ذاتها.
قلت مرّة في أحد حواراتك التّلفزيونيّة: "أوّل صديقين لي هنا ينبوع ماء وعصفور سنونو"، لماذا يجد الشّاعر والمبدع عموماً متعة كبيرة في الحديث عن مرحلة الطّفولة؟ وإلى أيّ مدى تسهم هذه الفترة من العمر في خلق نجاح الفرد أو فشله؟
الطفولة هي السنام الذي يعود إليه الشاعر كلما شعر بجوع أو عطش روحيين. ففي هذه البراري الشاسعة المسماة حياة، لا بد من العودة إلى المخزون الأولي، إلى الينابيع الأولى، إلى المياه البكر التي روت وعيه ووجدانه وأسهمت في تشكيل ذائقته. لقد ولدتُ في بيت يتشكّل من حجر وطين، ويتفجر داخله في فصل الربيع ينبوع ماء، كنا نحفر له مجرى إلى خارج البيت، وكانت طيور السنونو تعشش داخل البيت لأنها تبني أعشاشها من قشٍّ وطين، على عكس بقية الطيور التي تكتفي بالقشّ.
هذان الصديقان، الينبوع والعصفور، هما تميمة طفولتي ورفيقا سنواتي الطريّة العذبة.
وكما بات معلوماً فإن سنوات الطفولة الأولى هي اللبنة الأساس في تكوين الشخصية، فضلاً عن كون الشاعر يحمل معه طفولته طوال العمر. الطفولة المترسِّبة في أعماق الشاعر هي التي تحرّك فيه كوامن الدهشة وحسّ الاستكشاف وفضول المعرفة.
عشتَ تجربة الاعتقال والمقاومة، هل كان للأمر تأثير على مبادئك وقناعاتك إِن كان سلباً أو إيجاباً؟
تجربة الاعتقال في سجون الاحتلال الإسرائيلي تجربة قاسية وصعبة، لكنها تجربة ثرية علّمتني الكثير وصقلت شخصيتي قبل الأوان. في السابعة عشرة من عمري دخلت المعتقل الإسرائيلي في عتليت في فلسطين المحتلة، ومن ثم في أنصار في جنوب لبنان، لكني خرجت منه أكبر بكثير من عمر الثامنة عشرة.دخلت فتى يافعاً وخرجت رجلاً لم يبلغ العشرين من عمره. التجارب الصعبة والقاسية تجعلنا أكثر نضجاً وأصلب عوداً.
تعلمت في المعتقل أن الحرية ليست فقط في الهتافات والشعارات والتظاهرات والقصائد والأغنيات. كل هذا مهم، لكن الحرية أولاً هي التفاصيل اليومية البسيطة، كأن تستيقظ في الصباح، وتقرر أنت لا سواك احتساء الشاي لا القهوة مثلاً، أن تسمع فيروز أو نشرة الأخبار، أن ترتدي اللون الأبيض أو سواه. حرية الفرد تبدأ من هنا، من اليوميات البسيطة، قبل أن تنتقل إلى الأفكار والآراء والمبادئ والقناعات. متى تحرر الفرد تتحرر الجماعة ويتحرر المجتمع.
كما اختبرت، في المعتقل، وحشية الاحتلال الإسرائيلي وهمجيته ومدى حقده على كل ما هو عربي، وتيقنت أننا على حق في مقاومته ومقارعته حتى تحرير الأرض المحتلة وقيام الدولة الفلسطينية الحرة المستقلة.
الشّعر حياة.. وقد خبرت الحياة جيّدا وجعلت من قصيدتك فنَارا يضيئها ويضيئنا هل ترى أنّ الشّعر بسيط عميق كامن في تفاصيل الحياة البسيطة، أم أنّه لا بدّ من بهرجته وبهرجة اللّغة لتفي بشعريّة النصّ؟
أشكرك على رأيك بشعري ورُقي ذائقتك. فعلاً الشِّعر حياة. فهو عندي ليس فقط قصيدة تُكتَب أو كتاباً يُنشَر. الشِّعر أولاً نمط حياة، أسلوب عيش، نظرة خاصة إلى الوجود، طريقة تعامل مع الآخرين والكائنات. لذا أقول:إنني أحيا شاعراً.
أما لجهة الكتابة الشعرية، محظوظٌ من يتقن أسلوب السهل الممتنع، وأتمنى أن يكون شعري ضمن هذا الأسلوب. فالبساطة لا تعني التبسيط، والعمق لا يكون في تعقيد الجملة وتقعير المعاني. أما الإتيان بصور شعرية جديدة وتراكيب مبتكرة فهو أمر ضروري كي نضيف بطريقتنا إلى العمارة الشعرية الشاهقة التي بناها الأسلاف منذ امرئ القيس وعنترة وطرفة والمتنبي وأبي تمام إلى يومنا هذا. والصورة الشعرية المُبتكَرة تغدو أكثر إلحاحاً في حالة القصيدة الحرّة، لأن التخلي عن الوزن والقافية يستدعي البديل، والبديل هنا هو المعنى العميق الاستثنائي والمبنى الجميل المعاصر، وهذا يستلزم إلماماً واسعاً بلغتنا الجميلة وبيانها وبديعها.
لقصيدة النّثر جماليّتها وإيقاعها على الفكر والقلب، هل تؤمن بوجود صراع بين أجناس القصيدة؟
أم أنّه وهميّ عبثيّ اختلقه البعض لقصر في الفكر والإبداع؟
لست من المؤمنين بصراع الأجناس الشعرية؛ لأنّني مقتنع بأن الشعر أوسع من القصيدة نفسها أيّاً كان شكلها. الشِّعر جزء من الحياة. الشاعر ينحت اللغة ليستخرج القصيدة كما يفعل النحات مع الصخرة، يحذف الزوائد كي يبقى الشكل الجميل الملهِم، وله أن يختار الشكل والأسلوب اللذين يراهما مناسبين.
الشِّعر سابق أصلاً على أوزان الخليل وعلى كل الأشكال اللاحقة. ثمة فارق كبير بين النظم والشعر. ألفية ابن مالك، على سبيل المثال، عبارة عن ألف بيت، لكنها ليست شعراً، بل قواعد صرف ونحو. إذن، الشكل لا يحدد شعرية النصّ، ولا يمنحه أفضلية. ثمة قصائد عمودية رائعة وعبارة عن شعر خالص، وثمة نظم موزون لا يمت للشعر بصلة، وكذلك هي الحال مع الكتابة الحرة فيها الغثّ وفيها السمين. الشِّعر أهم وأعمق من الشكل، ومن الصعب جداً تعريفه أو حصره ضمن قوالب محددة أو جامدة، لأن الشكل متحوّل وغير ثابت.
لديك جمهور كبير من كافّة بقاع وطننا العربيّ يتناقلون نصوصك ويحوّلونها إلى أجناس إبداعيّة أخرى، كالرّسم، والغناء، وحتّى عروض الأزياء، برأيك ما هي الوصفة النّاجعة التي يمكن أن تمنح قصيدة ما مرتبة الخُلود؟
كما أسلفت، من الصعب جداً إعطاء وصفة جاهزة للقصيدة التي تخترق الزمن وتحيا إلى الأبد، لكن من المهم جداً أن يكون الشاعر صادقاً مع نفسه. كلما اقترب المرء من نفسه اقترب من الآخر، وكلما اقترب من مسقط رأسه وصل إلى العالم كله. الشاعر لا يبيع الماء في حارة السقّايين، بل عليه أن يكتشف ينابيعه الذاتية، ويستخرج ماء قصيدته بنفسه. ومن حُسن حظي أن قصائدي لامست وجدان موسيقيّين ومغنّين ورسّامين ومصممي أزياء، وساهموا في إيصالها إلى شرائح واسعة من الناس.
قدّمت أكثر من برنامج تلفزيونيّ، وكلّ ما قدّمته كان ناجحاً وحظي بقاعدة جماهيريّة كبيرة
هل أثّر الشّعر في مسارك الإِعلاميّ وخياراتك أم أنّ العكس صحيح؟
أترك الحسم في الإجابة عن هذا السؤال للمتلقي، لكن ما من شك في أن الشاعر الذي فِيَّ قد أضاف إلى الإعلامي الذي فِيَّ أيضاً، وقد منحني الشعر حساسية مختلفة تجاه الآخر، لأنه كما أسلفت ليس فقط قصيدة بل أسلوب حياة وطريقة تعامل وتفاعل مع الآخر، سواء كان ضيفاً أم صديقاً أم حبيبة أم ابنةً…إلى آخره.
ضيوفك من أجيال مختلفة، هل ترى أنّ البرنامج التّلفزيونيّ هو ما يصنع شهرة الضّيف، أم لا بدّ أن يكون الضّيف مشهوراً حتّى يساهم في نجاح البرنامج؟
العمليّة متبادَلة، شهرة الضيف تسلّط الضوء أكثر على أي برنامج يحلّ عليه، وشهرة المضيف تفعل الأمر نفسه. تنوّع الضيوف من أجيال مختلفة وأنماط إبداعيّة متنوعة وبلدان عربية متعددة يساهم في منح البرنامج مروحة أو مساحة واسعة من المشاهدين.
الشّهرة مهمّة جدّاً للمبدع لإِيصال أفكاره ورؤاه للآخر المختلف ربّما، كيف تعاطى زاهي وهبي معها - أقصد الشّهرة - وهل استطاعت يوماً أن تحيد به عن مبادئه ورؤاه الحقيقيّة والإنسانيّة؟
أحمد الله أنني أتيت إلى عالم التلفزيون والشهرة من الصحافة المكتوبة. بدأت التقديم التلفزيوني بعد مرور ثماني سنوات على عملي في الصحافة المكتوبة وفي الإذاعة، كما أنني أصدرت كتابين شعريين هما "حطّاب الحيرة" و"صادَقوا قمراً" قبل دخولي عالم التلفزيون. ثم إن العمل التلفزيوني لم يكن جزءاً من أحلامي وأهدافي، جرت الأمور بالمصادفة، لكنها مصادفة جميلة. والمهم فيها أنني كنت محصّناً تجاه أمراض الشهرة وسلبياتها، متسلّحاً بقراءاتي الواسعة منذ يفاعتي وبخبرتي الصحافية التي كانت بمعظمها ضمن الصحافة الثقافية، وكثيرون هم الشعراء والأدباء من ضيوف برامجي كنت قد قرأت أعمالهم وأنا فتى لم يتجاوز سن الخامسة عشرة؛ لذا بقيت الرؤيا والمبادئ الإنسانية هي نفسها،١ لكنها تطورت وتعمّقت وصارت أكثر نضجاً ووعياً.
نعلم حبّك اللاّمحدود لفلسطين وسعادتك الكبيرة بمنحك الجنسيّة الفلسطينيّة برأيك إلى أيّ مدى خدمت القصيدة القضيّة الفلسطينيّة ولمن يقرأ زاهي وهبي اليوم من شعراء فلسطين؟
من فضائل الثورة الفلسطينية أنها أنجبت نخبة من المبدعين في شتى الميادين الأدبية والفنية، وأعطتنا شعراء رائعين ساهمت قصائدهم في تسليط الضوء على البُعد الإنساني للقضية الفلسطينية. ومن النافل القول:إن الثورة بلا مشروع ثقافي هي ثورة ناقصة. فالبُعد الثقافي هو الذي يمنح أي ثورة مجالها الإنساني الحيوي ولا يجعلها أسيرة إيديولوجيا أحادية.
أما لجهة القراءة فأقرأ كل شعراء فلسطين. لكن محبتي وصداقتي مع الراحل الباقي محمود درويش مُعلَنة ومعروفة. قرأته مذ كنت يافعاً، وحاورته مرتين في برنامج "خليك بالبيت"، ونشأت بيننا صداقة جميلة في العقد الأخير من حياته، وشاركت في تشييع جثمانه في عمّان إلى جانب الفنان الصديق مرسيل خليفة، وكتبت له قصيدة رثاء طويلة بعنوان "أقلام محمود درويش".
وطبعاً قرأت فدوى وإبراهيم طوقان، توفيق زياد، راشد حسين، سميح القاسم، معين بسيسو، إبراهيم نصرالله، مريد وتميم البرغوثي وسواهم. واليوم يلفتني شاعر فلسطيني شاب هو جواد العقّاد.
برنامج "بيت القصيد "قدّم كثيراً من التّجارب الشّعريّة العربيّة ألا تفكّر اليوم في الاكتفاء وضرورة تقديم تجربة جديدة مختلفة؟
قدّمت الحلقة الأخيرة من برنامج "بيت القصيد" ليلة رأس السنة الميلادية قبل أشهر قليلة، بعد أن استضفت فيه قرابة ٥٥٠ ضيفاً من مختلف الأجناس الإبداعية من البلدان العربية كافةً، وعلى مدار عشر سنوات ونصف السنة. وأنا الآن بصدد التحضير لبرنامج ثقافي جديد وفق أسلوب البودكاست الرائج حالياً وعنوانه الأولي "أهل الهوى" وأتمنى أن ينال النجاح الذي ناله برنامجا "خليك بالبيت" و"بيت القصيد" اللّذان استمرّا معاً مدة ربع قرن.
Comments