حوار مع زهران القاسمي
حاورته: حنان فرفور
زهران القاسمي: "الضوء والشهرة آنيان، والمشاريع هي التي تحاول الخروج واثبات نفسها هي الباقية ..."
غالبًا ما يقع المبدعون الشباب أسارى قلق المعاصرة والتجديد من جهة، وبين براثن الجوائز الأدبية وإشكالياتها المعروفة من جهة أخرى، هذا الهاجس الموجع، جعل الشاعر أو الأديب في حيرة، وجعله يتساءل عمَّا يقدمه من جديد وعلى كتفيه إرث لغوي وأدبي ضخم، لا يقل توترًا عن التحديات النفسية والمعنوية والمادية التي ترخي الجوائز ظلالها على الأكتاف نفسها... ومن بين هذه الأسئلة والإشكاليات، يبزغ ضوء "زهران القاسم" شاعر وروائي عماني شاب، حصد واحدة من أهم الجوائز العربية بل العالمية، توجته لجنة البوكر لهذا العام عن روايته "تغريبة القافر" لينضم إلى قافلة المبدعين العمانيين الذين تألقوا مؤخرًا متوجين بالمراكز المتقدمة في غير مجال ، فلم يزده هذا إلا تواضعًاللمحبرة وتتويجًا للإنسان الذي ما دأب بين جنبيه يسعى.. التقيته على هامش معرض الكتاب في قطر وكان لنا هذا الحوار:
يشبّه الناقد الفرنسي "أوليفيه آدم"، ضبط العلاقة الشائكة بين الروائي وشخوص روايته بمؤشر الراديو، "فما إن تبلغ التردد الصحيح، حتى يبدأ الاستمتاع" ومن البدهي أن نقول: إن لشخوص روايات زهران سالم مرجعيات حقيقية في الواقع وإنْ بشكل مجتزأ، السؤال الذي يفرض نفسه: إلى أيّ حدّ حملت هذه الشخصيات صفاتك الجينية الثقافية والفكرية والاجتماعية؟ وهل تقصدْتَ بالغلالة الفنية الجمالية التي أحطتها بها أن تحفظ حقيقتها أم أردت تمويه هذه الحقيقة؟
من المستحيل على الكاتب ألّا تدخل بعض صفاته في الشخوص، ولكني كنت أتحاشى ذلك قدر الإمكان، عليّ أن أشتغل على كل شخصية منفردة وأقدم لها تاريخها الاجتماعي والنفسي حتى تبدو كما هي عليه بعد اكتمال العمل، وقد يتسرب بعضٌ مِنِّي في شخصية ما، ولكن بمقدار ما أحتاج إليه لرسمها، مع وجود فوارق كثيرة طبعًا، وكما نتشابه أحيانًا في الطباع في الواقع ويكثر ذلك، أيضًا تتشابه معنا الشخصيات في صفات معينة ونتقاطع معها ثم نختلف كثيرًافي أمور أخرى.
حسب المراجعات النقدية التي تناولت رواياتك الثلاث: القناص، جوع العسل، وتغريبة القافر، يلاحظ أن ثمة حمولة أخلاقية وصفات إيجابية مشتركة بين أبطال رواياتك هذه، فهم يمتازون جميعًا بالإصرار والعناد والسعي الدؤوب لتحقيق الهدف، والحركة والسفر الدائمين بدءًا من لحظة الخلق وصولاً إلى ذروة الحدث الروائي، فيما يلاحظ أيضًا سفرك الدائم في الجغرافيا، وغزارة إنتاجك الفني وتنقلك الرشيق بين الأشكال الأدبية وتحديدًا بين الشعر والرواية: زهران القاسمي، هل أنت مصاب بفرط الحركة الثقافية؟ وهل جعلته سلوكًا مقدّرًا على أبطال روايتك؟
أحب التجربة أيًّا كانت، أحاول أن أجد ذاتي في شيء ما، وفي الحقيقة أنا شخصٌ ملولٌ بطبعي، تقاذفتني الأيام على عدة هوايات وأعمال، فكنت كلما مللت من عمل أو هواية بحثت عن شيء جديد، مع ذلك فأنا أحب المكان الذي أعيش فيه ويعني لي الكثير ولم أغيره أو أبدله حتى الآن، مع أن هناك أفكارًا جنونية تخرج من رأسي لتبديل حتى نمط الحياة لكنني لم أرضخ لها، ولم أعطها بالًا، أحب السكون والهدوء وهذا يجعلني أفكر في المشاريع التي أشتغل عليها، نعم أعمالي تتشابه في موضوع البحث، ربما لأنني شخصيًا مهموم بالبحث، عن الوجود وعن المعنى وعن فلسفة الأشياء من حولي، هذا ينطبق على الأعمال السردية والشعرية أيضًا.
هل يكتب زهران القاسم، لينسى ويتخلص من مشاعر وتجارب، أو ليستعيد ويُحيي أو ليمرِّن ذاكرته التخييلية على الاحتجاج على الجمود، والتمرد على الفناء ومن ثم ملامسة الخلود؟
أكتب لأنني أبحث عن تجربة جديدة، هنالك أفكار كثيرة تحوم في رأسي، تتقاذفني ولا أدري ماذا أعمل وماذا أترك، مهموم بالكتابة لأنني لا أجيد شيئًا آخر سواها، لا يهمني لماذا أكتب، وجدت نفسي عاشقًا للقراءة والكتابة سواء في الشعر أو السرد، وأحب أن أمارس كتابتي بعشق دون أي تفسير، لم أفكر يومًا ما لماذا أكتب، لماذا الشعر مثلاً في مرحلة ما، ولماذا انتقلت إلى لون آخر، هنالك همٌّ واحدٌ في النفس، هو الذي يجعلني أستقر، أن أغرق في تجربة جديدة، حينها أشعر كأنني في مرحلة بنيان لمشروع أجتهد أن يكون نوعيًا وجديدًا تمامًا لي وحدي قبل أن يكون للقارئ.
في تغريبة القافر، رسمت الشخصيات الرئيسية المؤثرة، بدءًا من سالم بن عبدالله مرورًا بزوجته نصرة، وليس انتهاءً بكاذية بنت غانم ولا سلام الوعري، كما قلنا سابقًا بإيجابية مفرطة... هل ينتمي زهران القاسمي إلى المدرسة القديمة في التنميط المثالي للبطل النموذجي؟، ألا يمنح الغوص في الجوانب المظلمة والشهوانية للشخوص واقعية ومصداقية أكبر؟
هذا يختلف من عمل إلى آخر، فالقارئ لرواياتي الأخرى سيجد أن الشخصيات لها جوانبها المظلمة والشهوانية كما في شخوص جوع العسل، أيضًا في روايتي القناص وجبل الشوع، هذا يعتمد على مغزى وفلسفة العمل، في تغريبة القافر، فالشخصيات الرئيسية هي شخصيات تعيش على هامش المجتمع، وغير منظورة إلا بما يراه المجتمع فيها من شر بالنسبة له، فهي شريرة من وجهة نظر المجتمع ومتوجس منها، لكنها في مجملها شخصيات طبيعية، هذا ما أردته من ذلك، إذ إن مجتمعاتنا أحيانًا هي من تنمّط الشخوص حسب أهوائها وليس حسب واقع تلك الشخصيات.
أعرف أن هذا السّؤال صار مكررًا: كيف أفاد القاسمي من الشّعر في رسم المكان والشخوص وكيف غذّى به مساحة التخييل اللغوي والدرامي؟، لكن سؤالي الحقيقي: لماذا انتقلت من الشعر الذي يقدّر الإيجاز والمجاز والتهويم إلى الرواية فن التفاصيل الواقعية؟ هل للأمر علاقة بالتسويق والانتشار والشهرة، نظرًا لإقبال جمهور القراء على فنون السرد دون الشعر هذه الأيام؟
عندما بدأت في كتابة السرد وخصوصًا الرواية لم أكن أفكر في موضوع الانتشار والشهرة، كان كل همي أن أجرب مقدرتي في كتابة عمل سردي، كان ذلك تحديًا بيني وبين نفسي، هل أستطيع أنا القادم من لغة المجاز والاختصارات أن أمدَّ البسطة في اللغة حتى تنفتح على تفاصيل أكثر، هذا كل شيء، هي التجربة فقط.
يعرف الدارسون أن المكان غالبًا ما يؤصّل للعمل الروائي ويمنحه خصوصيّته وتفرّده، وقد شكَّل المكان البطل الأول في معظم رواياتك، فنقلت الجغرافيا العمانية وخصوصًا الريفية منها من المحلية إلى العالمية، مما شدّ الجمهور القارئ للإقبال على إنتاجك الروائي، وكان ربما من الأسباب التي ساهمت في فوزك بجائزة البوكر، لماذا تأخد محورية المكان هذه الأهمية عند العامة والخاصة؟ هل للأمر علاقة بالتشبث بالجذور والهوية الأصيلة في زمن العولمة وهيمنة المقولات الثقافية الكبرى وطمس الخصوصية الفردانية للفرد والجماعات الصغرى؟
أعتقد أنه مهما حاولنا إيجاد نظريات تخص العولمة لكن هذا لا يمكن أن يطمس خصوصية الإنسان الذي يعيش في بقعة ما محددة، المكان لا يعني فقط تفاصيله الجغرافية ولكن يعني أيضًا البشر وارتباطهم بالمكان، وتاريخهم، وعاداتهم وتقاليدهم، وموروثاتهم المادية وغير المادية، لذلك عندما نلتفت إلى مجتمعاتنا هي ليست مجتمعات وليدة إنمالديها ذلك الامتداد التاريخي الغارق في القدم والذي تكونت منه هوية هذه المجتمعات بما فيها المكان الذي تعيش فيه.
بعد فوزك بالبوكر، هل يخشى القاسمي أثر الضوء والشهرة على جودة منتجه الإبداعي؟
لا أظن أنني سأقع في فخ الخشية والخوف، وكما قلت سابقًا لدي مشاريعي التي أشتغل عليها، الضوء والشهرة آنيان، والمشاريع هي التي تحاول الخروج وإثبات نفسها وهي الباقية، لدي فقط ذلك القلق الدائم كيف أبدأ بعملي القادم ومتى وكيف يكون شكله هذا ما أفكر فيه، ولا يهمني غير ذلك.
يقول الموضوعاتيون: بأن المبدعين طوال حياتهم يكتبون فكرةً واحدة، تتمظهر بأساليب وقوالب مختلفة، هل تشرعن هذه النظرية بالنظر إلى نتاجاتك الأدبية؟ هل تتشابه رواياتك على الأقل في ثيمة البحث عن شيء ما...شيء يلامس الحقيقة الإنسانية ربما؟
نعم، هذا ما أكدته دائمًا، أنا رجل مهموم بفكرة البحث، تتشابه أعمالي كلها الشعرية والسردية في ثيمات محددة، ربما لأنني رجل يبحث عن المعنى وعن فلسفة الأشياء من حولي، ولست معنيًا بأن أغير ذلك في أعمالي.
عادة ما يَفيد الشعر من الأسطورة ويبرع في توظيف رموزها، كيف أفادك ما تقدم في البناء اللغوي والوصفي لشخصيات تغريبة القافر وفي إكسابها البُعد الدلالي والإنساني أو فتحها أمام المزيد من التأويل الثري؟
من الشعر ولدت الأسطورة، حملها إلينا في قصائد الأولين وفي تعاويذهم وتراتيلهم، والشعر هو روح الوجود الإنساني أيًّا كان زمانه ومكانه، وهو ما يزال يخلق أساطيره غير المنظورة حاليًا ولكن ستبدو كذلك مع مرور الزمن، اللغة هي هذا الحمل الدائم لما يتركه الإنسان وما يعيشه، لذلك كانت اللغة الشعرية حاضرة بين ثنايا العمل دون طغيان، موجودة في الحدث، في الصورة، في النتاج ككل، في رسم الشخصيات وحياتها ومعاناتها، في قطرات المطر وفي مشاهد الحب والموت، كما هي موجودة في الواقع تمامًا، وكما لا يمكن أن تخلو حياتنا من الشعر فهي لا تخلو كذلك في أعمالنا السردية.
روايتك الفائزة بالبوكر، محكومة بنوعين من الصراعات: الصراعات الداخلية (الذات وهواجسها) والصراعات الخارجية (البطل والجغرافيا من جهة والبطل وسطوة المجتمع المعنوية من جهة أخرى)، ينجح القافر في تحدي ذاته وخوفه مرارًا...لكنه في كل مرة يجبر على مواجهة ألسنة الناس، يركن للتجاهل مرة وللهروب مرات..
إلى هذه الدرجة تصعب مواجهة العُرف ومقاومة سطوة الجماعة؟ وهل وجدت في نقد الذات يُسرًا وفي نقد الجماعة صعوبات تجنبت مواجهتها فاكتفيت بالتلميح والمرور عليها؟
إن من السهولة أن ينجح الإنسان في ترويض نفسه وتوجيهها حسب رغباته، ولكن لا يمكن له أن يسيطر على مجتمع بأسره، المجتمع تسيِّره الأهواء والثقافات العُرفية والطبقية، وتعقيداته أشد كثيرًا من أن يستطيع أن يحتوى، لكن لكل منا شخصيته التي تقاوم، فالإنسان كائن قد جُبِلَ على المقاومة، والبحث عن صوته الخاص، وعدم الرضوخ للإملاءات الآتية من الخارج، وقد يرى البعض أن الحديث فقط عن نميمة المجتمع على أنها فعل عادي ولا يحمل شرًّا كبيرًا في طياته، مع أن معظم النار من مستصغر الشرر كما يقال، وإن الفتنة أشد من القتل.
كيف يرُدُّ القاسمي على الأصوات التي خرجت تُنكر على تغريبة القافر استحقاقها بالفوز بجائزة البوكر؟
هذا شأنهم، لا يعنيني هذا في شيء، الرواية شاركت في الجائزة وفازت، الاستنكارات لا تلغي فوزها مهما قالوا، ولهم الحق في الاستنكار، هذا لا يعني شيئًا أبدًا، هذا حقهم.
قبل أن نختتم معك هذا الحوار الشيق، نتمنى لك دوام الألق ونسألك: هل ستكون الجائزة الجديدة في مجال الشعر كما نأمل؟
جائزتي في الشعر هي قراءته، هذا ما أطمح إليه، وما يخصني فعلًا هو أن أدخل في تجربة شعرية جديدة ومختلفة، فأنا أشتاق إلى الشعر وأحبه.
Comments