شعر - شاكر الغزي: (مُسْتَفْعِ لُنْ) مفروقة الوتد في بحر الـخـفيـف
الخفيف من الأنساق الإيقاعيّة الشائعة في الشعر العربي؛ فهو الرابع من حيث الشُّهرة والانتشار؛ إذا يُشكِّل لوحده ما يقرُب من عُشْر الشِّعر العربيّ، قديمه وحديثه. ومن القديم، جاءت على وزنه معلّقة الحارث بن حِلِّزَة (1) اليشكُريّ: (آذَنَتْنا ببينها أَسماءُ)، وقد نظم عليه، أيضاً، غير هذه القصيدة. ونظم عليه الحارث بن عُبَاد لاميتّه المشهورة التي يقول فيها: (قرِّبا مربطَ النَّعَامةِ منّي)، ولامية أخرى. ونظم عليه عنترة العبسيّ أكثر من قصيدة. ونظم الأعشى الكبير ميمون بن قيس، لاميّته: (ما بُكاءُ الكبيرِ بالأَطْلالِ)، التي عدّها القرشيّ في جمهرة أَشعار العرب من السُّموط المعلّقات.
قال عنه الشيخ جلال الحنفيّ: هو بحر جميل. ووصفه ميخائيل خليل الله ويردي بالخفّة، وبأنه ذو رنة ناعمة. وهو ــ بحسب الأستاذ الراضي ـ وسَطٌ بين الفخامة والرقّة، ليس كالطويل في فخامته وجلاله، ولا كالمنسرح(2 ) في لينه وتكسّره؛ لذا كان صالحاً للحماسة والفخر، وما إليهما من موضوعات الجدّ، كما صَلُح للغزل والرثاء، وما إليهما من موضوعات الرقّة واللِّين.
صيغته القياسيّة( 3)، هي:
فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن
فاعلاتن مفاعلن فاعلاتن
وبالرُّموز:
/0//0/0 //0//0 /0//0/0 /0//0/0 //0//0 /0//0/0
وبالمقاطع الصَّوتية:
5-55 -5-5 5-55 5-55 -5-5 5-55
إلّا أنَّ كتب العروض تتّفق جميعها على أنَّ صيغته القياسية هي:
فاعلاتن مستفعلن فاعلاتن
مرَّتين. والتفعيلة الوسطى تُكتب في الكتب القديمة هكذا (مُسْتَفْعِ لُن)، ويُسمّونها مفروقة الوتد، أو ذات الوتد المفروق، وهي تتركب من ثلاثة مقاطع عروضيّة:
1- سبب خفيف (مُسْ = /ه).
2- وتد مفروق (تَفْعِ = /ه/).
3- سبب خفيف (لُن = /ه).
والغاية من ابتكار هذه التفعيلة، هي أنَّ الزِّحاف في منهج الخليل يقع في الحرف الثاني من السَّبب لا غير، ولمَّا كان أوّل تفعيلة )مستفعلن (سببين خفيفين هما )مُسْ) و )تَفْ) كان من الجائز أنْ تُحذف السين والفاء؛ لأنّهما ثواني السببين وفق قاعدة الزحاف النظرية، ولكنَّ الاستقراء العمَليّ للشعر العربيّ لم يُظهرْ إمكانيّة حذف فاء مستفعلن ــ الرابع الساكن ــ في الخفيف! فارتأى الخليل نفي صفة )ثاني سبب) عن فاء مستفعلن(4)؛ وذلك بجعلها وسط وتد، لأنّ الأوتاد في نظريته لا يدخلها الزِّحاف. غير أنَّ الوتد في الشعر هو حرفان متحرِّكان يتبعهما ساكن (//0)؛ فابتكر مصطلح الوتد المفروق بنقل الساكن إلى المنتصف، وسمَّى الوتد السابق بالوتد المجموع(5)! إذ كان الخليل يُشدِّد على أن تكون قواعده العروضية شاملة من أجل تقنين العروض العربيّ. وهذا بحدّ ذاته يجعل وضع )مستفعلن) في وسط الخفيف قلقاً. وأَيضاً، يُوقع في مشكلة أخرى وهي القول بجواز حذف نون )مستفعلن)؛ لأنّها عندئذٍ ستصير ثاني سبب! والواقع الشعريّ لا يدعم ذلك. والمتأخِّرون يرفضون تفعيلة )مستفع لن ( ويعدّونها ممّا لا مسوِّغ له، يقول الشيخ جلال الحنفيّ: هي تكرار لتفعيلة )مستفعلن)، ولسنا بحاجة إليها بهيئتها هذه؛ وإن كان العروضيّون قد استخدموها لأغراض تتلاءم ونظام عروضهم القديم. ويبدو أنّ الجوهريّ والقرطاجنّي كانا يرفضان ذلك، أيضاً.
وقد رفضنا كلا تفعيلتي )مستفع لن( و)مستفعلن( في وسط الخفيف، وأثبتنا )مفاعلن( استناداً إلى عدّة مؤشِّرات:
1-إنَّ )مستفعلن) لها صورتان بديلتان هما )مفاعلن) و(مفتعلن)، وهنا لا تجوز منهما إلّا صورة واحدة فقط هي )مفاعلن(
2-رفض الخليل تفعيلة )مستفعلن) واقترح مكانها تفعيلة أخرى هي )مستفع لن(؛ للدلالة على أنَّ هذه التفعيلة يمكن أن تتحوَّل إلى)مفاعلن) فقط .
3-ليس من المنطقيّ أنّ التفعيلة البديلة )مفاعلن) تأتي في الواقع الشعريّ ثلاثة أمثال التفعيلة الأصيلة )مستفعلن)! فهذا خلاف المعتاد؛ وعليه يمكن القول بأنَّ الحالة معكوسة، فـ)مفاعلن( هي الأصل.
(1)امرأَة حِلِّزة: بخيلة. قال الجوهري: وبه سُمِّيَ الحرث ابن حِلِّزَة. وقال الأَزهري: قال قطرب الحِلِّزَة ضرب من النبات، قال: وبه سم الحرث بن حِلِّزة اليَشْكُري؛ قال الأَزهري: وقطرب ليس من الثقات وله في اشتقاق الأَسماء حروف مُنْكرة، وحِلِّزَة: دُوَيْبَّةٌ معروفة. وقال الأَصمع: حَلَزُون دابة تكون في الرِّمْثِ. ويلاحظ أنّ اسم الحارث كان يكتب قديماً الحرث، إذ تحذف الألف منه تخفيفاً لكثرة الاستخدام وأَمْن اللبس. أما الآن فلم يعد ذلك شائعاً؛ فلا تحذف ألفه. يقول الشيخ محمود الببلاوي في أرجوزته التعليمية (بهجة الطلّاب) عن حذف الألف، في باب ما يحذف من الحروف:
كَذَاكَ في الْحَارِثِ والرَّحْمنِ واللهِ والإِلهِ ذِي الْفُرْقانِ
(2)هناك ما يُوحي بانسلاخ الخفيف من المنسرح، يقول الشيخ الحنفيّ: الذي يميل إليه الحسّ أنّ الخفيف من بعض مشتقّات المنسرح، فللعلّه قيل فيه المنسرح الخفيف، ثمّ استقرّت تسميته على الصفة التي وصف بها.
(3)اعتبرنا )مفاعلن) في الصيغة القياسية للنسق الخفيف، خلافاً لقولهم )مستفعلن( أو(مستفعِ لن(؛ إذ نعتقد ما يعتقده الأخفش من كون )مفاعلن( هي التفعيلة الأصيلة و(مستفعلن) هي بديلتها، وكان لا يرى بأساً في كون البديلة زائدةً عن الأصيلة. ويدعم هذا، أيضاً، أنْ أحصينا مجيء)مفاعلن ( بنسبة 75% مقابل 25% لنسبة مجيء (مستفعلن، ( ولاحظنا ميل الشعراء - سجيّة – إلى تفضيل )مفاعلن) ، وأحياناً عدم استخدام مستفعلن) إطلاقاً.
(4)كان يمكنه الاكتفاء بكتابة ملاحظة أسفل وزن الخفيف، تقول: (لا يجوز حذف فاء مستفعلن.(
(5)الوتد المجموع: حرفان متحركان بعدهما ساكن، ويرمز له (//5)، وهو يقابل المقطع الطويل في الإيقاع الصوتيّ، وسمّي مجموعاً لاجتماع المتحرّكين. والوتد المفروق: حرفان متحركان بينهما ساكن، ويرمز له (/5/)، وسُمّي مفروقاً لأنّ الساكن يفرق بين المتحركين.
4-إنَّ الشعراء ـ سجيَّةً ـ يستعملون )مفاعلن) في وسط الخفيف، ويتجنّبون )مستفعلن ،( قديماً وحديثاً، ومن ذلك أنَّ الشاعر المصريّ حسن عامر نشر قصيدةً من الخفيف لم تردْ) مستفعلن) في كلِّ أبياتها السبعة عشر:
أَنتِ مثلَ الرمـالِ جسمُـكِ سَـالَا
يـا قطيعـاً من الظـبــاءِ الكَسـَــالـى
أَنتِ لمَّـا لمستِ صخـرةَ روحي
مـالَ غُصنٌ وقـالَ للنَّهرِ ما لا..
في شـذاكِ البعـيدِ أَسْـرفتِ حتـَّى
أَجَّـلَ العطــرُ نفـسـَــهُ، واستـقـالا
لستُ أُلقي عليكِ بعضَ نشيدي
بـلْ أُربـِّي علـى يـديــكِ الخـيــالا
بـلْ أَجُسُّ المـيـاهَ في بـئـرِ روحي
أَو أُعـيــدُ الزَّمــانَ فـيـكِ ارتحــالا
نـحــوَ أَصــدائـــهِ الـبـعـيــدةِ جـدَّاً
يـومَ كانَ الكــلامُ بـعـدُ احتـمـالا
قـبـلَ أَنْ تـفــزعَ الـطـيــورُ قـديمــاً
أَو يَـفِـــرَّ الـغــَــــزالُ إلّا دلالا
كنتِ قـبـلَ النَّدى بأَلفِ صبــاحٍ
تغْـزلـيــنَ السَّـمــاءَ للبـحــرِ شــالا
كانَ في سالفِ النَّهــاراتِ يُروى
أَنَّ عينـيـكِ تـشـرحــانِ الـظِّـــلالا
وأَنــا عــاشـــقٌ أُقــــدِّمُ عـمـــــــري
من قديـمِ الهـوى أَشُـدُّ الـرِّحـــالا
كـانَ قـلـبـي سـحــابـــةً ونـشـيــداً
لـرُعــــاةٍ يُـحــدِّثـــــونَ الـجــبــــالا
كنتُ أَرعى الزَّمانَ أَقصى خيالي
والـلـيــالي ارْتَجَلْتـُـهـُـنَّ ارتـجـــالا
حـدِّثـيـنــي إِذنْ لأَرجــعَ طــفــــلاً
بـيـنَ عـيـنـيـــهِ ضحـكـــةٌ تَـتَـــلَالَا
حـدِّثـيـنــي عـنِ الـقُـرى لو قليــلاً
بـي حـنـيــنٌ طـويـتـُـــهُ فاستـطــالا
واحْضُـنـيــنـي إذا بكيـتُ وغـنـِّــي
وامسَحي منْ على الشِّفاهِ السُّؤالا
حـدِّثـيـنــي ولا تَـمَـلِّــي شُـــرودي
إنِّـنـي في الشُّـرودِ أَحسـنُ حــالا
واجرحيـنــي كمـا تشـائـيــنَ إنِّــي
بـعـدَ عينـيــكِ لا أَلــومُ الـنِّـصــالا
وحين سألتُه عن ذلك، أجابني بأنَّها جاءت هكذا على السَّجية.
5-ما قاله الأخفش في كتابه العروض: وما أَرى أصل )مستفعلن) فيه ـ يقصد في الخفيف ـ إلّا (مفاعلن) والسين زيادة... وجازت الزيادة كما جاز النقصان، ويدلُّك على ذلك أَنْ تمامها يقبُح.
6-يقتضي منهج الخليل النظريّ القول بحذف نون )مستفعلن) فتصير (مُسْتَفْعِلُ،( وهو غير وارد في الشعر العربي إلّا في بيت واحدٍ لعُبيد الله بن قيس الرقيّات.
يقول الأخفش: لم نجد ذهاب نون )مستفعلن ( إلّا في شعر لابن الرقيات، وزعموا أَنّه قد كان سبق اللحن، فمن جعله إماماً جوّز حذف نونها، ومن لم يجعله إماماً لم يجوِّزْ حذف ذلك. والبيت في مدح مصعب بن الزبير، وهو:
يتَّقي اللهَ في الأُمـورِ وقدْ أَفْــ ـلَحَ مَـنْ كـانَ هَمـَّـهُ الاتـِّـقـاءُ
فاعلاتن مـفـاعـلــن فـعـلاتن فـعـلاتـن (مفاعلُ) فاعلاتن
قال الأَخفش: (لامُ الِاتقاء) مكسورٌ، وليس في همُّهُ واوٌ بعد الهاء. يقصد: ضمّة هاء الضمير لا تُشبَع بالمدِّ فيتولّد منها واو. ووزنها مفاعلُ بحذف النون.وقوله: لامُ الِاتقاء مكسورٌ، يقصد حرف اللام من ألْ) التعريف الداخلة على كلمة (اتّقاء) المبدوءة بهمزة وصل ساكنة، ينكسر لالتقاء الساكنين، فتلفظ هكذا: لِتِّقاءُ. وقد رفض الأخفش أن تكون النون هنا محذوفة، فقال: وقد يجوز أن لا يكون في هذا البيت زحاف على وجهين:
-قطع همرة الوصل، وهو ضعيف.
-أَنْ تثبت الواو؛ لأنَّ الحرف الذي بعدها تحرَّك وإنما كانت تسقط لسكونه. بمعنى أنَّ هناك قراءتين للبيت، الأولى: همَّهُ الْإتّقاءُ بقطع همزة الوصل في اتّقاء وبقاء لام التعريف ساكنة. والثانية: همَّهو لِتِّقاءُ بواو بعد هاء الضمير وتحرُّك الحرف الذي بعدها
لام التعريف بالكسر. وبهذا التقرير تنتقي الحاجة إلى القول بوجود تفعيلة مفروقة الوتد(١) والتي لا تبدو فكرة محبّذة ولا منطقيّة ـ فضلاً عن الحكم بعدم جواز حذف الرابع أو السابع الساكن من التفعيلة الوسطى. وإنْ كان ثمَّة وجود لها، فهو ليس واقعيّاً، بل عَلاميّاً! فحيث وُجدت كانت بمثابةِ إشارةٍ إلى وجود حالةٍ خاصَّة في النَّسق الإيقاعيِّ تكون فيها مفاعلن أصلاً ومستفعلن بديلةً وحيدة لها. ويمكن تلمُّس بعض التأويلات لفكرة التفعيلة المفروقة الوتد، غير ما قيل من امتناع دخولٍ زِحافٍ ما، كامتناع حذف فاء مستفعلن مثلاً، منها ما ذكره د. عبدالحميد السيد في كتابه الطريق المعبّد في التفريق بين التفاعيل المتشابهة، يقصد مستفعلن و مُسْتَفْعْ لُنْ (2) من جهة اللفظ بأَنْ يُوقَف ـ صناعةً ـ على آخر الوتد المفروق؛ ليعلم السَّامع أنّ هذا الجزء ذو وتد مفروق. وهذا القول ينسجم مع فكرةِ أنَّ مستفعلن مفروقة الوتد في حقيقتها تكافئُ مُسْتافْ عِلْ بتسكين الفاء، وهذه التفعيلة قد تبدو مستغربة هنا، ولكنَّها مألوفة جدّاً في الشِّعر الشعبيِّ، فقد أَشار الأستاذ ربيع الشِّمَّريّ في كتاب العروض في الشعر الشعبي العراقي إلى أنّها تأتي بديلة لـمستفعلن في بحر الرجز، وتكتب مفصولة الفاء عن العين لإيضاح التقاء السَّاكنين. ومثالها من الشعر الشعبيّ العراقيّ، قول الشاعر جودة التميميّ:
گلْبيْ ابْدَرُبْ حُبَّكْ تَعَبْ مَلِّ اوْ فَحَطْ
گِتْلَكْ حَياتيْ احْــرُوفْ وُوْصَالَكْ نُقَطْ
مستفعلـن مستفعلــن مستفعلــن
مستفعلن (مستافْ عِلْ) مستفعـلــن
وقول الشاعر هادي العكاشيّ:
شِيْصِيْـرْ لوْ تِطْلَعْ شَمِسْ فَرْحَه اوْ عِرِسْ
شِيْصِيْـرْ لوْ رَدِّيـْـتْ يـا طَـيــفِ الأَمِــــسْ
(مستافْ عِلْ) مستفعلن مـسـتـفـعـلــن
(مستافْ عِلْ) (مستافْ عِلْ) مستفعلن
(1)هناك تفعيلة أخرى مفروقة الوتد يذكرها العروضيّون وهي:فاعِ لاتن وتقع في بحر واحد فقط، هو بحر المضارع. ولا وجود لهذه التفعيلة، أيضاً؛ فللمضارع تفعيلات أخرى.
(2)وكذلك:فاعلاتن و فاعْ لاتن بسكون العين.
وإلى مثل ذلك، أَلمح الشيخ جلال الحنفيّ في كتاب العروض عند تعداده للتفاعيل العروضيّة، إذ ذكر في هامش تفعيلة فاعلاتن : هناك تفعيلة يكتبها العرضيّون على هيئة فاعِ لاتن يخُصُّون بها بحر المضارع، وقد أَلغينا ذلك، ولكنّ فاعلاتن إذا سكنتْ في الدَّرْج صحَّ أن يكون إيضاحها على هيئة فاعْ لاتن، كقراءتنا النصَّ الشعريّ مثلاً:
سَـأَلَـتْ لَمْيـَـاءْ مـاذا فَتَنَتْ أَيُّ قلْبٍ لَمْ يكُنْ مَفْتُونَها
فعلاتن (فاعْ لاتن) فعلـن فاعـلاتن فاعـلاتـن فاعلـن
ولا يستوجب ذلك أن تكون هناك تفعيلة بهذه الهيئة؛ لأنَّ الإسكان هنا إسكان إنشاد ، وفي السكون نفسه حركة إيقاعية خفيّة مقدّرة. وأَوضح الحنفيّ أنَّ سكون الإنشاد من العوامل التي أَدَّتْ إلى نشوء الشعر البدويّ؛ إذ كان قريض الحضَر إذا بلغ البدوَ تولَّوهُ على جاري عادتهم بإسكان الإنشاد الذي يُكثرون منه.
كقراءتهم بيتَ امرئ القيس:
قفا نبْك من ذكـرى حبيبْ ومنزلْ
بسقط اللوى بين الدخولْ فحوملْ
ولا ندري، لعلَّ الشعر العربيّ المنظوم على الخفيف كان يُنشَد بإسكان فاء وعين مُسْتَفْعْ لُنْ، ولعلَّ الأرجح أنّها مُسْتافْ عِلْ فيستند فيها سكون الإنشاد على حرف مدّ أو لين، والأكثر أن يكون ألفاً(1). وقد كان الأخفش يُجيز الجمع بين السَّاكنين في الشِّعر في ثلاث حالات:
-الوقف في بعض القوافي، ويُفضَّل أنْ يكون الأول حرف لين، مثل: قالْ، وقد لا يكون كذلك، مثل: عَمْرْو.
-إذا كان الأول مَدِّيّاً والثاني مشدَّداً.
يقول في كتاب العروض: قد يُجمع بين السَّاكنين في الكلام في غير الوقف إذا كان الأول من حروف المد واللين وكان الثاني مدغماً نحو ألف شابـَّـة) وياء (أُصيمُّ) تصغير (أَصمّ.
-في غير ما سبق، نحو: عاجْ، في زجر الناقة؛ وعادْ، في دعائها. ونحو: هايْ زيد، وآيْ زيد. وفسَّر الأخفش احتمالهم لالتقاء الساكنين؛ بأنَّ المَدَّة كأنّها عوضٌ عن الحركة، كما في القوافي المقصورة؛ إذ يُستدرك بالمدِّ ما نقص منها. وعلى هذا، يمكن أنْ نتصوَّر مستفعلن مفروقة الوتد في وسط الخفيف على هيئة مُسْتَافْ عِلْ بألف ممدودة بعدها فاء ساكنة مفصولة عن العين المكسورة. ومن خصائص هذه التفعيلة الغريبة:
1-ألف التفعيلة هي ألف ساكنة غالباً. وإن لم تكن كذلك، فيُفضَّل أن تكون حرف مدّ أو لين. ويستثقل كونها حرفاً صحيحاً؛ فينبو الإيقاع.
2-فاء التفعيلة ساكنة سكون إنشاد؛ إذ يوقَف في منتصف التفعيلة؛ للحدِّ من سرعة الإيقاع وتدفُّقه، ولغرض إضفاء بعض الفخامة والفحولة عليه.
ولا شكَّ أنّ الإتيان بهذه التفعيلة في الشعر مستصعب؛ ولذلك عُدل عنها إلى (مفاعلن) حيث الحركات أكثر من السَّواكن، ممّا يُؤدّي ذات الغرض من الفخامة والفحولة، إذ أنَّ الليونة والتأنُّث تتأتَّيان من كثرة السَّواكن( 2). ويمكن أن نجد بعض الأصداء لهذه التفعيلة في بضعة أبيات من مُعلَّقتي الحارث والأعشى الكبير، على سبيل المثال، وفق قراءتنا لها بإسكان الإنشاد الذي ذكرناه:
فَـتَـنَــوَّرتُ نــارَهــا مِن بَعـيـدٍ
بِخَزازى هَيهاتْ مِنكَ الصِّـلاءُ
مستافْ عِلْ
إِن نَبَشتُم ما بَينْ مِلحَةَ فَالصَّا
قِبِ فيـهِ الأَمــواتْ وَالأَحـيـــاءُ
مستافْ عِلْ
مستافْ عِلْ
هَل عَلِمتُم أَيــَّــامْ يـُـنتَهَبُ النـَّـا
سُ غِــواراً لِكُــلِّ حَـيٍّ عُـــواءُ
مستافْ عِلْ
باكَرَتها الأَغرابْ في سِنَةِ النـَّـو
مِ فَتَجري خِلالَ شَوكِ السَيالِ
مستافْ عِلْ
وصِلاتُ الأَرحامْ قَد عَلِمَ النـَّـا
سُ وَفَكُّ الأَسرى مِنَ الأَغلالِ
مستافْ عِلْ
ويمكن الزعم بأنَّ كلمة الأسرى تُنشد بإطالة مدِّ الألف المقصورة لأنّه يبدو أليق بالإيقاع. ونعتقد أنَّ رواسب التعويض عن هذه التفعيلة المستصعبة يمكن أنْ نجدها في الردف المدّ واللين الذي يشيع في قوافي الخفيف، وفي التشعيث الذي لا يدخله سواه من البحور(3)، وكلاهما مترابطان، ومن النادر أن نجد في الشعر القديم قصيدة من الخفيف غير مردوفة.
ويمكن أَن يُستأنس في هذا المقام، بكلام أستاذ الموسيقى الشرقية ميخائيل خليل الله ويردي في كتابه بدائع العروض عن إحلال مفاعلن بديلةً لـمستفعلن (4)، فقد يُقال بأنَّ المُدَّة التي تلفظ بها مستفعلن المؤلَّفة من سبعة أحرف أَطول من المُدَّة التي تلفظ بها (مفاعلن ذات الستّة أحرف، فكيف يظلُّ الإيقاع مضبوطاً في حالة حذف الساكن، وما الإيقاع سوى مدّة زمنية؟
(1)يصحُّ في اللغة تلاقي الساكنين عند الوقف، وعند قصد النطق ببعض ألفاظ التهجّي، مثل: لامْ، ميمْ.
وفي غير هذين لا يصحُّ تلاقي الساكنين إلا إذا تحقّقت ثلاثة شروط:
الأول: أن يكون الساكن الأول حرف لين.
الثاني: أن يكون بعده حرف صحيح ساكن مدغم في مثله.
الثالث: أن يكون التلاقي في كلمة واحدة. والصبَّان لا يشترط ذلك.
مثل: شابَّة، عامَّـة، ضالُّون، صادُّون. وللمجمع اللغوي في القاهرة قرارٌ، نصُّه: لا حرج على من يدفع اللبس بمدٍّ عند التقاء الساكنين في مثل قولهم: اجتمع مندوبو العراق بمندوبي الأردن. انظر: النحو الوافي لعباس حسن.
(2)لعلّ الفارق الأساسيّ بين الفصحى والكلام العاميّ هو ميل العامّة إلى الإسكان في درج الكلام؛ ولذك فالكلام المحكيّ أكثر ليونة وتكسّراً من التكلُّم بالفصحى، وكذلك شعرهم الشعبيّ؛ فالعامة يقفون بالسكون على أواخر الكلمات الإعرابية، فينتج عن ذلك تقطّعات في الكلام وتكسُّرات في الإيقاع.
(3)يدخل، أيضاً، في بحر المجتثّ. وهو في حقيقته من مُقصَّرات الخفيف، ثمَّ أُفرد بنفسه.
(4)الأمر معكوس في الصيغة المقترحة.
ويجيب بأنّ المدة الزمنية في الجوازات المتعلّقة بالحروف الساكنة يجب أَن تبقى محفوظة، سواء بإشباع المتحرِّك، أو بمَدِّ حرف العلّة المجاور، أو بالسُّكوت مُدَّةً تُساوي السَّاكن المحذوف. ثمَّ يضرب مثالين على ذلك، أَحدهما من الخفيف لإبراهيم حسني ميرزا:
ما شَربْتُ المُدامَ إلّا لأَنسى يــا أَحـبـَّــايَ هــذهِ الآلامـــا
ويعلِّق: في الصدر تلفظ المُدام هكذا) المُداام( لأَنَّ مستفعلن 2122 تساوي مفااعلن 2131 من الوجهة الزمنية، ومن هذه النقطة يبتدئ الفرق بين الموازين الشعرية والموسيقية، أمّا في عجز البيت فنقول: يا ها ذِهِلْ)، أي أنَّ مستفعلن تُساوي مافاعلن كما هو معلوم.
وتوضيح ذلك أنَّ استقامة الوزن تقتضي أَن يكون أَصل إنشاد البيت هكذا:
ما شَربْتُ المُودامْ إلّا لأَنسى يــا أَحـبـَّــايْ هــذهِ الآلامـــا
فاعلاتن مستافْ عِلْ فاعلاتنْ فاعلاتانْ فاعلن فالاتن
وإسكان الإنشاد غير ثابت؛ ففي الشَّطر الثاني نُقل من التفعيلة الوسطى لما قبلها، وكلّ ذلك لغرض التعويض. أَمّا تفعيلة الشَّطر الأول الوسطى فيمكن أنْ تُعوّض إنشادياً على نحوين آخرين، أيضاً:
الأول: ما شَربْتُ المُداامَ إلّا لأَنسى. فمدُّ ألف المُدام يوفِّر مدّة زمنية تسمح بتحريك الميم ووصلها بما بعدها وتعوّض عن الوقت اللازم للحرف المحذوف.
الثاني: ما شَربْتُ المُدامْ إلّا لأَنسى. بإسكان الميم إنشاداً وقبلها ألف مُقتَضبة، ويُوصل الكلام بعد سكتة خفيفة تُعوّض المُدَّة الزمنية اللازمة لنطق الحرف المحذوف أو التي يستغرقها المَدّ، سواء مُدّت حركة المقطع القصير (مُ) أَم اقتُضبَت(1).
ومثاله الثاني من الرَّمل، وهو لجبران خليل جبران:
هُوَ ذا الفجْرُ فقُومي ننْصرِفْ عن ديارٍ ما لنا فيها صديـقْ
ويعلِّق عليه، قائلاً: في صدر البيت فعِلاتن مرَّتين، فيلفظ هكذا:
هُوْ وَذا الفَجْرُو فقُومي ننْصرفْ
أَو بحذف الواو مع السُّكوت مُدَّةً مساوية للحرف المحذوف(2).
وهذا هو ذاته سكون الإنشاد الذي قلناه؛ ولهذا كان للإنشاد والغناء ما كان لهما من عظيم التأثير على رواية الشِّعر العربيّ، فهما داخلان في فلسفة إيقاعه الموسيقيّ.
(1)يمكن إنشاد العجز كما يلي: يا أحبَّايَ هذه الآلاما، بمدّ ألف هذه، أو نقل المدّ إلى ألف أحبّايَ للتعويض. أو: يا أحبَّائي هذه الآلاما، وهنا كأنّك مجبر على الوقف لهنيهة على ياء أحبّائي. أو: يا أحبّايا هذه الآلاما، بمدّ أحد الألفين. أو: يا أحبّايْ هذه الآلاما، بإسكان الياء إنشاداً.
(2)هُوْوَ، ظاهرها التشديد هُوَّ ولكنّها في الحقيقة بمدّ ضمّة الهاء حدَّ الإشباع، ويمكن أن يتمّ ذلك بالنبر أيضاً، والفجرو بإشباع المدّ في ضمة الراء، وإذا لم تُمدّ فبالوقف على الراء الفجْرْ والسكوت مدّة زمنية تعوّض زمن النطق بالحرف المحذوف، وهنا يُلاحظ أنَّ التفعيلة الأولى ستكون فاعلاتانْ والثانية فعولن. وهذا مبدأ مهم في الموسيقى، وهو الأساس الإيقاعيّ الذي نتبنّاه للزحافات. ولفائدة أكثر، نُذكّر بقول ميخائيل ويردي: أما في جواز تسكين المتحرك، فواضح أنّ المدّة الزمنية لم تنقص بنقل متفاعلن مثلاً إلى مستفعلن؛ لأنَّ (21211 = 2122) من الوجهة الزمنية. أما حذف المتحرّك فلا يصحُّ مطلقاً.
Comments