شرارة العاطفة وموسيقى القوافي
شرارة العاطفة وموسيقى القوافي - الشيخ نوح ـ موريتانيا
عتبة
إن الثراء الذي يطبع اللغة العربية بشأن المفردات التي تصف الحب ودرجاته دليل دامغ على أهمية هذا الشعور الإنساني وإيلائه المكانة المستحقة من الشعراء العرب (الحب، الهوى، الشغف الهيام، الصبابة، العشق، الوله، الهيمان، الولع، الجنون، الجوى، التبل.. إلخ). إن هذا المعجم الغني كفيل بجعلنا نطلق على اللغة العربية "لغة الحب". "من امرئ القيس حتى سيد البيد" تنبسط سجادة الحب ملونة بأحاسيس الشعراء العرب، فلكل شاعر تجربته ومنظاره لهذا الشعور الإنساني الراقي، إلا أن تجربة الحب الأول ألهمت العديد منهم، وإن كانت المصادر التاريخية الأدبية يشوبها بعض الشح في هذه المادة بالتحديد، ذلك أن تأريخ المشاعر من الصعوبة بمكان، ما لم يكن الشخص المعني هو من يقوم بذلك، لذلك سنعتمد أساسًا على التاريخ الوجداني المعلن وليس على الزمن الفلكي المعدود. رغم ذلك لا يعدم المرء أسماء بارزة في هذا السياق عرفت بحبها الوفي لامرأة بالاسم والصفات عبر حبها الأول، فما الذي نعني بالحب الأول، وما هي تجلياته في سياقات المدونة الشعرية العربية قديمًا وحديثًا؟ وكيف عبر الشعراء عن هذه التجربة؟
الحب الأول. إنه بداية البداية. وجيب القلب الأول لامرأة من لحم ودم "وحبًا كأفراخ العصافير أولا". إن الحب الأول، من هذا المنظور، هو الحلم الأبدي والفردوس المفقود بالنسبة للشاعر، ذلك أن كل التجارب العاطفية اللاحقة ليست سوى بحث سيزيفي عن منبع النبض الافتتاحي، النار الأولى، والحدث المؤسس، وهي فكرة أخذت حيزًا كبيرًا من تمثل الشعراء العرب العشاق على مر التاريخ، قديمًا وحديثًا، لتجربة الحب في أبعادها النفسية والوجدانية.
إنه نمط من الوفاء "العذري" للأنثى الأولى، التي نجحت في نصب فخاخها لقلب ظل كراسة في انتظار أول مكتوب يلطخ بياضها، وكأن هذه الأنثى تتمثل مقولة "إن الصفحة (القلب) هي المكان الوحيد في الكون الذي تركه الرب فارغًا من أجلي" بتعبير الروائي الأرجنتيني بيدرو ميرال.
سنمر خلال هذه الإطلالة ببعض النماذج من الحب الأول لشعراء عرب، في صور الشعر المختلفة.
متاريس اجتماعية
منذ العصر الجاهلي عرف بعض الشعراء بقصص غرامية على طول المسافة الراكضة بين القماط واللحد، فخلد كل شاعر حبيبته، وأقام أحيانًا مشروعه الشعري تقريبًا على التغزل بها، جاعلًا من ذلك الحب العظيم ثيمة شعريّة خالصة، وإن كان يراوح من وقت لآخر بين هذا الحب وبين مواضيع أخرى تتصل بتجربته الشخصية على المستوى الاجتماعي والسياسي، بل إنّه يتخذ من هذا الحب متكأً للتعبير عن مواضيع أبعد ما تكون عن الوجدان والخلجات العاطفية، على غرار ما فعله الشاعر عنترة بن شداد، حين عبر في إحدى شطحاته الوجدانية عن حبه لابنة عمه "عبلة" وهو يمزج بين صليل السيوف ونبضات القلب، في خلطة رفعت من شأن كليهما شعريًّا، وصالحت المتضادات:
ولقد ذكرتك والسيوف نواهل مني
وبيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنّها
لمعت كبارق ثغرك المتبسم!
علي الاعتراف هنا أنني أرى أنه من المناسب التعامل مع قصة حب عنترة لعبلة بوصفها الحب الأول والأخير بحذر شديد، ذلك أن التأكد من هذا الأمر من الصعوبة بمكان اليوم، إلا أنه، شعريًّا وبالاستناد على نصوصه، فإن الأمر يبدو كذلك.
إن حب عنترة لحبيبته يلقي الضوء على جوانب من تفاصيل المجتمع العربي في تلك الآونة، وهو مجتمع طبقي تراتبي، استطاع أن يجعل أنبل المشاعر الإنسانية (الحب) طبقيًّا أيضًا وتراتبيًّا، حتى وإن كانت المصادر تقول إن هيامها به لم يكن أقل من جنونه بها، مما فرض على الفارس العاشق والشاعر الملهم تقديم تضحيات عظيمة، استحق بموجبها الظفر بحب حياته الأول والأخير كما أحجو، رغم أن المصادر التاريخية تتحدث عن علاقاته بنساء أخريات، بل عن زواجه بهن، غير أن نصوصه الشعرية تمحضت تقريبًا لهيامه بعبلة في أكثر من مناسبة.
إن تجربة عنترة تطرح علينا أكثر من سؤال حول العلاقة بين الحرية والمشاعر، بين تواضعات المجتمع واختيارات الأفراد، في ظلّ تقاليد اجتماعية تؤسس لعلاقات الأفراد البينية انطلاقًا من قواعد مسبقة، تحدد المسموح والمحظور اجتماعيًّا وثقافيًّا في إطار التفاعل بين هؤلاء الأفراد، وربما هنا تكمن عظمة تراجيديا قصة عنترة وعبلة، وهي تراجيديا لعبت دورًا كبيرًا في تخليد أعظم قصص الحب في التاريخ العالمي كما هو الشأن بالنسبة لقيس وليلى وروميو وجولييت...إلخ
كما أن هذه التقاليد ما زالت تلقي بظلالها في المجتمع العربي الحديث، ولعل قصة نزار قباني وبلقيس تشكل النموذج المحسوس لذلك، حتى وإن كانت انتهت نهاية سعيدة، لكنها سعادة ناقصة على كل حال، لأسباب نعرفها جميعًا بعد نهايتها الدرامية.
استمرار للحظة بكر
نَقِّل فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى
ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ
كَم مَنزِلٍ في الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى
وَحَنينُهُ أَبَدًا لِأَوَّلِ مَنزِلِ
إن هذين البيتين المنسوبين لأبي تمام، في تقديري، من أشهر ما حفظته الذاكرة الشعرية العربية قديمًا في سياق الاحتفاء بالتجربة العاطفية الأولى، حيث بكارة الإحساس وجدة الاكتشاف يغذيان الوجدان، ويتركان بصمتهما في قلب العاشق إلى ما لا نهاية.
هناك ظاهرة لافتة للانتباه في المجتمع العربي ما بعد الجاهلي، ونعني هنا ظاهرة الحب العذري، الذي أعطانا ثلة من العشاق الشعراء الهائمين في خيالاتهم الوجدانية وتهويماتهم العاطفية، بل إن قبيلة كاملة عرفت بهذا النمط من الحب الأفلاطوني "عذرة"، ولا يمكن للمرء حين يتحدث عن هذه الثيمة بالذات إلا أن تقفز إلى ذهنه مجموعة من العشاق الشعراء، ممن ارتبطت أسماؤهم بأسماء محبوباتهم مثل مجنون ليلى (قيس بن الملوح) وكثير عزة وجميل بثينة وآخرين، وإن كان بعضهم هام بأكثر من امرأة واحدة، في تجربة عاطفية تمتاح عظمتها وخلودها من عصيانها على التحقق على أرض الواقع، وفشلها في ربط العاشقين عبر نهاية سعيدة، سوى أن مجنون ليلى بالذات شكل حالة نادرة كتجربة حب أولى وأخيرة في كل حياته، ومما يسهل علينا إطلاق هذا الحكم هو الكم الكبير للمدونة الشعريّة لهذا الشاعر، وكذلك اعترافاته الشعرية البالغة الوضوح في هذا الموضوع:
تعلقتُ ليلى وهي غر صغيرة
ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجم
صغيرين نرعى البهم، يا ليت أننا
إلى اليوم لم نكبر ولم تكبر البهم
إن الشاعر هنا لم يعرف غياب الطمأنينة، ولم يخايله القلق، إلا بعد أن كبر وكبرت حبيبته، وهو يكشف لنا بذلك صعوبة العشق في بيئة اجتماعية كتلك، لا سيما بالنسبة لشاعر بلا أسرار، يجعل من حياته وتجاربه العاطفية موادًا خامًا لنصوصه الإبداعيّة، حيث تواضع العرب على منع الزواج من المرأة بالعاشق الذي شبب بها على الملأ.
ظل مجنون ليلى وفيًّا لحبيبته، حتى وإن فرقت بينهما البلدان والجغرافيا، متنقلا بين نجد والحجاز والشام ومصر:
يقولون ليلى في العراق مريضة
فأقبلتُ من مصر إليها أعودها
فوالله ما أدري إذا أنا جئتها
أأبرئها من دائها أم أزيدها؟
احتفظت مدونة الشعر العربي أيضًا في نموذج نادر باسم نسائي "ليلى الأخيلية" كإحدى أكبر العاشقات في التاريخ العربي لشاعر يدعى "توبة"، وقد حالت التقاليد الاجتماعية من جديد دون اقتران العاشقين، وظلت ليلى تتدفق بشعر رقيق، توقًا إلى محبوبها الأول وحلمها الذبيح على صخرة الممنوعات الاجتماعيّة والقوانين المناهضة لتحقيق الأساطير الشخصية في هذا المجال؛ خاصة بالنسبة لمن خرج أصحابها عن دستور المجتمع في التكتم والمواربة فيما يتعلق بالحب والهيام. ويجب أن نشير أن هناك استثناء لهذه القاعدة تمثل في عشق قيس لبنى (قيس بن ذريح) الذي أحب لبنى بنت الحباب الخزاعية وتوجت قصتهما بالزواج، وإن كانت هذه النهاية السعيدة لم تعمر طويلًا، فسرعان ما طلقها بذريعة أنها عاقر، تحت ضغط عائلي، بحسب بعض المصادر التاريخية.
هل تغيرت نظرة المحدثين للحب الأول؟
لم يتوان الشعراء في العصر الحديث عن التعبير بشكل مفتوح أحيانًا عن تجاربهم العاطفية، سواء في نصوصهم أو حتى في مقابلاتهم. ولعبت الصدفة دورًا أساسيًّا في قصة الحب الأول للشاعر المصري أمل دنقل مع الصحفية عبلة الرويني. هذا الحب الذي انقدحت شرارته أثناء مقابلة صحفية لجريدة الأخبار أجرتها معه عبلة، ليسجل التاريخ واحدة من أشهر قصص الحب في التاريخ المعاصر للشعراء العرب. وتقول عبلة إن طريقة الشاعر في التعبير عن الحب كانت مختلفة "فهناك من يعبر بالقول عن الحب، وهناك من يعبر بالفعل، أو بصيغة أخرى هناك من يعبر عن المشاعر وهناك من يعبر بالمشاعر" مؤكدة أن هذا الشاعر حين يمتلئ بالحب، فإنّه لا يعبر عنه بمفردات واضحة على غرار كثيرين. غير أن الصحفية ألمحت إلى أنه عبر عن حبهما في قصيدة "مقابلة خاصة مع ابن نوح" عندما ختمها بقوله:
"كان قلبي الذي نسجته الجروحْ..
كان قلبي الذي لعنته الشروحْ...
يرقد الآن فوق بقايا المدينة
وردة من عطنْ
هادئًا بعد أن قال لا للسفينة
وأحب الوطن"
معترفًا لها أنها هي الوطن، وأن النص مهدى إليها. وهل هناك شعور أو حب أكثر عمقًا من الشعور بالوطن وحبه؟. أليس هذا تعبيرًا عبقريًّا عن الحب الافتتاحي والختامي؟.
نزار قباني. هذا الاسم الكبير وأحد أهم رواد الحداثة في الشعر العربي، عرف حبه الأول والمعلن والذي جمعه بالدبلوماسية العراقية بلقيس الراوي، والذي كان عاصفًا ومليئًا بالمطبات، نظرًا لقرار نزار إعلان هذا الحب على الملأ، مما صعب من فوزه بالمرأة التي دوخته حتى آخر الدوارات، لدرجة أن الأمر تم لاحقًا بعد تدخل شخصيات سياسية وازنة لإقناع ذويها بالأمر.ورغم أن نزار تزوج قبل بلقيس، غير أننا شعريًّا يمكن أن نعتبر بلقيس حبه الحقيقي الأول من امرأة من لحم ودم، كما قدمها في نصوصه، وكما بكاها وظلت ملازمة لذاكرته بعد مقتلها إثر تفجير للسفارة العراقية في بيروت، حيث كانت بلقيس موظفة فيها. ويبدو أن الحب وصداعاته لعب دورًا مهمًا في سيكولوجية الشاعر الدمشقي، حين تعرض لأول أكبر صدمة في حياته بعد انتحار أخته إثر تجربة عاطفية فاشلة، بعد أن رفض أهلها تزويجها من حبها الأول.
لقد أعلن نزار الحرب على المجتمع العربي الرافض لجمع العشاق تحت مبررات واهية، وقد تجلت هذه النظرة بشكل أكثر كثافة في مرثيته التاريخية لحبيبته وزوجته المغتالة بلقيس الراوي:
بلقيس يا وجعي... ويا وجع القصيدة حين تلمسها الأناملْ..
قتلوك يا بلقيس
أية أمة عربية تلك التي تغتال أصوات البلابل؟
إلى أن يقول:
قسما بعينيك اللتين إليهما تأوي ملايين الكواكبْ
سأقول يا قمري عن العرب العجائبْ!
عبر هذه النماذج التي مررنا عليها من تجارب الحب الأول، أردنا هنا أن نعطي فكرة عامة عن هذا المفهوم ورؤية مختلف الأجيال الشعرية له، بدءًا من الحب الممنوع لدى عنترة بن شداد لعبلة، وصراعات الشاعر العاشق للظفر بمحبوبته في بيئة اجتماعيّة خاصة، مرورًا بالحب العذري في العصرين الأموي والعباسي وما يكتنفه من حرمان واحتراقات، شكلت وقودًا لنصوص إبداعيّة ظلت تتدفق بالرقة والوجدان والتعبير عن اللوعة والصبابة المنجرين عن ذلك، وصولًا إلى المرأة القصيدة في تجربة نزار قباني مع بلقيس الراوي، وما فجرت في وجدانه من براكين فنية ومن غضب وسعادة وتوتر في آن، وانتهاء بالمرأة الوطن المتعالية على العبارات المباشرة والحديث اليومي لدى أمل دنقل. وتظل تجربة الحب الأول منبعًا للشعر والفن ومخبرًا للتجريب وتخصيب الوجدان الشعري لدى الشعراء العرب على مر العصور.
Comments