شوكت المصري: سيرة محمد عفيفي مطر أو مِما يتكوّنُ الشاعر؟
مصر
محمد عفيفي مطر.. ليس سهلاً أن تنطقَ الاِسم هكذا دون أن تسبقه بلقب يحاول التعبير عن هذه التجربة والحضور.. والأكثر صعوبةً أن يُجمِلَ هذا اللقب حياةَ صاحبه الإبداعية دون أن يسقِطَ شيئًا منها.. فهل هو "الشاعر" أم "الأديب" أم "الفيلسوف"؟! وهل هو كما يراه النقاد أحد رواد الحداثة الشعرية العربية، أم أنه "آخر الشعراء الجاهليين"، أم "شاعر الأرض والدم" و"الفلاح الفصيح"؟!
كل هذه المحاولات والصفات والألقاب لا تستطيع الوفاءَ بقيمة محمد عفيفي مطر في الأدب العربي المعاصر.. فقد ترك من أثر خطواتِهِ سبعةً وعشرينَ كتابًا، منها تسعةَ عشرَ ديوانًا شعريًّا (بدأها بـ "مجمرة البدايات" في أواخر الخمسينات، واختتمها بـ "يقين الرمل" عام 2010)، وثمانية كتب نثرية (بدأها بسيرته الذاتية "أوائل زيارات الدهشة" واختتمها بـ "دوائر الاكتمال")، وداخل هذه وتلك كان كتابه النقدي "شروخ في مرآة الأسلاف"، و"مسامرات الأولاد كي لا يناموا"، ودواوينه التي أحدثت مساجلات في المشهد الشعري الحديث "يتحدث الطمي"، و"شهادة البكاء في زمن الضحك"، و"أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت"، و"احتفالات المومياء المتوحشة"، و"ملكوت عبد الله".
لكن هذا الحضور الأثير المؤثِّر، والفريد المُتَفرِّد، لم ينبعُ من الفراغ، وإنما انبنى على سنواتٍ طوال من الرؤيةِ والاحتراق والسعي، فمن خطواتِ الدهشةِ الأولى في سنواتِ التكوين بقريته "رملة الأنجب" التي تقع على مقربةٍ من تفرِّع النيل شمالًا (بعد القناطر الخيرية) بمجرّد عبوره للقاهرة، إلى رحلتِهِ في مكتبة أبيه وخُطَبِ جدّهِ "عامر" وشروحه للمتون التي خطَّها بيديه، وارتحالِهِ في مصنفات الفلاسفة الأوائل والمتصوفة وكتابات "أبي العلاء المعري" و"ابن عربي" و"النفّري"، وقراءاته في منجزات اليونانيين والآداب الغربية والشرقية.. أصبح عفيفي مطر محمَّلاً بكل هذا الإرث الإنساني واختار أن يقفَ على مسافةٍ من كلِّ هذا غير منقطِعٍ عنه، وغيرَ منخرطٍ فيه، وإنما متحيِّزًا وباقتدار إلى ذاتِهِ ورؤيته وخصوصية نصِّهِ الأدبي، في رحلةٍ امتدت لخمسةٍ وسبعين عامًا، ازدادت سبعةً وعشرينَ يومًا، بعدد كتبه التي تركها قبل رحيله في 28 يونيو عام 2010. وتناول مفردات كتابةٍ أدبية كمشروع عفيفي مطر الذي يرى في الشعر قيمةً يزكي جوهريتها أن تتدثر دائمًا بالغموض الجليل، لا يمكنه إغفالَ نشأته، تلك النشأة التي تعرَّضَ لها في كتابه/ سيرته الذاتية "أوائل زيارات الدهشة: هوامش التكوين"، والتي يقدِّم فيها كتابةً نوعية على مستويين: أولهما أنها كتابةٌ نثرية لشاعر، وثانيهما أنها كتابةٌ تندرجُ تحت ما يُسمى بفن السيرة الذاتية والذي يمتلك من الخصوصيات الفنية ما يميزه عن غيره من أنواع النثر. ونحن إذ نقترب من سيرةٍ ذاتيةٍ لشاعر له مشروعه الشعريّ المتميز كمحمد عفيفي مطر، ونحاول تبصّر مفردات الإدراك التي شكلتها الأنا في مراحل تكوّن الوعي الأولى، ونعيد الكشف عن تأسيسات ذلك الإدراك. وكأننا ننظر إلى صورةٍ فوتوغرافية من ألبوم الماضي (كتلك التي تصدرت صفحة غلاف هذه السيرة الذاتية لعفيفي مطر وهو لم يدخل في سن العشرين بعد، وقد صدرت عن دار شرقيات عام 1997)، وكلما نظرنا إليها وجدنا أنفسنا باحثين فيها عن تلك الملامح التي يطالعنا بها وجهُ رجلٍ نعرفه قد شارف عمره على السبعين (غلاف "احتفالات المومياء المتوحشة" عن دار الشروق عام 1998)، ومنشغلين بالبحث عن تلك المساحات الفارغة بل الشاسعة التي كانت على ذلك الوجه الفتيّ، وكيف ملأت السنون أُفُقَهُ عذاباتٍ وفرحًا وتساؤلات مُرّة، متسائلين عن احتمال هذا الأنف البارز أثرًا داميًا بعد عامه الستين ليصبح شاهدًا على كلّ رفضٍ حر في زمن الخنوع (وقد نتج ذلك الأثر عن تعرض الشاعر للتعذيب داخل المعتقل السياسي في شهر مارس 1991، مما خلّف أثراً على عظام الأنف) وكيف استعرت نظرة تلك العينين الهادئتين لتصبحا جمرتي رؤية تلمعان برغم ذلك الظلامٍ الدامس فتفضحان العالم وتنيران العقل.
وعي شديد الخصوصية
لقد عكست سيرة مطر وعيًا شديد الخصوصية بنوعي الجنس البشري (الذكر والأنثى)، حيث حملت لنا السيرة وعيًا بتلك الثنائية، يختزل في طياته مأثورًا ثقافيًّا واجتماعيًّا ودينيًّا يحققه النص في وصفه للجسد الإنساني. إذ يفرض من عدة جوانبٍ حدة اختلافهما بينما يعرض على جانبٍ وحيد اشتراكهما، بل تماهيهما في لحظةٍ ضعفٍ خاصة هي النفس البشرية في صيغتها الأولى. فالجسد الذكوري (داخل نص السيرة) فارعٌ مفتولٌ متجهمٌ صلبٌ يتصبب عرقًا وقدرة، في مقابل الجسد الأنثوي الذي يتبدى لينًا حنونًا بشوشًا رقيقًا يفوح عطرًا وغواية ووفرة؛ لكن صلابة الأول لا تمنع انطواءه على ضعفٍ من نوعٍ خاص، كما أن رقّة الثاني لا تمنع أيضًا تفجّرهُ أحيانًا بسطوةٍ من نوعٍ غريب. هذه التمايزات والتنوعات والتشابهات حملتها لنا السيرة في تصويرها لشخصيات يمكننا اعتبارهم أبطال أحداث ووقائع السيرة، والذين عكس النص هامشية بعضهم بينما جعل من بعضهم الآخر رموزًا لها من مركزية الحضور ما يؤكد فاعليتها ليس فقط في توجيه قراءة تلك السيرة، ولكن في توجيه قراءة نصوصه الشعرية أيضًا. وهنا تحضر شخصية الأم "سيدة أحمد أبو عمار"، التي اختار كاتبنا تخصيصها بإهداء هذه السيرة، بكل ما ينطوي عليه ذلك من دلالة، وإجلال، ورغبةٍ في الاعتراف بالجميل، إذ يقول:
"إلى جليلة الجليلات:"سيدة أحمد أبو عمار"فيض البركة في الزمن الصعب، وبسالة الحنان الكريم في عصف الشظف، أمي" (ص7)
لقد تركت الأم أثرًا خالدًا في وعي الذات، فليس الأمر مجرد علاقةٍ اعتيادية بين أمٍ وابنها تتحدد مفرداتها في الحنان والعطف والتربية واكتساب القِيَم، لكن الأمر أكبر من ذلك بكثير، حيث مثَّلت الأم حالةً فريدةً من العطاء المحتشد بالكبرياء والمتّوجِ بالقداسة، تلك القداسة التي ولّدتها أوليّة الارتباط بين صوت الأم وآيات القرآن في مراحل الإدراك الأولى، يقول عفيفي مطر:
"حينما كانت أمي تستعيد الاستماع إلى ما حفِظتُ من قصار السور..ومن جزء عمّ إلى جزء تبارك، وتصحح بصوتها الرخيم ووجهها المضيء بالفرحوعينيها المسبلتين المتبتلتين ما أخطئُ فيه، كان الإيقاع الجليل بصفائِه يشمل كلَّ شيء" (ص11).
لكن الدهشة لم تتبدَّ إلا حين زلزل صوتُ سيدنا (شيخ الكتّاب) كيانَ هذا الطفل، وأفسد ذوبانه في ذلك الإيقاع الجليل: "انتبهت مفزوعًا على صوتِ سيدنا وهو يعنّف امرأته وابنته الشابة وهما وراء الباب،ثم علا صوتُهُ الأجشّ الغليظ بآيات قصار السِور، فقلت لنفسي: لا بدّ أن القرآن امرأة،وأن الآيات أمومةٌ خالصة لا يعرفها الرجال.واكتشفتُ أن كل ما حفِظته من قبل قد سقط من ذاكرتي.. فبكيت".
اكتشاف الأنوثة
على عتبة المراهقة لم يكن اكتشاف الأنوثة بوفرتها واتساع عالمها الغامض –بالنسبة له- هو مولّد التساؤلات، فقد ترسّخت صورتها في الوعي منذ الطفولة وظلل النموذج/ الأم هذا التصور، إلى درجةِ النظر إلى قريناته من الفتيات الصغيرات على أنهن أمهات ولكن من نوعٍ خاص، يقول :
"استغرقتنا حالة اللعب بالطينِ والبوص.. فاجأتنا البنت الطريّة الجميلة بما صنَعَتْ،فرأينا عروسًا من الطين بين يديها.. كانت البنت الطريّةُ قد جعلت ملامح العروس الطينية تكادُ تنطق، وقد مسدتها بلعابها في رقةٍ ونعومةٍ جعلتها تلمع، ونقشت حولَ نهديها وسُرَّتها نقوشًا فاتنة تشبه نقش الكعك، تستديرُ في انحناءات طيّعة مرهفة" (ص27)
وفي مقابل (المرأة/ الأم) بكل ما يحمله نموذج الأنثى من وجود مقدسٍ رحيمٍ وضعف تكوين وشقاءِ مثابرة واحتمال، تطالعنا السيرة بنموذجٍ مقابل هو (الرجل/ الأب)، حيث الوجود المهيمن والسطوة القاهرة التي لا تعرف التراجع ولا الاستسلام، فلا سبيل لزعزعتها أو النيل منها. وعفيفي ينتصر في أحايين كثيرة لنموذج (الأم) على حساب (الأب)، لكنه انتصار لم يكن ضد الرجل أو الذكر عمومًا، بل ضد الزوج بسطوته وسيادته المطلقة، أو أنه ضد كل قوةٍ غاشمة على إطلاقها، يقول:
"لم أرها تستريح لحظةً واحدةً منذ تفتّحت عينايَ عليها، وأصبحتُ جزءًا من عالمها وعبئًا ثقيلاً مضافًا إلى أعبائها، وهي في الحقيقة لم تكن إلا عبئًا واحدًا يبطشُ بوجودها كلِّهِ بطشَ جبارين لا يرحمون، هو عبء السيّد الأوحــد مــــالك الرقبة، محور الحياة والنوم والـيقظة.. وكانت آخر كلماتها وهي تموت حكمًا بقتلٍ من نوعٍ فريد أو عدلاً وقَصاصًا تأخّر بهما الزمن.. كانت وصيتها الوحيدة لأولادها وجميع أقاربها ألا يجمعوها مع الزوج في قبرٍ واحد" (ص20، 21)
لكن نموذج الرجل/ الأب أو الزوج لا يلبث أن يتكشف ولكن (بعد موته)، وبعد أن ورث الابن خزانة ملابسه ومكتبته ودولاب أسراره، إنه يتكشف عن تلك اللحظة الغامضة، لحظة الضعف التي يغطيها قناعٌ جسديّ من القسوة والقدرة والصلابة الذكورية، قناعٌ صنعته جهامة الأيام وقسوة التجارب وصلابة التحديات؛ ليكون الموت لحظة التصالحٍ بين جسد الأب وحقيقته، وبين الأب وابنه الذي أجهد وعيه وإدراكه بمحاولات تفسير تلك الهيمنة والسيطرة والجهامة، يقول مطر:
"أكان هذا الطود المجبول من صوّان الإرادة وجهامة القسوة وفوران العنف مطويًا على ينبوعٍ من الهشاشة والدمع ورعب المنفى الوحيد بين وحوش الأهل؟!أكان ما يزيد على نصف قرن وهوهة فزع في أحراش القرابة الموحشة؟!" (ص116)
إعادة قراءة العالم
على جانبٍ آخر عكست السيرة انغماس أناهُ في عوالم الشعر وإيقاعاته المتنوعة، انطلاقًا من تصوّر أن إيقاع الشعر يستطيع باقتدار إعادة قراءة العالم وترتيب مفرداته وصولاً إلى حالةٍ من التماهي بين الذات والوجود. انطلاقًا من يقينٍ راسخ بأن للعالم إيقاعٌ محددٌ خاص يحكم حركة الموجودات الدائرة فيه، يقول مطر:
"ويتشكّل اليقين الراسخ بأن الكون معزوفةٌ أو جملةٌ موسيقية واحدةتحكم نغماتها صـرامة الرياضـيات العلــيا الشــاملة" (ص48)
ولعل نظرةً متأنيةً في نص السيرة لتكشف لنا عن البدايات الحقيقية لذلك اليقين الذي ترسّخ وساعدت الأحداث والوقائع والشخصيات في تعميق جذوره داخل تربة الوعي. حيث كانت البداية مع جسد الشاعر الشعبي فتحي سليمان أحد منشدي السير الشعبية في الريف، وتحديداً محافظة المنوفية التي ولد وعاش فيها شاعرنا، ويطلق عليه الفلاحون لقب " الشاعر" فتحي لأنه يسرد السير في شكل قصائد مغناة يضيف عليها بعض الأبيات الفولكلورية، ويوشيها بالمواويل والرباعيات. ذلك الفنان الشعبي الذي اكتشف معه مطر تلك العلاقة الحميمة بين الجسد والإيقاع، والتي تتمنى الذات أن تمتلك القدرة على فك رموزها لتسيطر هي الأخرى على صيغة وجودها، محققةً القدرة على الفعل والانفعال، يقول مطر:
"حين رأيتهُ أول مرة، بطوله الفارع وعمامته الرشيقة وقفطانهِ الذي يتصبب حريرًا وقصبًا وأقواس قزح، ظننته جسدًا من الموسيقى ينبع منه الكـلام" (ص14)
وهكذا تكشف لنا "أوائل زيارات الدهشة" الستار عن المؤثرين الذين تركوا علامات بارزة في وعي الذات، ليس فقط من خلال سرد الواقعة أو الحدث العالق في الذاكرة، ولكن من خلال تتبعٍ شديد الحساسية لإيقاع شخصياتٍ ربطتهم بالذات علاقة انفعالٍ وتأثير، فأصبحَ إيقاعهم نبضًا للوعي يدفع الذات إلى توسيع إدراكها ويمنحها القدرة على تجاوز المحدودية بحثًا عن تشكيل المفاهيم وتكوين الرؤى. وهذا بالفعل ما تطالعنا به شخصيات السيرة الذين يدين لهم صاحبها بولاء المعرفة والاكتشاف والدهشة، على الرغم من تنوعهم واختلافهم ما بين مهمّشين ومشاهير، ومثقفين وأميين، وأقارب وغرباء وأصحاب أقلام وحرفيين، بل إن منهم من أسعفت الذاكرة باسمه ومن طوى اسمه النسيان ولكن بقي إيقاعه نابضًا في الذاكرة، نذكر من هؤلاء – بحسب ترتيب ورودهم في "أوائل زيارات الدهشة": مدرس التاريخ في المرحلة الثانوية - "عم ميخائيل نجّار السواقي"- الشيخ الأزهري "درويش أبو شنب" مدرس النحو بالمدرسة الثانوية بمدينة "منوف"- الشيخ "أمين الخولي"- "محمد أفندي قنديل" (الصديق ووالد الزوج فيما بعد)- "العربي" حارس أحد ذوي الأملاك- الشيخ المغربي العابر- اللاجئ الفلسطيني وزوجته وولده- الحداد وزوجته- الأستاذ أحمد العمري أمين مكتبة مدرسة منوف الثانوية. فها هو "عم ميخائيل" نجار السواقي يمتلك سر المياه وأماكنها والقدرة على استخراجها، إنها وفرةٌ من المعرفة الخاصة، يقول عنه:
"وقف عمّ ميخائيل، نجّار السواقي، بقامته الربعة المدكوكة وقد ظهر شعره الذي وخَطَه الشيب تحت الطاقية الملفوفة بالشال الأبيض، وامتلأ وجهه بشاربه الكثّ المصبوغ بصُفرة المعسِّل، وصوته القويّ الآمر يحدد لمساعديه طريقة رفع جذع التوت مستوياً فوق حمالتين قويتين عاليتين... كنتُ أنظر إلى عم ميخائيل بإعجابٍ تخالطه قداسة المعرفة بسرّ الخشب والسيطرة على الماء والقدرة على التشكيل الذي يهب الحياة والخضرة للحقول" (ص30، 31)
مؤسس جماعة الأمناء
ها هو حضور الشيخ أمين الخولي صاحب مجلة "الأدب" ومؤسس جماعة الأمناء البحثية كممثّلٍ لكيان أدبي شريف مرِن قابلٍ للنقاش والنقد وقادر على استيعاب الرؤية المغايرة لكل آخر، وجودٌ ظل يفجّر في "مطر" الرغبة الدائمة في إثبات الحضور الفاعل حتى بعد رحيل الشيخ عن دنيانا منذ أربعين عامًا، إنها وفرةٌ من المعرفة العلمية. وها هو "محمد أفندي قنديل" نموذج مثقف القرية، وأحد من رأى فيهم "مطر" الرعيل الأول للمعرفة والثقافة، الذين ترعرع كاتبنا تحت رعايتهم وتوجيههم ومثّلوا لهم القدوة ووجد فيهم الدعم حينما تخلّى عنه الكثيرون واتهموه بالزيف والسرقة والغش، يقول مطر راصدًا حضور هذه الشخصية:
"كان محمد أفندي قنديل ذا سمتٍ وهندامٍ يميزانه عن المدرسين وأهل القرية جميعًا، فالبيريه الكحليّ وعصا المخلب الرفيعة ووجهه الأحــــمر الذي تتبدى فيه شبكة معقــدة من الشعيرات الدموية التي يكاد يقطر منها الدم، والبابيون الأحمر المنقوط بالأبيض أو الكحليّ ونحـــــافته الرقيقة الرشيقة، ولثغة الراء الخفيفة الخاطفة، وأرنبة أنفه المشرئبة في كبرياءٍ وتأفف، وعـيناه الزرقاوان رقيقتا الجفون اللتان يشعّ منهما ذكاءٌ به مكر وغضب واسترابةٌ وسخرية، وطول صمته بين زملائه، ونوبات انفعاله الحاد إذا احتدم النقاش، كلّ ذلك جعله في نظري كائنًا مدهشا" (ص81)
تأثيرٌ متنوع وحضور خاص استشعرت الذات في نشأتها تماسها معه، إلى درجة عنونة جزء خاص من السيرة بعنوان " قرابات الغرباء "، إنها قرابة القهر والتهميش والاغتراب الدائمين، قرابةٌ تمتد مجاوزةً محدودية الزمن وجغرافية المكان ليشمل إطارُها إنسان العصور القديمة المهمّش الوجود، ذلك الذي وقف نفسه وجهده لبناء أعظم الصروح والحضارات ولم ينله من ذلك سوى النسيان بينما حفظ التاريخ أسماء من صُنعت هذه الحضارات على عهدهم من ملوكٍ وفراعنة وقياصرة، رغم أنهم لم يتكبدوا في سبيل ذلك مثلما تكبد العمال والصنّاع والفنانون والمفكرون . لقد فجّر ذلك الوجود المهمّش وعي الذات بمفردات صراعها من أجل كل آخر عاجزٍ عن التصارع، إنه وعيٌ ولّدتْهُ تلك النماذج المزامنة لوجود الأنا، وأزكته المعرفة والاطلاع، ورصده نص السيرة التي بين أيدينا قائلاً:
"فكلّما فكرت وأعدت صياغة المشهد الجبار تجلى لي غــــولٌ متوحّش لا يغالب ولا يقاوم،هو غول الآلة الجهنمية الباطشة بمنظومتها وتراتبها المتماسك وممارسـاتها التي لا تمتُّ بصلةٍ إلى الإنسان، غول آلة الدولة.. وكنت أتصوّر نفسي مواطنًا في دولة الأسر القديمة الأولى أو الرعامسة أو التحامسة فيصيبني الهلع والرعب، فيقشعر جســدي ويقف شَعـري وأنا أسأل نفسي: هل كان ممكنًا أن تكدحَ طول عمرك – بلقمةٍ وفحل بصل - حتى تنال لقبًامثل: الراعي المقدس لأوز ميدوم أو الحارس الملكيّ على غائط الكاهن الأعظم، أو العين الساهرة على شرج العجل المقدّس آبيس، أو الأمين الملكي الصادق على غســل الأكوابوتخمير الجعّة؟! لقد امتلأت يقينًا بأن كفاح البشرية كلها يكاد ينحصر في النضـال ضد غول الدولة وآلهتها الجهنمية وكهانها المتمرسين لسرقة العقول والأرواح والضمائر والمصائِرفي الدنيا والآخرة.. إنه الكفاحُ والنضال ضد صفات الفرعونية في كلّ شيء، في السياسة والإدارة والحكم والتراتب الكوني والإنساني حيثما وكيفما كانت هذه الصفات" (ص70 ـ 76)
وعلى جانبٍ آخر كان للقصيدة ارتباطُها الخاص بالذات، كما تعكس سيرته الذاتية؛ إذ تزامنت لحظات تلاوتها وميلادها دائمًا بمحنةٍ توشك أن تعصفَ بهذا الجسد. وهذا ما تنقله لنا "زيارات الدهشة" من ذاكرة الذات وأحداث ماضيها، فها هي حمى الملاريا تشعل الجسد وتكاد تعصفُ به بينما تعِيرُه إيقاعات القصيدة نبضها ليتشبث بالحياة من جديد.
ومع تجذّر هذا اليقين بدأ التنقيب عن كلّ إيقاع ذاتٍ شاعرة في دواوين الشعراء وقصائدهم المختلفة، إنهم العائلة الحقيقية التي ستنتشل الذات من الضياع واهبةً الأنا إحساسها المتوقّد، وها هو ديوان محمود حسن إسماعيل يعلن عن كون كاتبه أحد أفراد هذه العائلة:
"قرأت الديوان مسحورًا مستلب الحواس، تعصِف بي موسيقاه وتزلزلني سطوة أنظمة القوافي بالتكرار الرياضي المحسوب والتردد المتراوح المعقّد والمفاجئ، والصور النابعة من تراسـل الحواس وقلب العلاقات بين المجرّد والمحسوس في الوصف والتشبيه والمجازات والاستعارات المحرّكة للفكر... ويا لهول ما عصف بي، كأن الصور والموسيقى تنبع من قلبي وتقطُرُ بها أعضائي" (ص104)
زلزلة حسية هكذا حققت القصيدة لصاحبها زلزلةً حسيّة تنفعل بها أعضاؤه، فيتفصد الجلد أنغامًا وإيقاعات وتختلج ضربات القلب بالأوزان والتفعيلات وترفع المجازات والصور والتشبيهات حرارة الجسم لتزداد سيولة الدم وغزارة الدموع، ليبدأ الجسد في مبادلة العالم الفعل والانفعال في حالة من الذوبان والامتزاج والتماهي. وأصبحت ممارسة الطقوس المضنية في الكتابة وما يزامنها من انفعالٍ جسديّ شديد الوطأة سببًا في تأكد قناعة الذات بخصوصيتها وتميّزها، والذي أنتج في المقابل فلسفةً للرفض الدائم لكل محاولات التهميش والاستلاب والنفي التي تنتهجها كلّ سلطة بدءًا بالأب ومرورًا بالمجتمع وانتهاءً بسلطة المؤسسة الحاكمة (الدولة). وقد تضمن نص السيرة اعترافًا بذاك الاحتفاء وهذا الرفض، حينما انفجر البؤس والتعاسة (اللذان اختزنتهما الذات في مراحل تكونها المعرفي) في وجه الطغيان والصلف والسيطرة.لقد منح الشعر تلك الذات ديمومةً وجودية تتخطى محدودية الزمان والمكان. إنه الفرار من الموت، أو من الدخول في وجودٍ متكرر، لتصبح المعرفة بالشعر هي ضمانة الاختلاف والمغايرة والاستغراق في عالم ساحر مشتبك معقّد التكوين. إن " أوائل زيارات الدهشة " لمحمد عفيفي عامر أحمد مطر خليل الرملاوي هي بالفعل سيرةٌ ذاتية متميزةُ ككاتبها، ولعل مما أكسبها ذلك التميز هو كشفها عن مكونات وعي مطر في مدارجه الأولى، هذا الوعي الذي أعاد قراءة العالم والذي أصبح الشعر قوامه وقمّته وقيمته المثلى، لأن الشعر هو الرؤية التي تتأبى على المحو، رؤيةٌ تتسع لتختزل الوجود في صورة، وتتحدد لتسكن النفس، فينبض بها القلب ويشقى بها العقل وتنجذب لها الحواس ويفور بها الدم فينتفض الجسد ويعلن عن ميلاد القصيدة اللسان. إنه الشعر ذلك الطائر الجارح الذي يحمل القلب فتحلّق الذات في فضاءٍ ما العالم منه إلا جرمٌ صغيرٌ في مجرّته الشاسعة، أو كما يقول مطر (عن ذلك الطائر/ الشعر) في مفتتح أوائله:
"كان قلبي معلّقًا بين مخالب طائر جارحٍ محموم بالسياحات في الأعالي، علوّه فزعٌ ورعب، وانطلاقاته كارثة الاحتمالات، ومناوشاته لعبٌ فوضويّ بين الأمل والموت، وكلما حطّ ليستريح نفّرته الدهشة بزياراتها المباغتة، وانفتحت مسالك الأفق أمام المعرفة المرّة والغربة الفسيحة".
Comments