top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

شيءٌ عن طلليات الشّريف الرّضيّ - د. علي جعفر العلاق - العراق


. علي جعفر العلاق  - العلاق
د. علي جعفر العلاق - العلاق

شيءٌ عن طلليات الشّريف الرّضيّ

د. علي جعفر العلاق - العراق

 مفـاتيح خاصة

للشاعر، أحيانًا، نبرة شعريّة، أو بصمة خاصة، قد تتمثل في قصيدة مفردة، أو مقطع ذائع الصيت، أو بيت واحد، يشتمل على الكثير من خصائصه أو سجاياه الفنية. وهـذه الشذرات الدالة، قـد تصلح أكثر من سواها، مفاتيح تقودنا برهافة شعرية عالية إلى مداخل نفسه، أو إلى ما في شعره من جاذبية.  وقد استطاع الشريف الرضيّ، أن يترك بين أيدينا، بعضًا من مفاتيحه الخاصة، شرارة شعرية تخصه وحده، ولا تعود إلى أحـد سواه، ولا تدل إلا على ما يتفجر في كيانه الإنسانيّ والجماليّ والروحيّ من ثراء ولوعـة:-

           ولقد مررتُ على ديارهـمُ               وطلـولها بيـد البِـلى نهْـبُ

          فوقفتُ حتى ضجّ من لغبٍ          نِضْـويْ، وضجَّ بعذليَ الركْبُ

          فتلفتتْ عينيْ، ومذْ خفيتْ             عني الطـلولُ، تلفّـتَ القلبُ



الشريف الرضي
الشريف الرضي

تمهد هذه الأبيات الثلاثة، طريقنا إلى طلليّات الشريف الرضيّ عامة بما فيها من ترابط وحركة باهرين، وتجمع أكثر مكونات تلك اللحظة الطللية ترددًا ورسوخًا عنده. وبذلك يمكننا القول، ودون مبالغة، إنَّ هذه الأبيات هي المفاتيح التي تجمع ما قد يكون متفرقًا من خصائصه، وتكثّف ما قد يبدو، ربما، متباعداً من تلك اللحظات.

إضافة إلى ذلك فإن هذه الأبيات تسلك مسلكًا خاصًّا، في ملامستها، لهذه اللحظة الطللية، فالطلل، هنا، ليس مكتملًا، أعني لم تكتمل طلليّته بعد، بل هي في طور التكوين: عـذاب روحيّ، وخبرة مرّة تتشكلان في الزمن الراهن. دار يتناهبها الاندثار حجارةً حجارة، وتغرق، شيئًا فشيئًا، في وهـدة الغياب.

يلاحظ، في البيت الأول، لفتة تركيبية فـذة، فشطره الأول يحتشد بدلالتين هامتين: المضيّ والتوكيد، من خلال الأداة "لقـد" وما تمثله من كثافة توكيديّة، ومن خلال الفعل الماضي "مررتُ" وما يشيعه تكرار "الراء" من ذبذبة، وأرجحة. أما شطره الثاني، فتستغرقه الاسمية تمامًا؛ ليس هناك من فعل، يؤكد سطوة الزمن صراحة، أو يعمق إحساسنا بجبروته، كما في الشطر الأول. ومع ذلك فإن هذا الانطباع لا يدوم طويلًا؛ لأن اسمية الجملة تكاد تكون مضللة، فهناك شحنة حركية تؤكدها الجملة ولا تنفيها.  إن تحت غطاء الاسميّة حركة متململة أسيانة، تتمثل في هيئة صاحب الحال المستخلصة من التركيب الاسميّ للجملة المسبوقة بالواو الحاليّة. في البيت، إذًا، حركة لائبة، بين الفعليّة والاسميّة، بين مضيّ الزمن وراهنيته، وبين التوكيد واحتمالية التعبير الملتبس.

شيءٌ عن طلليات الشّريف الرّضيّ - د. علي جعفر العلاق - العراق

أما في البيت الثاني، والذي كثيرًا ما تعرض للحذف من قبل الرواة، ويا للمفارقة، فإنّ المشهد يندفع إلى توهـج عـالٍ: فهو مكمنٌ للحنين وللضجر المرّ، الذي يعتري أصحاب الشاعر وجمالهم المنهكة، ويغذي البيت الثالث بثراءٍ خاصٍّ، ويمهد أخيرًا لدلالته.

كان الاكتفاء، بالبيتين الأول والثالث، يجرّد المشهد كلّه من مفصلٍ مهـمٍ، حافلٍ بالحركة، كما قلت، ويفقدهما ما في البيت الثاني من كثافة سرديّة ووجدانيّة. ويبدو لي أن مبرر الحذف كان يكمن في ما يشتمل عليه البيت من لغة خشنة لا تمتلك صفاء البيتين الآخرين وانسيابهما الناعم الحميم، أعني مفردات مثل: لـجّ، لغـب، نِضْـوي.

يتوفر هـذا البيت، إضافة إلى ذلك، على ما يجعله مجالًا لجملة من التساؤلات. إن كلمة نـِضـوي، مثلًا، قـد تُفقِـد هـذه الوقفـة الطللية شيئًا من متعلقات الطلل القديم، لكنها لا تفقدها الكثير من أبهة الانتماء إلى ذلك الطلل؛ إننا أمام خيط وجدانيّ يرتخي تدريجيًّا تحت ماء الزمن، آخذًا معه الجمل أو الناقة، وكلاهما شمـس الأطلال القديمة وروحها الحيوانية المقدسة، ليبقي بدلهما كلمة النِـضْو، التي تعني الحيوان المهزول، مع أنّها لا تمتلك الرصيد ذاته من التداعيات الحسية والوجدانية في ذاكرة المتلقي.

  لماذا فعل الشاعر ذلك؟ أكان يسعى إلى تنقية لحظته الطللية الخاصة من بعض تداعيات ذلك العالم الطلليّ القديم ومكوناته؟ أميل إلى الاعتقاد بأن الشاعر كان يفعل ذلك حقًّا، فالشريف الرضيّ، ثقافة ومزاجًا، كان ابن عصر مختلف، ينتمي إليه بعمق، وكان يسهم، إلى هذا الحد أو ذاك، في حياة ذلك العصر العاصف وتقلباته. لقد أخفى الناقة، وموّه على دلالة الجمل أو البعير بكلمة "نضو" التي لا تمت إليهما بصلة اشتقاقية. ربما كان يرى أن الناقة أو الجمل أشـدّ ارتباطًا من الخيل بالطلل القديـم وأكثر دلالة على بيئته وزمنه، كان يراها أشد بداوة من الفرس، وأقرب إلى بداوة المكان وما فيه من ترحل ووحشة.

 

جوقـة الحنـين

 وفي البيت الثاني مكونٌ مهمٌ من مكونات اللحظة الطللية عند الرضيّ، والذي يحرص دائمًا على استثماره. والمكـون الذي أعنيه، هنا، هو أصحاب الشاعر، أو رفاقـه في السفر، ومشاركوه في اللوعة والمعينون على تحملها. إنّهم جوقة الحنين، يستلمون من الشاعر شحنة البوح ليمدوها بالنّماء والانتشار. وبذلك يخرج ذلك المكنون الروحيّ، المعذب الصافي من حبسته ليزداد عمقًـا، وسعة.

لنعد إلى البيت ثانيةً:

            فوقفتُ حتى ضجّ من لغَـبٍ     نِضْوي، ولجّ بعذليَ الركْـبُ

ثمة ضجيجٌ مكتومٌ، يتعالى من تعب الجِمال التي أجهدها الوقوف، وملامة أصحابه. في البيت أيضًا ذلك الارتطام بين ما في الوقوف من صمتٍ وسكونٍ من جهة، وما في تعب الجمال من ضجيجٍ داخليّ، وما في تعنيف رفاق السفر لصاحبهم من دمدمةٍ لا تخلو من إشفاقٍ على ما هو فيه. وهذه الحركة التي تجتاح البيت وتؤثث لمزاج البيت القادم، ليست بمنأى عما تركه الفعلان لـجّ، وضـجّ، من تـوازٍ، وتناغـم، إيقاعـيّ، وصرفـيّ.

وهكذا يفصح البيت، كما قلت، عن مكون إضافيّ من مكونات الزمن الطلليّ عند الرضيّ: الأصحاب، أو جوقة الحنين التي تعين الشاعر على أسـاه، وتمدّ حيرته بالنضج والتوتر. ولا بدّ من الإشارة إلى أن هـذا المكون ليس وجدانيًا فقط، بل هو بنيويّ أيضًا، يدخل في نسيج النصوص الشعرية، ويعزز من تناميها في الحركة والبناء والنبرة.

صحيح أنّ هذا المسلك، أعني الركب المصاحب، بصيغة المثنى أو الجمع، لم يكن جديـدًا، فقـد كان من متعلقات الطلل الجاهليّ بامتياز، والموقد لبداية الوقفة الطللية في الغالب غير أن ذلك لم يكن يتجاوز، إلا في النادر من الأمثلة، مخاطبة الصاحب، أو الاثنين أو الجمع، أو مطالبتهم بالتوقف على الطلل. الشريف الرضيّ، هنا، يندفع بهذه التقنية بعيدًا عما اكتسبته، عبر القرون، من ثبات ورسوخ صارا عصيّين على التغيير، في أحيان كثيرة. وهذا الاندفاع لا يتمثل في المخاطبة، وهي متنوعة لدى الرضيّ، بل في طبيعة هذه الصحبة، وفاعليتها في بناء تلك اللحظة الطلليّة، والاندراج عنصرًا أساسيًّا من عناصرها المؤثرة.

إنّ أصحاب الشاعر، كما رأينا في هذا البيت، مختلفون عما ألفناه في الكثير من المواقف الطلليّة القديمة. كان الشاعر، كما قيل عن امرئ القيس مثلاً، يقف ويستوقف ويبكي ويستبكي. ولم يكن يتناهى إلينا بكاء أصحابه، أو أنينهم الموحش وهم يتعاطفون معه، إلا نادرًا. أقصد من ذلك كلّه أن تقنية الأصحاب المرافقين لم تكن أكثر من منجز خياليّ. ولم تكن، بعبارة أصح ربما، غير صيغة تم تنميطها عبر العصور حتى أخذت تفقد، في الكثير من نماذجها بعد العصر الجاهليّ، ما كانت تمتلئ به من حياة شجية.

أصحاب الشاعر، هنا، وفي طلليات أخرى للرضيّ، ليسوا قادمين من مخيلة محضة، ليسوا لغة مجردة يدفع بها إلينا ولـهُ الشاعـر، أو تقلباته في مواقف الحنين. بل هـم، على العكس من ذلك تمامًا، بشر، ممتلئون بالحياة، ونعمة المشاركة، في التأسي على ما فات حينًا، وفي نهي الشاعر عن الإيغال في حنينه المهلك حينًا آخر. وبذلك فإنّهم جزء حيّ، من موقف وجدانيّ يتدفق، ويحتدم، ويتصاعد: عبر الحوار أو عبر حركة السرد.

ومع أنهـم ليسوا مبرئين تمامًا من غبار الطلل القديم وتداعياته، لكنهم تخففوا كثيرًا من سطوة الذاكرة الطللية، واقتربوا بحميمية عالية، من خبرة الجسد ومحنته. من انهدامه الوشيك وتشبثه غير المجدي بما تناثر، في مهب الغياب من فتوته وملذاته.

إذا أخذنا ذلك كلّه بنظر الاعتبار فإنّ ما أضفاه أصحاب الشاعر، على ذلك المشهد الطلليّ، شيء بالغ الغنى وجدانيّا وحركيًّا ودلاليًّا؛ ولولا ذلك التململ الساخط القلق، في البيت الثاني، الذي كان يعصف بالركب، وإبلهم إلى درجة الإنهاك، لما كنا مهيئين، بالدرجة نفسها، لاستقبال دلالة البيت الثالث والتماهي مع ما فيه من توقـد الأسى وتلفت القلب. فالبيت الأخير، من هذه الأبيات الثلاثة، يحمل ما في البيت الثاني من التململ والانتظار والتوتر ويدفع به إلى نهاياته:

             فتلفتتْ عينيْ، ومذ خفِـيَتْ         عنها الطلولُ تلفَّـتَ القلـبُ

تشكل الفاء السببية قوةَ شدٍّ كبيرة تضمن للبيتين ترابطهما الضروريّ، وتفتح أمام محمولهما الانفعاليّ مدخلًا للالتحام التركيبيّ والحركيّ، من الانتظار الملول المرهق إلى التحرك بعيدًا عن موقع الحدث. ومن حضور المكان ملء العين إلى هيئته المعرضة للانتهاك بفعل الزمن وتحولاته، من تمدده في دائرة الرؤية الجسدية الظاهرة، إلى ارتسامه في عين القلب الداخليـة الخفاقـة بالحنـين.

إنَّ فعل التلفّت، الذي تكرر، مشدّدا، مرتين وتوزع على البيت كلّه جعل شطريه يتحملان عبء هذا التلفت بالتساوي. ثقل التلفت موزع، إذًا، بطريقة متعادلة. وقائم، كما في أشطار البيتين الآخرين، على نوع من التكافؤ الوجدانيّ من جهة، وعلى التضاد في الفضاء الذي تشغله المرئيات من جهة ثانية: طلل على الأرض، وهو في طور تآكله، وطلل يخرج، كما قلت، من مدى ما ترى العين ليدخل في ما يتمثله القلب. وهكذا يكتظ البيت بهذه الحركة المرفرفة: المضيّ والتلفت، الخفاء والمثول، الدار والطلل، العين والمخيلة.

 

 

 

 

٠ تعليق

Comments


bottom of page