علي جعفر العلاق: كلمات في ذكـرى جـابر عصفـور
جمعتني بالكاتب والمفكر الكبير جابر عصفور صداقة حقة، ظل يرعاها رعايةً كريمة من بغداد إلى صنعاء إلى الإمارات. صداقةٌ لم تقترب يوماً من اليابسة رغم كل الظروف التي مرّ بها كلانا، وتلك طبيعةٌ مثلت، دائماً، إحدى الخصال الراسخة في شخصيته القريبة من الكثيرين.
كان حين يلتقي صديقاً، في جمع من المدعوين، لا يحيّيه من طرف لسانٍ في عجلةٍ من أمره، بل تحية المحبّ المتريّث، الذي يغرف من ذكرى بعيدة، أو حدثٍ مشتركٍ، أو شغفٍ جامع. أذكره مرة، وكنت مدعواً إلى واحدٍ من ملتقيات القاهرة الشعرية، بعد أن سلم عليّ، وكنت قادماً من صنعاء، سألني عن شاعر اليمن الكبير، وصديقنا المشترك د. عبد العزيز المقالح، ثم فاجأني بسؤال، لم أتوقعه، عن غرفتي في الفندق.
وعندما عرف أنها تطلُّ على المدينة لا على النيل، طلب من شباب المجلس الأعلى للثقافة أن أنتقل فوراً الى غرفةٍ ذات إطلالةٍ نهرية، وما يزال لعبارته وميض الذهب الصافي في الذاكرة: شاعر الماء، وسليل حضارة الأنهار لا بد أن يواجه النيل لا أن يواجه كتل الأسمنت الصمّاء. هكذا كان يخاطب المشرفين على إسكان الضيوف. لمسةٌ فيها الكثير من الرقيّ والوفاء والصداقة، رغم بساطتها. كان يمزج الثقافة العميقة بالمرح والبشاشة الراقية، فلا يجور أحدها على الآخر، لا يرتدي قناع الثقافة المتجهمة، ولا ينسيك مرحه ودفء شخصيته أنك في جـوار عمارة ثقـافية ونقـدية راسخة. كان شديد اللباقة، لا يضيق برأيٍ، ولا يحتدُّ في نقاش.
وهناك، في الأفق العـام، نقطة من التمازج الجميل، في شخصيته الثرية، بين عذوبة الإنسان وموسوعية المثقف. عمق الناقد وشغف المترجم. الحنوّ الأبويّ للأستاذ الجامعيّ ومنهجيته العالية. إنها تذويبٌ للمتعدد في الشخصية الواحدة، وجمعٌ للمتنافر أو المتنوع في كيان العارف الموسوعي. نقطةٌ شكلت، دائماً، مكمنَ سحرٍ خاصٍّ في شخصية جابر عصفور البسيطة والمركّبة، جعلته مثقفاً شديد التأثير، وناقداً مستوعباً لأكثر المفاهيـم النقدية جدةً وتعقيداً، مع قدرة استثنائية على الكشف عن مكنوناتها بأدق العبارات وأصفاها.
لم يبتعد عن مهمة المثقف العضويّ والشامل، كان ثقله الثقافيّ والنقديّ والأكاديميّ فضاءً للجمال الواعي والاستنارة الباسلة، ومواجهة للقبح وضيق الأفق. حين تولّى الأمانة العامة للمجلس الأعلى للثقافة، كان مؤثراً إلى أبعد الحدود في الإرهاص بحاجة الأكاديميّ والناقد والمبدع، وفي الإصغاء الى حيوية الكتاب المؤلَّف، وتشمم نداء الشارع في نخبته القارئة المستنيرة. أما في المجلس القومي للترجمة، فقد أسهم، باقتدار كبير، في النهوض بفعل الترجمة نهوضاً نوعياً.
ويظل جابر عصفور أجدر الناس، ربما، بأستاذه طه حسين، ملهماً وقريناً. كان لكليهما فضاؤه الحافل بالإثارة والغنى والتواصل، غير أن لجابر عصفور ما يجعله أكثر من ذلك: تجاوزاً وفضاءً غنياً بالممكنات. فهو الممهد لحداثة تبدأ من التراث، والواصل بين اللغات والثقافات والمفاهيم، المتجاوز، أخيراً، الكثير من منجزات أستاذه الملهم. هكذا كان صعود جابر عصفور سريعا مثلما العاصفة بين هذه الأقاليم الثلاثة. تراكم معرفي، وخبرة في قيادة المؤسسات الثقافية، وممارسات نقدية بالغة العمق واشتباك مع اللغات من خلال تعلمها والترجمة عنها بجهد فردي، وبعناد لا يلين، ليقطف بعد ذلك ما يثقل شجر اللغات من وعي وجمال ومعرفة: مترجماً، ومخططاً، ومراجعاً، ومقوماً، وعقلية إدارية ثاقبة.. ويستمر هذا التراكم حتى تحين فرصته في التفجر الكبير، والمستمر أيضاً.
وكانت مجلة فصول، التي بدأ ضمن كادرها الأول بقيادة الراحل الكبير عز الدين إسماعيل، نقطة الانطلاق شديدة التوهج في مسيرته المدوية. ثم استطاع بعد توليه رئاسة التحرير، أن يتقحم مناطق كانت من مجاهيل النقد الأدبي وتشعباته المثيرة في عالم اليوم. وقد أسهم ذلك كله في زحزحة الحركة النقدية ودفعها الى الأمام بقوة. ليشهد نقدنا العربي فجأة منعطفاً جديداً، وتحولات راديكالية حادة، تجسدت في المصطلحات، والمفاهيم، والأسماء، والحركات. وتمثلت أيضاً في التغير الكبير في وعي النصوص والتفاعل معها: محاورة، واستثارة لمكنوناتها الدلالية، وبنيتها اللغوية، وثرائها الجمالي.
يمكن الإشارة الى أن علاقة د. جابر عصفور بسلم الهبوط قد بدأت من خلال رائحة موت عائلي، أخذ يعصف بالأسرة أولاً، بالمحيط الحميم الآمن، فبدأت العائلة في معايشة التفكك والأسى الوشيك، ورائحة المرض والموت وهي تتجول في البيت بقدمين حافيتين: تموت أبنة جابر عصفور فيمرض مرضاً مهلكاً، ويتراخى الكلام الجميل بين شفتيه فترة ليست قصيرة، وتكف الكتابة عن جموحها فترة أطول، وتموت الزوجة، لتخفت رائحة الحبر والعافية.
كان لقائي الأخير بجابر عصفور في ملتقى القاهرة للشعر العربي، قبل رحيله بسنة على ما أذكر. وقفنا نتحدث في قاعة الاحتفال قبل أن يبدأ الإعلان عن الجائزة، التي منحت للشاعر البحريني قاسم حداد. كان يسرد، بفرح مشوب بتعب جليّ، بعضاً من ذكرياته عن بغداد، وعن أصدقائه من العراقيين. كان صوته ممتلئاً بحنين إلى البعيد، والخوف مما يأتي. وكانت يداه ترتجفان، فلا تقويان على التناغم مع كلامه الذي بدا بطيئاً متعثراً، على غير العادة، وإن كان ما يزال على شيء غير قليل من بشاشته المعهودة. أحسست تلك اللحظة أن ثمة حمولةً فكريةً وثقافيةً مرموقة ينوء بها جسدٌ عانى كثيراً من الحزن والتصدّعات.
Comments