عمر فضل الله يواصل العزف على متوالياته السردية: أطياف الكون الآخر بصفتها نموذجًا للرواية المعرفية
(1) الرواية والكاتب
صدرت الرواية لأول مرة في طبعتها الأولى عام 2014 عن دار الياسمين بالشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة، أما الطبعة الثانية فكانت عام 2018 عن دار مدارات الخرطوم بالسودان، ثم الثالثة عام 2020 عن دار البشير بالقاهرة مصر، والرواية تقع في 320 صفحة من قطع الرواية المتوسط، والغريب أن أحداث الرواية يقع جزء كبير منها في هذه الدول الثلاث.
قسّم الكاتب الرواية إلى 14 فصلًا، ولعل لإهداء الرواية علاقة
كبيرة بالفصل الثالث فيها، والذي عنونه المؤلف بأطياف الطفولة، يؤكد هذا لنا إهداء الكاتب هذه الرواية في صفحة 5 من الرواية: "إلى طفولتي الجميلة أهدي أحلامي". ولعلَّفترة الطفولة من أكثر فترات العمر إغراقاً في الخيال وغوصاً في عالم الجن والأساطير والحكايات، فلم نكن ننام في هذه الفترة حتى نستمع لحكايات الأمهات والجدات عن عالم الجن والعفاريت والأبالسة وحكايات الأساطير التي ظلت آثارها فينا حتى مرحلة الكبر والنضج، ثم يقدم لنا الكاتب طريقة جديدة تأسرنا في أغوار روايته وتشدُّ أقدامنا نحو الرواية حيث يقول في مفتتح الرواية قبل الفصل الأول في صفحة 7: "هذه الرواية أملاها طيف زارني ذات ليلة!"، وفي الفصل الثامن من الرواية والذي عنونه الكاتب ببرابي مصر يتحدث عن مصر وأهلها وسماتهم الطيبة وحبهم للحكايات، وعاداتهم وطريقة معيشتهم، وفي الفصل الثامن من الرواية والذي عنونه الكاتب بسواجن يتحدث عن السودان وأهله الطيبين الكرماء، وفي الفصل الثالث عشر يتحدث عن الحضارة والعمران في دبي الإمارات العربية المتحدة وعنون الفصل بأبراج الوصل، وفي الفصل الأخير والمعنون بحلم ليلة صيف تحدث كثيراً عن مدينة أبي ظبي.
وكما يذكر الروائي المصري خيري شلبى (1938-2011) أن الكاتب الموهوب هو من ينسيك أنَّك تقرأ لأنه يضعك مباشرة في قلب الحدث دون مقدمات، فإنه يجعل منك طرفاً أصيلاً في الفعل الفني الخاص بالقراءة منذ السطر الأول للرواية، فإن هذا يحدث لنا بالضبط مع هذه الرواية الفريدة التي تستخدم تكنيك الاسترجاع إلى الخلف وهو ما يطلق عليه Flashback حيث بدأ الكاتب القصة من النهاية ويرجع بنا للأحداث منذ ميلاد الشخصية وحتى لحظة نهايته مع كم هائل من الدراما والتشويق الفني رفيع المستوى.
والرواية كما يتفق النقاد على أنها حمالة أوجه، يفسرها كل من يتلقاها بطريقته الخاصة وأطره المرجعية المختلفة وفقاً لخبراته وعالمه الخاص، ونظريات التلقي تعطي اهتماماً كبيراً لهذا المنظور، فقد يظن بعض القراء أن المؤلف يريدُبها جانباً دعوياً يحذرنا من الشيطان وألاعيبه، في حين يظن آخر أنها لمجرد التسلية أو إعطاء معلومات عن فترات معينة، بينما يرى آخر أنها تفضح خطوات الشياطين وتكشف السحر والسحرة وتوصل إلى طريق يقصده المؤلف معتبرًا أن الرواية مجرد قالب يضع فيها الكاتب آراءه ووجهات نظره الخاصة به.
عمر فضل الله، كاتب وروائي سوداني مهم، ولد بقرية العيلفون بالخرطوم بالسودان في أول يناير من العام 1956،ونشأ وترعرع وتعلم في السودان والسعودية، وحفظ القرآن الكريم صغيراً، ثم سافر إلى أميركا وحصل منها على الماجستير والدكتوراه في علوم الحاسب الآلي تخصص نظم المعلومات، ولا يزال يقيم بها للآن. عمل بالسعودية والإمارات وهو خبير بأنظمة ومشاريع الحكومة الإلكترونية. حصل على جائزتين في الرواية العربية. في عام 2018 حاز جائزة الطيب صالح العالمية عن روايته «تشريقة المغربى»، وفي فبراير وفي أكتوبر من العام ذاته حصل على جائزة كتارا عن رواية "أنفاس صُليحة". المؤلف أيضًا له ديوانان شعريان: زمان الندى والنوَار، وزمان النوى والنواح، وله أيضاً في مجال الكتابة العامة كتب كثيرة منها: حرب المياه على ضفاف النيل، حلم إسرائيل يتحقق، وتاريخ وأصول العرب بالسودان.
للكاتب تسع روايات حتى الآن تم ترجمة عدة روايات منها إلى اللغة الإنجليزية وهي ترجمان الملك وأنفاس صليحة، وتشريقة المغربي وفي انتظار القطار، بينما ترجمت ترجمان الملك إلى اللغة الروسية، وهناك محاولات الآن لترجمة بعض رواياته إلى الفرنسية والروسية مثل رؤيا عائشة ونيلوفوبيا وآدم وحواء، وأطياف الكون الآخر التي ستدور مقالتنا النقدية عنها.
في أطياف الكون الآخر لا يمكن أبداً أن يكون عمر فضل الله هو الراوي، حيث إن الراوي هو الشيطان نفسه، ولذا نحَّينا جانبًا فكرة تتردد كثيراً في أذهان كثير من النقاد أن الكاتب ليس سوى ما يكتب، على الرغم من أن الكاتب يتوسل في كتابة هذه الرواية لنا بصيغة المتكلم الذي يحكي لنا أحداث هذه الرواية البديعة التي تشد القارئ من أول جملة فيها حيث يقول في صفحة 12: "نسيت أن أقدم نفسي مع أنه أمر صعب جداً، فقد تغيرت أسمائي كثيراً حتى أنني ما عدت أذكر منها إلا القليل. فقد اتخذت اسماً في كل دورة من دورات الزمان "، ولا يتردد الكاتب على لسان الشيطان أو إبليس في أن يخبرنا بنفسه عن كنهه، وكيف أنه يختلف عنا تمامًا نحن البشر الذين يطلق علينا بني الصلصال حيث يقول في صفحة 14 من الرواية وهو يخاطب المتلقي أو القارئ بقوله: "مازلت تحس أنك خائف مني؟ هل مجرد ذِكري مخيف لهذه الدرجة؟ وهل تصدق أنني أخاف منك أكثر مما تخاف أنت مني وتخشاني؟ أنت في نعمة كبيرة فأنا خفي بالنسبة لك ولا أظهر لك ولا تراني إلا نادراً، ولكن أنت بالنسبة لي نقمة وعذاب". لا يهتم الراوي باسمه ولذا نجده يقول في صفحة 13: " ما هو اسمي الآن؟ سمني ما شئت فلا فرق عندي. فما عادت الأسماء شيئاً ذا بال، ولا أصبحت تدل على شخصيات أصحابها. فما هي إلا مجرد أسماء". ويخبرنا في صفحة 16 بأن جنود أبيه عزازيل طاردته معظم أيام حياته، وبعدها يحدثنا عن أمه، وكيف ماتت في مخاضه قبل أن تراه، وبعدها يحدثنا عن أبيه عزازيل سيد بني النار والعدو الأول لبني الصلصال كما في صفحة 23 من الرواية.
الرواية تنتمي للمشروع الروائي للكاتب والذي يمكن أن نطلق عليه مشروع الرواية المعرفية، والذي يهدف إلى تحقيق كل من المعرفة وإتاحة المعلومات من جانب Information والمتعة والتسلية من جانب آخرEntertainment ، وهذا يعني ما يمكن أن نطلق عليه Infotainment حيث تتحقق للقارئ لذة المتعة الناجمة عن القراءة والناتجة عن الاستثارة والتشويق من خلال أحداث الرواية، إضافة إلى إمداده بالمعلومات المهمة التي يمكن أن تضيف للرصيدِالمعرفي للمتلقي في مختلف جوانب حياته، وإن كان بعض النقاد يحلو له أن يسميها الرواية ذات البُعد المعرفي، وكما يرى (ميلان كونديرا) الروائي الفرنسي الشهير (1 أبريل 1929 – 11 يوليو 2023) أنه لا تعارض بين الجانب المعرفي والتسلوي في الرواية، بل لابد منهما معًا، وإن كانت التسلية لا تزال هدفًا رئيسيًا لبعض الروايات.
وفي الحقيقة تعج الرواية في غير موضع منها بمعارف علمية مبعثرة ومعارف تاريخية وجغرافية عن مناطق وأساطير عربية كثيرة نجح الكاتب في أن يدسها بالرواية على جناحي السرد والحوار معًا، كما تحدث عن حقائق علمية، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر حديثه عن أينشتاين ونظريته في النسبية صفحة 32 من الرواية، وعن الديناصورات وخلق آدم وما كان قبله من مخلوقات فيما يليها من الصفحات، ويحدثنا في الفصل الرابع من الرواية وحي بابل من صفحة 81 في الرواية عن إملاء أسطورة جلجامش من عزازيل، ويحدثنا من صفحة 114 عن الطبقات الاجتماعية في بابل في عصر النبي إبراهيم، كما يحدثنا في صفحة 174 عن مدينة سواكن وأصلها، كما يحدثنا من صفحة 280 وما بعدها في الرواية عن تطور حضاري في دبي وفي مطارها، ففي صفحة 289 يقول الكاتب في حوار بين إبليس الشخصية الرئيسية في الرواية وأوشيك: "توجد أعداد كبيرة يا أبالسة على مدار الأربع وعشرين ساعة وقد قرأت في أحد الإحصاءات أن مطار دبى يحتل المرتبة الرابعة في ترتيب المطارات في العالم رغم أن طاقته الاستيعابية تتسع لـ 60 مليون مسافر سنوياً وأنها ستبلغ 75 مليوناً بعد اكتمال مبنى الأيرباص ويتوقعون 98 مليون مسافر بحلول العام 2020"، ثم يواصل أوشيك حديثه مع إبليس قائلاً في نفس الصفحة: "سوف تستضيف دبي معرض اكسبو في العام 2020 ويتوقعون أكثر من خمسة وعشرين مليون زائر للمعرض وسيأتي معظمهم من خارج الدولة يا أبالسة وبذلك فسيكون مطار دبي هو الأول في العالم بالتأكيد".
يبرع الكاتب أيضًا في إدخال الجانب المعرفي في السرد أيضًا بأسلوب عذب رقراق وكأنه ماء زلال ينحدر من أعالي النفس البشرية إلى أسفلها بأسلوب جميل. انظر إليه في الفصل السابع من الرواية والذي يبدأ من صفحة 124 حيثيحكي لنا من حدث في سدوم وعمورة مع قوم لوط الذين كانوا يأتون بالفاحشة ما سبقهم بها أحد من العالمين حيث يحكي في بهاء وجلاء: "فجأة أصبحت أكثر المناطق سكاناً وعمراناً هي أكثر مكان موحش وكل شيء كان فوق سطح الأرض أصبح في لحظات تحت سطح البحيرة الميتة الهامدة. الغابات والأغصان وجذورها الممتدة أصبحت تحت المياه السوداء الخامدة".
لننظر جيداً إلى أول جمل في الرواية حيث يبدأ الراوي والسارد العليم حديثه في الفصل الأول من الرواية كلامه بصيغة المتكلم الحكّاء، ثم يخاطبك كقارئ أو كمتلقٍّ ضمني أو صريح، فتجده يوجه الكلام لك شخصياً، ولعل هذا كسر حدة صوته السارد، ولقد أوضحنا هذا من قبل، كما نبه الكاتب القارئ بعدها لاستكمال الرواية، لأنه بالفعل شيطان ثرثار، يستطرد كثيراً ثم يعود إلى نفس النقطة التي تركها ليستكمل حكاياته التي لا تنتهي بطريقة فنية مثيرة درامية تجبرك على إنهاء الرواية في جلسة واحدة أو جلستين على الأكثر، فالكاتب يمتلك ذخيرة من حيل التشويق والمفارقات والاستثارة التي تأخذك من أول سطر في الرواية، بل بداية من عتبات هذا النص البديع الذي أظن أنه مكتوب بطريقة فنية تختلف عن كل من سبقه.
(2) المتن الحكائي والمبنى الحكائي
المتن الحكائي يعبر عن الأحداث الروائية كما وقعت بالفعل، أو كما يفترض أنها حدثت في الواقع، ولذا فمن الطبيعي أن تكون خاضعة لمبدأ السببية والتتابع الزمني والسلسلة الزمنية كما وقعت فعلاً، أما المبنى الحكائي فيختص بطريقة بناء العمل وتركيبه بشكل يبرز الخلافات بين كاتب وغيره في طريقة تقديم هذه الأحداث.
المبنى الحكائي يعني عملية الخلق الفني والإضافة إلى القصة وإضافة أو حذف شخصيات ورقية قد يكون لها أصل في الواقع أولاً، وكل هذا لتتصارع وتتحاور وتختلف وتتفق، وعلى الكاتب أن يكون بعيداً عن هذا العالم الذي يخلقه متحرراً من مواقفه الأيديولوجية وسلوكياته العاطفية، فتتحقق للقارئ متعة جمالية نتيجة موضوعية المؤلف، ولكن الكاتب في هذه الرواية بالذات، وفي معظم أعماله لا يستطيع أن يتخلى عن أيديولوجيته الواردة والظاهرة بجلاء في معظم أعماله والتي تتمثل في عدم مخالفة ما ورد في القرآن والسنة عن إبليس والأنبياء والتي تتجلى طول فترة قراءتنا للرواية، فالكاتب ملتزم تمامًا بكل ما جاء في القرآن والسنة في روايته، ولم يحد قيد أنملة عن التزامه التام بهذه الأيديولوجية، ولعل هذا يوضح ضرورة ما ذكرناه من قبل عند الحديث عن نشأة الكاتب إذ حفظ القرآن الكريم في مرحلة الطفولة مبكراً، كما أنه درس وعمل لفترة في السعودية.
(3) بين أطياف الكون الآخر لعمر فضل الله وأولاد حارتنا
تختلف رؤية عمر فضل الله لإبليس كثيراً في هذه الرواية عن رؤية أديب نوبل نجيب محفوظ (1911- 2006) لشخصية إبليس والتي جسدتها شخصية إدريس في رائعته أولاد حارتنا حيث سببت جدلاً كبيراً في الأوساط الأدبية والثقافية والدينية وقت صدورها، وهناك سببان لهذا الاختلاف: الأول التزام عمر فضل الله الديني وأيديولوجيته التي أوضحناها من قبل بينما لم يلتزم نجيب محفوظ بشخصية إبليس كما جاءت في الكتاب والسنة، بل جعله محفوظ يبيع البطاطا والتين الشوكي على عربة يد ويرقص بعجيزته بعد طرده من البيت الكبير بيت الجبلاوي، كما أن شخصية إدريس في أولاد حارتنا رمزية على العكس من شخصية إبليس في عمر فضل الله فهي حقيقية، والسبب الثاني أن نجيب محفوظ كان يحكي قصة الكون كله منذ النشأة، كما تعرض لأنبياء كثيرين، على العكس تماماً من عمر فضل الله، الذي كانت زاويته مختلفة تمامًا، حيث لم يذكر الأخير شخصية النبي موسى وهي شخصية جبل في أولاد حارتنا أو عيسى وهي شخصية الرفاعي في أولاد حارتنا، كما أن إبليس لم يكن الشخصية الرئيسية في رائعة نجيب محفوظ، خلافاً لشخصية إبليس المهيمنة والساردة منذ بدايتها وحتى نهايتها في أطياف الكون الآخر.
نلمس في رواية أطياف الكون الآخر ونحن نحاول أن نستكشف العلاقة بين المتن الحكائي والمبنى الحكائي في إمكانية تحول الواقعي إلى خيالي والعكس، وهذا ما قام به المؤلف ببراعة، وبتطبيق هذه النظرية على الرواية التي بين أيدينا نجد أن المتن الحكائي واضح ومعروف للبشر، منذ خلق الله آدم على الأرض، هذا هو المتن الحكائي للرواية، أما المبنى الحكائي في هذه الرواية فيختلف إلى حد ما، ولا ينطبق أساساً إلا في الفكرة الأساسية حيث يعدُّ الشيطان عدوًا لبني الصلصال، ويبرع الكاتب في إضافة شخصيات مثل شخصية رحمة، وحذف شخصيات أخرى أو تعمد عدم ذكرها، ويفعل نفس الشيء في الأحداث.
(4) البناء الدرامي للنص
تنتمي هذه الرواية للبناء التقليدي الأرسطي الخاص في حبكته بالبداية والوسط والنهاية، على الرغم من توسلها بمحاولات الكاتب الظاهرة في استخدام تكنيكات الحداثة وسرعة الانتقال وفجائيته إلى دول عربية متعددة، والتحول في الزمان لما يزيد على ثلاثة آلاف سنة، واستخدام تكنيكات الحذف والإضافة، والإيغال في مختلف المدارس الأدبية غير الكلاسيكية كالواقعية والرمزية والسيريالية وما إلى ذلك، ولكن حبكة الرواية في الحقيقة تقليدية تعتمد على صوت الراوي الواحد، الذي يحكي القصة عبر سنوات مختلفة وفي أماكن متعددة، ملتزماً بالبناء الذي سبق به أرسطو منذ أكثر من ثلاثة قرون قبل الميلاد. الكاتب يحكي رحلة حياة ابن عزازيل، وأيضًا يعتمد على شخصيات أعدها مسبقاً لتوضيح فكرته وإيصال المغزى الذي يهدف إليه المؤلف، وهذه الشخصيات يورطها في أحداث بحبكة معينة ومن خلال صراع في حبكة معدة مسبقاً، ومهارة فائقة في الحوار ستتضح عند الحديث عن الجوانب الفنية في النص والإبداع في استخدام جناحي الإبداع الروائي من سرد وحوار ببلاغة وعبقرية تثير الذهن وتنمي الخيال وتسابقك لنهاية الرواية التي تجري خلفها بشكل يقطع الأنفاس من لذة المتابعة.
تبدأ الرواية بحديث من إبليس وهو يتحدث عن كبره وعجزه وشعوره بدنو الأجل، ثم يعرج في حديثه عن والديه، ويخبرنا أنه ابن زنا، ومع ذلك عندما نمضي قدمًا في الرواية لنكتشف أنه أسلم وحسن إسلامه وسافر للحج وصار يحافظ على الصلوات في مواعيدها في المسجد صفحة 263 من الرواية، ولا أدري ما الدافع الدرامي أو الحتمية التي تجعل من شيطان هذه الرواية ابن زنا، ومع ذلك يسلم. ولا أدري ما الحتمية الدرامية التي جعلته يتزوج من رحمة؟ أكان هذا هو السبيل الوحيد ليتلبس جسد امرأة أو يحل فيها رغم أنه طيف؟!
تكون الرواية في تصاعد بالأحداث الدرامية عندما يحكي بطريقة شائقة عن خروجه للحياة من رحم أمه (فريجا) في جب عميق تحت الأرض وكيف أرادت أمه أن تنقذه من سطوة أبيه بالهروب إلى الأرض السابعة وكيف ماتت قبل أن تلده، وهي مع ذلك تحبه لدرجة أنها طمست ملامحه لتنتقم من أبيه وهي أجمل أنثى في تاريخ الأكوان، ولذا أحبها أبوه على مر التاريخ ولم ينسها أبدًا، ولقد ساعد طيفها إبليس مرات عديدة وأنقذه من بطش أبيه ودله كثيراً على الصواب وطرق الهرب.
يحكي لنا إبليس الراوية الأساسية والبطل قصة والده طاووس الملائكة ورفضه السجود لآدم، ويحكي لنا سبب اهتمام والده عزازيل بأسطورة جلجامش بتشويق غاية في الروعة ويكشف لنا السبب في هذا، حيث استغل بنو إسرائيل هذه الأسطورة للتغيير في التوراة، ويشرح لنا بعد ذلك طفولته وصداقته مع (أشتوت)، ويحدثنا بعدها عن السحر مع (نمكور) الساحر اليتيم و(قاتش نيسابا) وممارسة الجنس وفضح ما يحدث والعقد المبرم لبيع الأرواح، وطقوس الزاروطقوس التعميد، وفي منتصف القصة أو وسطها يقع إبليس في حب (ميسون) ويجرب العواطف البشرية عندما أراد أن ينقذ المرأة التي هي على دين إبرام، وهو إبراهيم النبي، ويسافر لمصر ولا يلحق به، ثم يسافر له في مكة بعد أن يسلم بعد سلسلة من الأحداث يسافر فيها إلى كثير من الأماكن.
وفي نهاية الرواية ينتقل شيطان الرواية وبطلها الأول والأهم إلى أبراج الوصل في دبي ويُبهر بها ويشبهها بوادي عبقر حيث يُعجب بالحضارة والتقدُم، وتختم الرواية بأن يكشف لنا عن البيت الذي استقر فيه في أبو ظبي وينتظر الموت فيه حيث يتمنى أن تكون مذكراته وضعت بعض المفاتيح لمعرفة عالمنا الغامض، وقبلها يتحدث بلغة الفيلسوف وبشكل تقريري عن حضارتنا قائلاً: "إن ضعف حضارتكم يعودُ إلى جنوحكم لعالمكم المحسوس المنظور وحده دون غيره، وإيمانكم به مع إنكار العالم غير المادي، أو التنكر له رغم وجوده في اللاوعي عندكم جميعاً، مع أن كل فرد منكم يحمل في جوانحه روحاً تتحكم في الجسد وتسيّره، وعقلاً يفكر له". يطلب منا بعد هذا أن ننتظر ليملي طرفًا آخر من مذكراته، ثم يقول لنا في آخر سطور الرواية في صفحة 316 ما يلي: "حركة يدك وأنت تلمس صفحة الورقة وتتحسسها بأصابعك في حياء تدل على أنك مستيقظ بالفعل.. جميل جداً. لقد نجحتُ في أداء دوري. فأنت تستمتع بالقراءة ومتابعة الأحداث. هل ما زلت تظن أنك نائم وأنك تحلم؟ لا فائدة فيك... استيقظ.. وعش حياتك".
تعج الرواية بشخصيات أضافها الكاتب من وحي خياله نحب بعضها ونبغض بعضها، وقد نجح الكاتب في استدراجنا بالفعل إلى هذه المحبة أو كراهيتها بأسلوبه الدرامي الساحر أحيانًا والساخر في أحيان أخرى، كما أقنعنا بشخصية الشيطان الرئيسة الثرثارة فجعلنا نتعاطف معها ونعيش معها مشاعر الحب أو الكراهية أو الخوف أو التعجب.
تكنيك القطع أو الانتقال من حال إلى حال أو من موقف لآخر أثمر وجعلنا في حالة تشوق مستمر لنعرف ماذا سيحدث فيما بعدُ، وكذلك الانتقال من الأحداث الأساسية إلى أحداث فرعية أو أقل أهمية مع تكنيك المطاردة جعل الرواية أكثر سرعة، لا سيما في الأحداث في معبد أوروك ومحاولة إنقاذ المرأة الإبرامية التي أحببناها لاتباع تعاليم دين إبرام والحبيبة ميسون.
أحببنا شخصية (أوشيك) المتدين المحافظ على أذكاره، وتابعنا رحلة إبليس بطل الرواية وساردها، وأحببنا شخصية (رحمة) الطيبة المرسومة بدقة أجبرتنا على حبها لبساطتها على الرغم من أنها عرفت إبليس من أول وهلة، ومع ذلك وافقت على الزواج منه.
المفارقات الدرامية التي أبرزها لنا الكاتب على لسان إبليس وهو في حالة ذهول من مخترعات العصر الحديث جعلتنا نضحك أو نشعر بالسخرية من هذا الشيطان الذي ينبهر من الكهرباء وبطاقة الدفع الإلكترونية والميكروييف والبنايات الشاهقة وأبراج دبي.
(5) تقنيات السرد والمتواليات السردية في الرواية
المشهد الافتتاحي للرواية بديع جدًا ويبدأ بالسارد أو الراوي العليم وهو يحدد لنا بدقة كنهه ويصف لنا نفسه وما حدث له وقد بلغ من الكبر عتيا. ونقطة البداية هذه مهمة جدًا لأنها جينريك الرواية أو محركها الأساسي، وذلك لأنها تمثل بداية الانطلاق في النص السردي، ومنها سينطلق السارد إلى أماكن أخرى أو أزمنة متعددة، ثم تتبعها لقطات زمانية أو مكانية لأحداث حاضرة أو أحداث يمكن استرجاعها. تعالوا نتابع مفتتح الرواية في صفحة 9 منها حيث يقول المؤلف في الفصل الأول بعنوان تجلي الطيف: "رنَّةُ صوتٍ صَعَقَتْ مسمعي، فطارت شقَّة منّي في السماء، وهبطت أخرى إلى أقصى الأرض السُّفلَى، وبقيتْ روحي معلقة بينهما في الهواء تنظر من كلا الشقتين. هل آن أواني وانقضت أيامي بهذه السرعة، مثل طرفة عين، أم ـ يا ترى ـ لا تزال في العمر بقية؟ دسست ذيلي بين رجليَّ في حياء حقيقي لا يخفى على أحد، وتورد خدَّاي باللون الأسود، حين علمت أن هذا الصوت لم يكن إلا صوت بوق نفخه طفل شقي قريباً من أذني، وهو يلعب في البيت الذي أويت إليه آخر عمري، لأموت على سرير أحدهم كما يموت بنو الصلصال".
هذه البداية الكاشفة الواضحة التي لا لبس فيها ولا غموض، تعدُّ كالطلقة التي تصيب القارئ في مقتل فتطالبه بالانتباه للراوي وطبيعته وتصف حاله وتشخص فكرة الرواية بأن الشيطان يحكي بعد أن كبر وهو على فراش الموت تقريبًا. الانطلاق في الرواية بعدها في متواليات سردية تحكي لنا فصولاً من حياة السارد تجعلنا مستعدين لتقبل كل ما يحكيه في متواليات سردية تقص جوانب من حياته.
التركيب السردي للحكي أو الرواية على لسان السارد جعلنا نشعر بالألفة معه قليلاً حتى ولو كان جنيًا أو شيطانًا. نكتشف مع مرور السرد أنه كالبشر لأنه رضع من ثدي إنسية، كما نكتشف أنه خفيف الظل ويسعى ليسرِّي عنا أو يضحكنا في بعض الأحيان إذ ينصحنا أو يحذرنا أو يقص علينا من طريف ما لديه.
من منظور تودوروف (1939 – 2017) فإن الصيغة السردية في الرواية تعني كيف يقدم المؤلف العمل السردي، أو يعرض لبعض الأمور ويقوم بتقديمها عن طريق القول سردًا أو حوارًا، فحكي الأحداث عن طريق السرد أو القول وهو ما نطلق عليه الحوار، والقول أو حكي الأقوال قد يكون مباشرًا أي نقل الحوار دون تعديل عن طريق المشهدية في النص، أو نقل الحوار بتعديل وهو ما يطلق عليه الأسلوب غير المباشر.
يبرع الكاتب في السرد ويمضي الفصل الأول كله من الرواية، حيث يتحدث إبليس ساردًا قصة أمه وأبيه، وفي الفصل الثاني يواصل عزفه واستخدام السرد للحديث عن الديناصورات والمخلوقات التي سكنت الأرض قبل الإنسان، وفي الفصل الثالث يتواصل السرد العذب للحديث عن صديق طفولته (أشتوت) ثم يبدأ الحوار لأول مرة في الرواية صفحة 69 بين إبليس وصديقه عن السحر ليجر القارئ ببراعة إلى ما يحدث في الفصل الرابع ليحكي لنا ما يحدث في معبد أوروك حيث يراد لامرأة تؤمن بالنبي إبرام أن تُذبح، ويريد الراوي إنقاذها. ما أقوله يعبر بجلاء عن الوحدة العضوية التي يريد الكاتب أن يضعنا أمامها. إنه يكتب لهدف ويستخدمه حيله السردية والحوارية بإتقان ليصل إلى ما يريد لا لمجرد قص حكاية فحسب.
نعود إلى الراوي أو السارد للرواية حيث نتعجب لأنه يعرف الشعر ويحب العقاد وكان يتمنى لو كان ينتمي لبني العقاد أن يكون هذا الإنسان الشاعر والأديب والمفكر. يمكن الرجوع للرواية صفحة 10 حيث يتغنى الراوي بأبيات للعقاد يصف فيها نسرًا كبر وعجز، وهنا الراوي يوازن بين نفسه والحالة النفسية للنسر، والرواية أيضًا فيها اقتباس وتضمين من القرآن الكريم.
الرواية أيضًا بها نصوص بلغات مختلفة ترجمها الكاتب عن الأكدية والسيريالية كما في حديث الراوي مع ميسون وميساء وماوية، يمكن الرجوع لصفحات 85 و113 و114 من الرواية.
في الرواية ظاهرتان يمكن أن تجذبا الكثير من الدراسات المستقبلية وأدعو النقاد للتوجه إليهما، ليس في الرواية فحسب، ولكن في جميع أعمال عمر فضل الله الإبداعية، وأعني بهما أقوال الحكمة التي تزخر بها الرواية في مواضع كثيرة تصل إلى درجة من التفلسف، والثانية: روح الدعابة الموجودة بالرواية، وأدعو القارئ ليستمتع بمشهد من الرواية لأنه مضحك بالفعل، كما أنه يكشف عن بعض الجوانب الخاصة بالمؤثرات الفنية في هذه الرواية بالتحديد وفي أدب عمر فضل الله بشكل عام وما يتميز به من براعة في السرد والحوار وكيفية كشفهما عما يريد أن يوصله للقارئ.
Comments