عمر محمد نور: التفاتة إلى الشعر الصيني القديم
لكل حضارة عظيمة نصيب وافر من الأدب العظيم، والحضارة الصينيّة إحدى الحضارات
التي رفدت الإنسانيّة بالعديد من الأدباء والشعراء عبر مختلف الحقب التاريخيّة.
مثلت الأسرتان الشهيرتان في الصين: (تانغ 618 -907م) وأسرة (سونغ 960 - 1279م) عهدًا زاهرًا وعامرًا بالأدب عامة، وبالشعرعلى وجه الخصوص، إذ تميز الشعر الصينيّ
خلال هاتين الفترتين بالتنوع في موضوعاته الشيقة، التي عكست واقع الحياة الاجتماعيّة و
السياسيّة.
إنّ من أبرز الموضوعات التي تناولتها القصيدة الصينيّة القديمة: نبذ الظلم والحرب، والوقوف إلى جانب الضعفاء دائمًا؛ لذا لم تكن العلاقة جيدة دائمًا بين الشاعر والإمبراطور الصيني، إذ كان الشاعر كثيرًا ما يلقي المباخر ويلحق بمنعرجات الجبال، مفضلًا البقاء هناك على حرق البخور والمداهنة للحكام. كانت المأساة الكبرى للشاعر الصيني هي الحرب، الحرب التي ليس فيها منتصر ومهزوم، الحرب العبثيّة التي تضرس الأبناء، وتترك النساء ثكالى، والأطفال يتامى. الحرب التوسعيّة التي يخوضها الإمبراطور لا الحرب الدفاعيّة المقدسة. حيث كان التجنيد القسريّ للشباب والرجال، حتى أن النساء تمنينَ ألّا ينجبن أولاد ذكورا؟ كان الرجال يساقون إلى معارك لا يدرون أسبابها؛ ليقالتوا أناسًا ليس بينهم حقدٌ ولا ثأر، فقط إرضاءً لرغبة السيد الامبراطور. كل ذلك والشاعر الصيني يسمع ويرى، ليقول لاحقًا شاعرهم العظيم (لي باي)
في قصيدة وداع الذاهبين بلا رجوع:
ويبرز السؤال لماذا كل هذا الضجيج؟
وتسمع الجواب لنجدة الحدود
يُجنّد الرجال من جديد
ليعبروا في شهر مايو اليانغستي
ويزحفوا للحرب في يوننان
لا يصلح المجنّد القسري للقتال
والرحلة الطويلة.
(ولي باي) هذا من الشعراء الذين أنعم عليهم الإمبراطور بلقب (هان لين) أي شاعر القصر. لكنه ما لبث أن غادر القصر بعد تألب الحساد والوشاة ضده، فعاش ما بقي من عمره شاعرًا
متنقلًا حتى انطبعت آثار أقدامه على أشهر الجبال والأوديّة والأنهار.
(ولي باي) هذا إلى حدّ كبير يشبه الشاعر أبا الطيب المتنبي، لا سيما في حياة القصور ومنادمة الملوك.
شاعر آخر من الشعراء الصينيّين اسمه (دو فو) رغم أنه عاش عابثًا لاهيًا منشغلًا بالخمر،
إلا أنه كان منتبها للمآسي التي يمر بها الناس من حوله فنجده يكتب:
المركبات تقرقع والخيول تصهل
والرجال يتمنطقون بالقسيّ والنبال
الآباء والأمهات والزوجات يشيعونهم
يثيرون غبارًا يكاد يحجب جسر الوداع وراء شيانيانغ
يعترضون طريقهم
يتشبثون بأطراف ملابسهم
منتحبين ضاربين الأرض بأقدامهم
فيخترق عويلهم عنان السماء
ويتساءل العابرون فلا جواب
إلّا تفاقم التجنيد القسري
لا لشيء سوى تعطش الأباطرة للتوسع والامتلاك
يقول الشاعر ( دوفو ) في ذات القصيدة وهو يصف الشباب وقد صاروا شيوخًا وهم في
خدمة السادة:
الفتيان في الخامسة عشرة يحرسون النهر في الشمال
وبعد الأربعين يساقون إلى الغرب للعمل في المزارع الملكيّة
الشيخ عصب روؤسهم بالعمائم قبيل السوق
وما زالوا حتى اليوم يرابطون على الحدود
وقد عمّم الشيب روؤسهم
الحدود بحر من دمٍ
وتعطش الإمبراطور للتوسع لا يعرف الشبع.
تلك هي صورة الحرب بكل وحشتها ووحشيتها، منها كان يستلهم الشاعر الصيني قصيدته،
ومن خلالها يرسل رسالته التي يودّ إرسالها. مثلما اتخذ الشاعر الصيني موقفًا واضحًا من
الحرب التوسعيّة الظالمة اتخذ كذلك موقفا أكثر وضوحا من الظلم الذي كان يقع على بسطاء
الناس ومسحوقيهم، فتجده يصف الجباة القساة الذين لا يتوانون في إذلال الناس من أجل
تحصيل الأموال يقول:
ولقد يهدي جباة القصر للقصر الحرير
غصبوه بسياط الظلم من بيت فقير
وفي قصيدة أخرى يقول الشاعر:
الشتاء عاد والمرابطون على بوابة البلاد الغربيّة لمّا يسرَّحوا
والحكام يشدّدون في جمع الضرائب
ومن يقدر على الدفع؟
عالجت القصيدة الصينيّة القديمة أيضًا مسألة القحط وجفاف السنوات التي كانت تمرّ بها البلاد بسبب السياسات الخاطئة للأباطرة، المتمثلة في التجنيد القسريّ والحرب، والتي بسببها يموت الشباب فلا تجد الحقول من يقف عليها إلا البنات اللواتي لا يستطعن القيام بتلك المهمة.
يواصل الشاعر (دوفو ) قصيته ويقول:
هل سمعت بأنّ مئتي ولايّة وآلاف القرى خلف الجبال الشرقيّة
لا تنبت إلا الهشيم
والأرض التي تولت النساء زراعتها
تشعّثت وتنافرت أثلامها
أجل هؤلاء الرجال أشداء بواسل في المعارك
ولكن ضباطهم يسوقونهم سوق الكلاب أو الفراخ
وسؤال العجوز عن أحوالهم ظلّ بلا جواب
فمن يجرؤ منهم على بثّ شكواه المرة
يواصل فيقول:
علمتنا الأيام أن نحزن لولادة الصبي
وأن نستبشر بالبنت
البنت قد تتزوج من ابن الجيران
أما الولد فأكفانه أعشاب البُرّ.
ثمّة أغراض أخرى طرقها الشاعر الصيني القديم في شعره غير الحرب وظلم الأباطرة،
كالحنين إلى مسقط الرأس، فالسفر كان وما زال يهدد ثبات الشعراء ويستفزّ وقارهم.
في كل هذه الأغراض وغيرها كان الشاعر الصيني يقدم قصيدته المليئة بالشجن والإدهاش إلى عامة الناس وخاصتهم على حد سواء.
لم يفت على الشاعر الصيني القديم أن يحاور الطبيعة بكل أجناسها، فالصين أرض السحر
وساحرة الشرق
الأقصى، بما فيها من أنهار وجبال ملونة، ومعابد وطيور تتفاوت في أشكالها وألوانها؛ لذا
جاءت القصيدة الصينيّة القديمة من رحم الطبيعة، نديّة تسيل عذوبة، وخضراء يانعة من أثر
الفراش.
Comments