فتحي عبد السميع: الأسماك التي تقفز من شباك الصياد
مصر
لا أستطيع تحديد اللحظة التي قررتُ فيها احتراف الكتابة، هذا إذا اعتبرنا كلمة احتراف الكتابة دقيقة، لأنني عشتُ حياتي موظفًا في محكمة قنا، وكانت وظيفةً ثقيلة جدًا من حيث التهام الوقت، وضغوط العمل، فقد كنت أعمل في كثير من الأيام حتى الثانية صباحًا، وأحيانًا حتى الثامنة أو العاشرة صباحًا بشكل متصل لا انقطاع فيه، ومن ثم أعتبر نفسي موظفًا يحب الشعر والقراءة، لا شاعرًا محترفًا. يمكنني الحديث عن اللحظة التي أصبحت فيها مغرمًا بالشعر لدرجة الجنون، وإن كنتُ لا أفهم حتى الآن سر غرامي بالشعر بشكل واضح وحاسم، لأن السرَّ في تقديري ينتمي أولًا إلى العقل الباطن، العقل الكامن في الطبقات والأغوار البعيدة للإنسان، السر ينتمي للغريزة أولًا، قبل انتمائه للثقافة، وحياتي الشخصية.لا يوجد تفسير لغرامي الشديد بالشعر أفضل من رده إلى الغريزة، أو لمنطقة سحرية معتمة تحت الوعي لا أعرفها لكنني أعرف بعض تجلياتها. غموض تلك المنطقة لا يتوقف عند بداية غرامي بالشعر، بل أجده مع كل قصيدة جديدة أكتبها، لأن القصيدة لا تأتي عندما أريد، بل لها إرادتها الخاصة، وهي دائما تفاجئني، صحيح أن الكتابة الشعرية تحتاج إلى استعداد وإرادة ومن دونهما لا تتحقق أبدا، لكن المفاجأة الباطنية هي سر الشعر، وهذا السر السحري حساس جدًا مثل سمكة خرجت للتو من البحر، سريع الظهور والرغبة في العودة مرة أخرى إلى البحر، ولا بد من الجاهزية التامة لاقتناصه فور ظهوره، وتطويره بالخبرة والثقافة، وإلا ابتلعته العتمة كما يبتلع البحر سمكة قفزت من شباك الصياد.لحظة الفيض السحرية كثيرًا ما تزورني وأنا بعيد عن الورقة والقلم، تقفز وأنا أمشي أو أثناء انهماكي في العمل، أو أثناء دخولي في النوم، كثيرًا ما رجعْت إلى بيتي كما يرجع الصياد بذكرى أسماك وقعت في شباكه ثم قفزت ثانية إلى البحر. أول اهتمامي بالشعر كان في فترة المراهقة حيث بدأتُ بكتابة نصوص عاطفية، وكأن الشعر جزء من طقوس الغزل الموجودة عند الإنسان وغيره من كائنات العالم الحيواني، لكن تلك البداية اُجْهِضَتْ سريعًا بسبب، المناخ الصعيدي الذي يعلمنا كبتَ مشاعرنا الغرامية، ويتصدى بقوة لأي سلوك غزلي.
صورة الشاعر في بيئتي الصعيدية كانت تعني صورة شاعر الربابة الذي ينتمي إلى جماعات الغجر أو الحلب، وهي جماعات هامشية صغيرة، تختلف نظرتها للعالم عن نظرة بقية الصعايدة، ينظرون إليها نظرة فوقية، بسبب ضعف عزوتهم، وعزوفهم عن الصراعات، وكانوا هم أيضًا يعتقدون أنهم الأفضل، أضحكُ وأنا أتذكر أبي في بداية علاقتي بالشعر وهو يكظم غيظه وينتظر عودتي إلى البيت بربابة كي يحطمها فوق رأسي. لا نعرف سوى شاعر الربابة، والشعراء المجهولين ـ عادة ـ الذين يستشهد بهم خطباء المساجد، لدعم مواعظهم بالشعر، أو الذين تدور مدائحهم على حناجر المنشِدين في حفلات الذكر التي كانت منتشرة جدًا وقتها. كان جدي مضرب المثل في حفظ القرآن الكريم وحسن تلاوته، وكان شقيقه مضرب المثل في لعبة العصا، والسعي خلفها في مختلف قرى جنوب الصعيد وموالدها.أبي وأعمامي حفظوا القرآن، وأجادوا تجويده، وكانوا يقرأون بأجرٍ في المآتم والأفراح، وتمتعوا بشهرة كبيرة في نجع حمادي، ولم يكن والدي يمتلك حنجرة ذهبية مثلهم، والتحق بالعمل في هيئة كهربة الريف، لكنه عوَّض ضعف حنجرته بالخطابة. كان أبي يحاول تعويض حلمه الضائع من خلالي، لكن حنجرتي كانت أسوأ من حنجرته، وكان إصراري على ختم القرآن ضعيفًا، واكتفيت بحفظ ثلاثة أجزاء حفظًا جيدًا "على الشعرة" كما يقولون، على يد شيخ عظيم اسمه الشيخ عويضة. أحزنني صوتي وهو يخذلني في جلسات التجويد، لكنه لم يخذلني عندما أخذ أبي يدربني على الخطابة، ولأن جامع القرية كان تقريبًا جامع جدي، أخذتُ فرصتي في صعود المنبر يوم الجمعة وأنا في السادسة عشرة. وهكذا بدأت من الخطابة وانتهيت إلى التمرد عليها، وعلى كل أشكال المباشرة وصخب الحناجر. لم يكن في بيتنا سوى كتب الخطب المنبرية، وقصص الأنبياء وحكايات الصالحين والأولياء، وهي القصص التي كان يعتمد عليها أبي لجذب المستمعين، خاصة بعد تدرج مكانته في الطريقة الرفاعية، والتقائه مع عمه في عشق الموالد ولعبة العصا. أول كتاب درسته جيدًا لدرجة الحفظ هو كتاب قصص الأنبياء للثعالبي النيسابوري المسمى بعرائس المجالس، وكان كبيرَ الحجم وبهامشه كتاب لحكايات الصالحين وكراماتهم، وكانت الحكايات تمتلئ بالشعر، وربما بسبب تلك الحكايات والمدائح تحول الشاعر من مكانته المنخفضة التي يعبر عنها شاعر الربابة، إلى مكانة شبه مقدسة، لأن الشعر يدور على ألسنة الزهاد والأولياء والصالحين، في سياق جعلني أتصور دائمًا أنهم شعراء، لكنني لم أتأثر بتلك الأشعار بقدر دهشتي بالحكايات نفسها وما تحتوي عليه من خوارق. بدَأتْ صورةُ الشاعر تتبلور في ذهني مثل عملة معدنية، على وجهها الأول يجلس شاعر الربابة بحكاياته ومربعاته، وعلى الوجه الآخر يجلس الزُّهاد بحكاياتهم وكراماتهم التي كانت تدهشني جماليًا أكثر من الشعر.
وهكذا أعتبر نفسي مولودًا من الحكايات لا من القصائد، ولِدتُ وفي صميمي اعتقادٌ راسخ بأهمية الشعر وقيمته العالية ذات الهالة المقدسة. بدأت معرفتي بالشعر الرسمي من خلال المدرسة، وفي المرحلة الثانوية كان ابن عم لي يفتخر بكونه شاعرًا، لماذا سحرني اللقب؟ كنت أشعر أن باستطاعتي الكتابة بشكل أفضل منه، بسبب مقارنة كتابته بالقصائد التي كنا ندرسها، ولا أعرف كيف ولماذا بدأتُ مجاراته في الكتابة، وكأنني أنافسه في الحصول على محبوبة غامضة. بصعوبةٍ شديدة، نتيجة خجلي الشديد، عرضتُ قصيدة على مدرس اللغة العربية، ولا شك أنها كانت ركيكة، وأنني كنت وقحًا في اعتبارها قصيدة، لكن المدرس لم يكن سمحًا بحيث يستقبلها بود، ولم يكن واعيًا بالشعر أصلًا، لكنه أخذ يحدثني عن الشعراء بوصفهم كائنات موهوبة مُلهَمة، وأنهم يحفظون كتب الشعر ويجيدون علم العروض، وأن المسافة بعيدة جدًا بيني وبينهم، وانصرف الأستاذ تاركًا في أعماقي شعورًا قويًا بأنني بعيدٌ كل البعد عن عالم الشعراء وقدراتهم الفذة. فقدتُ طريق الشعر، وقفز الحلم من صدري كسمكة هربت من الشِباك، واختفت في البحر، وفشلت المقررات الدراسية في تعليمي كيفية تذوق الشعر ومحبته، بل ذهبتْ إلى العكس، جعلته كيانًا ثقيلًا ومُنفِّرًا. أخذتني كُتبُ الخطابة إلى كتب التفسير والتصوف والقراءة بشكل عام، فكنت أتابع الجرائد خاصة الأهرام، وبعض المجلات التي كانت تباع بثمن زهيد وتتوفر لدينا في أقصى الصعيد مثل مجلة العربي والدوحة وعالم الفكر، ما زلت أحتفظ بصفحات من جريدة الأهرام التي كانت تحتوي على روايات وكتب مسلسلة، وكتابات زكي نجيب محمود، محمد حسانين هيكل، توفيق الحكيم، يوسف إدريس، وغيرهم، كُتَّابُ الأهرام كانوا محطة هامة في بداياتي. كانت محاولاتي الخاصة للاقتراب من قراءة الشعر تفشل دائمًا، بسبب غموضه وثقله وعدم شعوري بجماله، خاصة قصائد الشعر الحر التي كنتُ عاجزًا تمامًا عن استيعابها. بعد خمس سنوات من هذا اللقاء، كانت حياتي تعرف طريقها للاستقرار بعد التحاقي بالعمل في محكمة قنا، وحدث ما قلَبَ العالمَ، فقفزت السمكة مرة أخرى من البحر وعادتْ إلى شِباكي. إنها انتفاضة الحجارة، وقوف الأطفال بأصابعهم الرقيقة وحدها في مواجهة الدبابات بينما اختفى رجال العالم العربي في الجحور، شعرت يومها بالقهر والعار، وأردت التنفيس عن صدري، والتعبير عن ألمي، وصرختي، ولأنني فقدت إيماني بالشاعر الذي يسكنني، كتبتُ قصة تحكي عن حصان بساق مبتورة رأيته ذات مرة، وتذكرته وأنا أتذكر رجال العرب، كتبتُ قصة كي أتنفس واحتفظتُ بها لنفسي. كان يسكن بجواري صديقي محمود مغربي، وكثيرًا ما كان يأتي ويجلس معي بحكم الجيرة واشتراكه معنا في لعب كرة القدم أيام الطفولة، وأخذْنا نحكي عن فلسطين والصهاينة والأطفال الذين يحاربون الحديد بالحجارة. حكيت له عن القصة، وأعجب بها، وحدثني عن شاعرين يقيمان ندوة في بيتهما بالتناوب تقريبًا، وهما سيد عبد العاطي وعطية حسن، وطلبَ مني الحضور معه وعرض القصة عليهما لأنهما يفهمان الأدب جيدًا.
ذهبتُ معه، وقرأت قصتي بخجلٍ شديد، وكانت المفاجأة مذهلة، عندما علق عليها الشاعر سيد عبد العاطي وقال بتعجب "هذه قصيدة وليست قصة، أنت شاعر" قال جملته وكأنه فتحَ نافذةً في روحي، سرعان ما انطلقتْ منها مشاعر جنونية لاستعادة حلم الشاعر الذي قفز في البحر.بدأت رحلتي مع تلك المجموعة، وعرفتُ من خلال الشاعرين مسار الشعر، ومستجداته وأهم الشعراء وقتها، وأخذت أستعير الدواوين الشعرية منهما، وأنسخها بخط يدي، وأعيدها في اللقاء التالي، لأنها لم تكن موجودة في أي مكان قريب.
لم يكن في محافظة قنا مكتبة عامة، أو أي منفذ لبيع الكتب، باستثناء منفذ وحيد لدار المعارف، و أغلب المعروض فيه كتب أكاديمية، وأغلب الكتب التي كنتُ أحتاج إليها في تكويني، كانت هناك في العاصمة البعيدة جدًا.نسَخْتُ بيدي عشرات المجموعات الشعرية، وذلك بعد عودتي من وظيفتي في المحكمة، وأخذت أتعلم العروض، وأحفظ نصوصًا لشعراء قدامي، وكان ديوان عنترة أول ديوان أقرأه، وأختار منه مقاطع وقصائد لأحفظها بالشعرة، وجذبتْ انتباهي وقتها أعمال أمل دنقل، ومحمود درويش، ومحمد الماغوط، وعفيفي مطر، وأدونيس، ويحي الطاهر عبدالله، لقد أعجبتُ وقتها بأعمال مختلفة من حيث التوجهات الفنية، لكنها توحدتْ جميعا من خلال نَسْخي لها في كراسات وكشاكيل ما زلتُ أحتفظ بها حتى الآن، وأعتقد أن عملية النسخ علمتني التسامح الكبير مع الأشكال المختلفة، كما علمتني كيف أتنفس الشعر ولا أتلقاه بعقلي فقط. بدأت طريقي مع انتفاضة الحجارة سنة 1987 وتطورتُ بسرعة شديدة، وبعد عام تقريبًا كانت قصيدتي "ليلى ومحاولات قيس جديد" منشورة في مجلة إبداع، التي لم يكن يحلم بالنشر فيها أساتذتي في الصعيد، وأصبحتُ من يومها واحدًا من أنشط الشعراء في الصعيد.لم أستسلم لغواية الرحيل إلى القاهرة، كما كان يفعل الأنداد وقتها، تأثرًا برحيل الأبنودي وأمل دنقل ويحيي الطاهر وعبد الرحيم منصور قبل أن يُدفَنوا مبكرًا في قنا. تبلور الصعيد في ذهني بوصفه مشروعًا ثقافيًا شاملًا، يشتمل على الشعر والنقد وعلم الاجتماع والفولكلور، والأنشطة الثقافية المختلفة، خاصة بعد أن تعلمتُ الإخراج الفني لمجلات الماستر التي شاركت في مجالس تحريرها مثل مجلة بردية، ومجلة أدبية، ومجلة أفراس، ومجلة الجنوبي التي كنت رئيسا لتحريرها ومخرجها الفني في نفس الوقت، وكانت العملية شاقة في عالم ما قبل الآلة الكاتبة الكهربائية والكمبيوتر. نستغرب عودة السمكة إلى شباك الصياد بعد هروبها ورجوعها إلى البحر، لكن هذا ما حدث معي خلال عدة أشهر، تحولتُ فيها من كارهٍ للشعر إلى أحد أشهر شعراء الصعيد، وأحد أبرز أفراد جيلي الشعري في مصر بشكل عام.
أكثرْتُ من ذكر السمكة، لأنها تمثل بالنسبة لي رمزًا لجوهر القصيدة لكنها ليست القصيدة، هي اللؤلؤة وحدها والقصيدة هي اللؤلؤة والمحارة والعقد الثمين الذي يشكله (الجواهرجي) وفق خبراته الفنية وثقافته وموقفه من العالم، اللؤلؤة الشعرية العجيبة تولد من رحم غامض ومجهول، بينما يولد العقد الثمين من عمل الشاعر، وقدراته الواعية، ومهارته المكتسبة، وصبره الشديد على التنقيح والمراجعة والتأمل. السمكة هي الجانب الذي لا يدركه الوعي تمامًا، هي البذرة السحرية والوعي هو الذي يحولها إلى شجرة، لا يمكننا انتظار شجرة دون بذرة مهما قمنا بحرث الأرض ورعايتها بالماء والسماد، يجب على الشاعر التهام السمكة كما تلتهم الأرضُ بذرةً، بعدها تخرج السمكة ملتصقة بلحمه ودمه.الجوهر هو المشاعر والانفعالات والحدس، لكن الجوهر يحتاج إلى العقل والوعي كي يصبح قصيدة، وربما كانت عظمة الشعر، في تلك الوحدة التي يصنعها من العواطف الملتهبة والعقل الهادئ، من الداخلي الخاص والعميق والخارجي بمشاهده التي تبدو سطحية، في الشعر يجتمع الإنسان بكيانه كله، بغريزته وثقافته، برصده وتأمله فيما يرصده.السمكة السحرية تشبه الأم التي تَتْبعها أسماكٌ صغيرة تظهر خلال عملية المراجعة والتنقيح التي لا تنتمي للوعي بشكل كامل رغم انطلاقها من العقل، بل تنتمي لما تحت الوعي أيضًا، فأثناء التنقيح والكتابة الواعية تقفز لآلئ صغيرة من أعماقي، و سرعان ما تندمج وتذوب في اللؤلؤة الأم فتزيدها قوة، وجمالًا. بدأت حياتي بدون أي تخيل لصورة الشاعر التي أتمتع بها الآن، وكان الشاعر كائنًا حيًا يلازمني منذ مولدي، يتخلص من تشوهاته ويتطور بتطوري، أكتشفه ويكتشفني، وأعجز حتى الآن عن الإحاطة الكاملة بكنهه وكنهي، ما زلت أحلم بمغامرات كثيرة تأخذني إلى الشعر، وإلى ذاتي.
Commentaires