قَلَمُ يوسُف
قَلَمُ يوسُف - فكري داود ـ مصر - قصة قصيرة
من باب الاعتزاز والاستئناس، كثيرًا ما اصطحبه معي، شاكًّا دبوسَ لَبِّيسَتِه، في جيبي القريب من القلب، حريصًا على العودةِ به، ليحتلّ محله المفضل، متمدّدًا بدرج مكتبي، في علبته المصنوعة من خشب الصندل، ذلك القلم الذي شاركنا - أنا والمكتب - في توثيق ما يستحق من أحداث تَخُصُّنِي، أتراحًا كانت أم أفراحًا، كصديقٍ صدوق وأخٍ يقدس الأخوّة، لا يُفشي سرًا أو يبوح، إلا للأوراق البيضاء.
كم من أقلام مرت علىَّ، قضت فترتها المؤقتة وفَنَتْ، دون أن تترك أثرًا إنسانيًا، أو تثير دهشة ممتدة، لكنه بقي - مفتوح اللبيسة أو مُغْلَقِها - كرَجُلٍ صامدٍ، يجاهدُ ليؤدي مهامَّه بسلاسةً، منذ وَقَعَ في حَوزَتي، كإرثٍ عن والدي، عن جدِّي التاجر الرَّحَّال.
عن كيفية وقوعه في يد جدِّي، قُصَّتْ قصصٌ عدةٌ، أقواها: تَلَقِّيهِ كهديةٍ من صديقٍ هنديّ، أو أندونيسِيّ، ذاتَ رحلةٍ تجاريةٍ، إلى جنوب شرق آسيا، أو ذات مزاد علني، أُجْرِي في باكستان، وقِيلَ إنَّه أحَدُ أقلامِ خَزَنَةِ يوسُف الصِّدِّيق، الذين كانوا يسجلون به، بيانات تخزين قمح مصر، في سبع السنوات السمان، وتوزيعها في سبع السنوات العِجاف، لكن السؤال – مع ذلك - بقي: هل هذا كل شيء، أم أن هناك قصصًا أخرى، تُفْصِحُ بدِقَّةٍ، عن كيفية وصوله إلى جدِّي، محتفظًا بقوامِه الخَشَبي المخطط، وعموده الداخليّ ذي السِّن، الذي يُشِيعُ رائحةً ذكيةً، ويبعثُ نورًا آسرًا، إذا ما تُرِكَ في الظلام، مجردًا من لبِّيسَتِه.
قال والدي: صَنَعَهُ صانِعٌ على يدِه، والإبداعاتُ اليدويّةُ ذاتيّةٌ، قلَّما تَتَطَابَقُ.
يُهَيَّأُ للقاريءِ الغريبِ، أن خَطَّهُ كخطوطِ أقلامِ الرصاص المألوفة، يُمكِنُ مَحْوه بأيَّةِ مَحَّايَةٍ، وسرعان ما يَكتَشِفُ، تَشَرُّبَ الأوراقِ به، واستحالته إلى خطوطٍ من نورٍ، يستحيلُ محوها أو التخفيفِ من شعاعِها.
شَكَكْتُ دبوسَه بجيبي الأيسر أعلى القلب، داخَلَ نفسي الهدوءُ كالعادة، وغَزَتْني طمأنينةٌ مُنْتَظَرَةٌ، مستأنِسًا بأريجٍ آسر، كما يستأنسُ المَرءُ، بريحِ صديقٍ أو رفيقٍ عزيز، حتى تفاجأتُ بفَقْدِه، لا أعرف كيف؟
أماكن عديدة صَحِبْتُه إليها اليوم، شعورٌ عظيمٌ بالذنبِ يجتاحُني، باغَتَنِي الظَّنُّ، بأنَّني سأفتقده إلى الأبد، تعاظم الأمر عليّ، عِظَمَ مَن صَحِبَ ابنًا له في رحلةٍ، ثم عادَ بدونه، بلا درايةٍ أو مسئوليةٍ.
قد يقولُ أحدٌ مستهينًا: إنه مجرد شيء عَيْنِيّ والسلام، والأشياءُ العينيةُ يسهُلُ تعويضُها.
فأقول: إذا كان هذا صحيحًا، فربما احتلَّ عَقْلِي خَلَلٌ ما، أو لَخْبَطَةٌ جِينية أصابَتْ مشاعري، فباتَتْ تخلطُ بين المادِّيِّ المَعْنويِّ، كالخَلْطِ بين حُبِّ الكُتُبِ والعمارات والسيارات، وحُبِّ الخير والجمال والأخلاق...
قد لا يوحي مظهرُه المخطَّطُ، مُتَناثِرُ القُشُورِ، بثمينِ قَوامِه أو غُلُوِّ ثَمَنِه، فعمودُ سِنِّهِ ليس ماسِّيَّا، أو قُدَّ مِن حَجَرٍ كَرِيمٍ، كما أنه باتَ عاجزًا، عن مواصلَةِ الكتابةِ لوقتٍ طويلٍ، حيثُ يَبِسَ عُودُه عن ذِي قَبْل، كعجوزٍ يحيا بصعوبةٍ، ليقْضِي عُمْرَه خادِمًا صديقه، وما أكثر من ضَحَّى بحياتِه، محاولًا إنقاذ صديقه القِطِّ أو الكلب أو...، وما الفرقُ بين الأصدقاءِ، سواءٌ أكانوا قِطَطًا أم كِلابًا أم أقلامًا؟
كم ظَلَّ – قَبلَ فَقْدِه - طَوعَ أمري، مُدَوِّنًا كل ما يعنيني، دون تأخُّرٍ أو ضِيقٍ، لأصْبحَ هادئًا مرتاحَ البالِ، طارِدًا الأفكار الشريرة، مُتَجَنِّبًا ضَرب رأسي في الحائط.
ها هي دقاتُ قلبي تتزايدُ، وأنْفِي يَسْتَشعِرُ بصيصًا من رائحته – أو هكذا أتصور، طاوعتُ أنْفِي صاعدًا خلفَ الرائحةِ؛ قادتْنِي خطواتِي إلى مَركَزِ سَطْحِ بيتنا، وإذ بعينَيّ تُشاهدانَهُ، مُعَلَّقًا بينَ السَّطْحِ والسَّمَاء، دافِعًا بكلماتِ النُّورِ الزَّكِيَّةِ، في كُلِّ اتِّجاهٍ.
Comments