قراءة في أقصوصة " الحبّ المستحيل" لسفيان رجب حِدَثانُ الحُبِّ: أول الحبّ جدّ وآخره لعب
د. عادل الغزال - أستاذ الأدب بالجامعة التّونسيّة
" أخشى الآخر، أكثر ممّا أخشى أبي."
نيتشه
تُرَسِّخُ الكثير من قصص الحبّ، مسألة ذات قوّة إنشاء ونشوء مدارها أنّ هذه القصص وما تحكيه من متاهات الخوض في هذا الإحساس والشّعور لا يمكن لها أن تصنع هويّتها دون اتّصال طرفي القصّة بمنطق المغامرة - Aventure، وهو منطق لا يخلو من حقيقة لعبيّة أشار إليها على نحو دقيق يانكلفيتش – Jankélévitch، عندما أقرّ بأنّه، "إذا حذفت العنصر اللّعبيّ من المغامرة، فإنّها تصير تراجيديا، أمّا في حال حذفت الجدّ، فإنّ المغامرة تتحوّل إلى لعبة ورق أو إلى أمر شبيه باللّهو" ([1]).
وإذا أردنا أن نفهم أكثر هذه الحقيقة المتّصلة بفكرة اللّعب، وجب أن نتوقّف عند تحوّل الكثير من عوالم الأشياء أو أكوان المشاعر إلى حالات متردّدة بين اللّعب بمعنى Jeu، واللّعبيّ بمعنى Ludique"([2]) وبين الحالتين نخرج من الانشغال باللّعب دون الالتفات إلى ما يحكمه من قواعد، لنضرب وجهًا نحو الانشغال باللّعبة محتكمة إلى قواعد تضبط لعبتها وقوانين إجراء تسيّر حركتها، ونتجاوز ظاهرها الدّال على أنّها مجرّد لعبة يحكمها طابع اللّهو، نحو باطنها المُخبر عمّا يمنحها وجهًا من هذه الوجوه اللّعبيّة بما هي جدّ يكتنفه نسق عالم لعبيّ يخترق تصوّراتنا وخطط تعبيرنا عن الحقائق والقيم، وما نصوغه على نحو جماليّ.
ولاختبار ذلك، اخترنا نصّا قصصيًّا من قصار الأقاصيص ووجيز الحكي ضمّته المجموعة القصصيّة
" أهل الكتاب الأحمر"، للقاصّ التّونسيّ سفيان رجب، وهذا واحد من نصوصها:
الحبّ المستحيل:
على غصن شجرة إجّاص، كانت تدبّ دودة خضراء جميلة، فرأت زهرة بيضاء متفتّحة، تبادلا النّظرات، وسقط الاثنان في حبّ بعضهما، فتمنّت الدّودة أن تصبح فراشة لتحطّ على حبيبتها الزّهرة، وتمتصّ رحيقها، وتمنّت الزّهرة أن تصبح إجّاصة ناضجة لتسكن حبيبتها الدّودة أعماقها.
غزلت الدّودة شرنقة لتنام فيها، وتكمل حلمها بالتحوّل إلى فراشة، وألقت الزّهرة بتلاتها لتكمل حلمها هي الأخرى في التحوّل إلى إجّاصة ناضجة.
بعد فصل، خرجت الدّودة من شرنقتها، وقد أصبحت فراشة فاتنة، نظرت إلى الزّهرة فوجدتها قد تحوّلت إجّاصة ناضجة، ظلّت ترفرف حولها ساعات بحسرة، وكانت الإجّاصة أشدّ حزنًا لما آلت إليه حبيبتها الدّودة. بعد ذلك ذهبت الفراشة إلى زهرة أخرى، وفتحت الإجّاصة قلبها لدودة أخرى ([3]).
الحبُّ ... حِدْثان:
يُحْبَكُ الحُبُّ فعلًا انبجاسيًّا، فلا يكون حدثًا تامًّا مكتملًا بل هو شيء في معنى أوّل الحَدث وحِدثانه، وكذلك في نصّ الأقصوصة، بدا صورة حِدثان- avènement دبّ دبيبه أعلى غصن شجرة إجّاص بانفراط حركة دودة خضراء أصابها تفتّح زهرة بيضاء، وغدت تحفّزه لعبة عَسَقٍ والعسق لُصوق ووَلَع قبل حدوث انزياح والتواء، تكمّلها لعبة عشق، وبين العَسَقِ والعِشْقِ جوار، فهما "بالشّين والسّين المهملة... اللّزوم للشّيء لا يفارقه... والعشق: فرط الحبّ... وقيل هو عجب المحبّ بالمحبوب" ([4])، وقد ولّد كلّ ذلك لعبة انعقد نسقها بفعل تبادل النّظرات بين الدّودة وبين الزّهرة، قانونها قانون لعبيّ هو الجيئة والذّهاب، إذ تجيء النّظرة من عيني إحدى العاشقتين وتذهب عائدة فتعترضها بنتها النّظرة المتبادلة، وههنا يُفتح أوّل أبواب العشق، باب النّظر وليد فتنة البصر، متسلّطًا بآلة مجالها العين، ومُدركها هذا الحسيّ- Le sensible، المُوغل في آثار صلابة الفتنة ولانهائيّة الافتتان.
في "تبادل النّظرات" تتأسّس مدينة عشق طرفاها دودة خضراء وزهرة بيضاء، وهي مدينة لا تشيّد أعمدتها الأحداث بما تعنيه من انعقاد تامّ، بل تشيّدها مسائل حِدثان بما فيها من انبجاسات وانبثاقات، بل وبما فيها من ولادة ما يضارع رسالة في العشق، مُرسِلُها العين ومتن حرفها النّظرات، العاشقتان ليستا معنيّتين بما تقولان لبعضهما، بل لهما ما ينطبع بفعل العين التي حوّلت كيان كلّ واحدة منهما إلى علامة Signe، هي تمثيل شيء حصل عيانًا يحيل إلى أمر سكن وجدانًا في بواطن الدّودة والزّهرة، قطعا مع ثرثرة اللّفظ وترّهات التّعبير، وذهابًا نحو قوة وشائج القلب، صناعة لصورة ومتصوّر في المغامرة، أمّا الصّورة فنَحوُها ظلال خضرة وبياض، وأمّا المتصوّر فبلاغته إسقاط هذا الآخر في العاشقتين، وإبعاد الصّورة لحساب فتنة المتصوّر، فهذا الأخير يظلّ الماسك بمغامرة العشق حتّى نهاياتها، ولذلك يُشَيّدُ خطابُ العشقِ على لسان واحد من مُريديه مشدودًا إلى معادلة ناشئة عن لعب الأنا العاشق – الآخر العاشق، مدارها قوله، "أضحّي بالصّورة لحساب المتصوّر نفسه، ولو جاء يوم واضطرّرت فيه لاتّخاذ قرار التخلّي عن الآخر، سيكون الحداد العنيف الذي يلفّني حدادًا على المتصوّر ذاته"([5]).
الحبّ ... هاوية :
تختزل العبارة " Tomber amoureux " فتنة تحوّل الطّرفين في المغامرة من الحبّ إلى فرط الحبّ "وسقط الاثنان في حبّ بعضهما"، وينشأ حِدثان السّقوط تاليًا لحدثان العشق الّذي فيه ينبثق فعل الغواية، La séduction، بما في الفعل من انقياد للهوى وارتكاب لضلالات روحها شيطانيّ لا تنعدم فيه روح المخادعة والمخاتلة، حتّى أنّ الغواية تغدو لعبة تصنع فضاءها اللّعبيّ، "شرنقة للدّودة وبتلات للزّهرة"، وهي لعبة قانونها المحو والوسم، فقد محت الدّودة أصل هويّتها الأولى فبدت فراشة مثلما تحوّلت الزّهرة بعد محو أصلها موسومة بثمرة إجّاصة ناضجة، ولا غرابة في أنّ الغواية فعل شيطانيّ مضلّ، "فالمغواة: حفرة كالزُّبية تحتفر للذّئب ويجعل فيها جدي إذا نظر الذّئب إليه سقط عليه يريده، فيُصطاد "([6]).
تحوّلت المغامرة، من حِدثان تبادل النّظرات ونشوء حالة عشق، إلى حِدثان السّقوط في الحبّ، ولأنّه سقوط نحو هاوية لاقرار لها، تضخّم فعل التّمنّي وتَجاوزَ مقام رجاء الممكنات، وهي ممكنات تَحوُّلٍ في الهويّة والعلامة والمتصوّر، ضدية للمسخ رديفة لسيرورة تطوّر دورة حياة بعض الكائنات بما يسمح للدّودة أن تصبح فراشة وللّزهرة أن تغدو ثمرة، وقد ضخّم حِدثان الحلم العابر فكرة تحوّلها، والحلم شبيه بحال إنفاق على المستحيل أو وفرة تستبدل نُدرة، "خرجت الدّودة وقد أصبحت فراشة فاتنة، نظرت إلى الزّهرة فوجدتها قد تحوّلت إجّاصة ناضجة"، وبين فتنة صورة العاشقة الأولى واكتمال ظاهر العاشقة الثّانية، تبدّلت العلامات وهبّت ريح الحسرة والحزن على العاشقتين، فاقتربت المغامرة من عوالم تشكّل لعبة غيرة متبادلة تؤذن بتراجيديا سقوط العاشقتين وقد زاد تواشج كلّ واحدة منهما في هويّة آخر غير الّذي كانت عليه في مبدإ حدثان المغامرة، ومدار كلّ هذه اللّعبة، يشير إليه بعض القائلين في خطاب العشق، "إنّ الوفرة في العشق هي وفرة الطّفل الّذي لم يُصَبْ بشيء يؤثّر على استيعابه للانتشار النّرجسيّ والمتعة المتعدّدة، ويمكن لهذه الوفرة أن يقطعها الحزن والانهيار العصبيّ والحركات الانتحاريّة"([7]).
الحبّ ... غيرة ثمّ مغامرة فانية:
في مغامرة الحبّ والعشق، قد يحدث حِدثان الانقلاب على هويّة بدايات مغامرة الحبّ، وعندها تنصرف هويّة العاشق إلى ضرب مبدإ التقنّع ونزع القناع مرّة واحدة، تعبيرًا عن الدّخول في عوالم "الآخر غير الموصول بالحبّ"، فتحذو الهويّة حذو الهويّات المبعثرة، والأمر هنا موصول بما قد يهتك تماسك هذه الهويّة من ملامح الهجنة وفقدان الأصل، فوقتها يصاب طرفا العشق بما هو حِدثان نهاية، ثمّ "يقرّر العاشق التخلّي عن حالة العشق، فيجد نفسه بشكل حزين، منفيًّا في مخيّلته."([8])، وبسبب النّفي في المخيّلة يلوذ العاشق بالخيال فضاءً لعبيًّا بديلًا ينعش ما بقي من آثار فعل المغامرة، غير أنّ السّقوط في العشق سرعان ما يبدو فراقًا وموتًا، إذ العاشقتان في المغامرة تتخلّى كلّ واحدة منهما عن وصلها الوجدانيّ وصلتها العاطفيّة ضربًا من ضروب الفراق، "ذهبت الفراشة إلى زهرة أخرى، وفتحت الإجّاصة قلبها لدودة أخرى."، وهو فراق يزيح ستارًا شفيفًا يلفّ المغامرة موتًا بعد فقدان الثّقة في أفق اللّعب وفي صلابة قوانينه وفي استبداله الجدّ بهشاشة اللّعبة، حتّى أنّنا بدأنا نردّد معادلة تختزلها هذه الفكرة التّقريريّة المنفتحة على حقيقة نهايات قصص الحب وحكايات العشق، ومفادها أنّ "المغامرة هشّة، توشك كلّ لحظة أن تفقد سمة المغامرة فيها، لأنّها أحيانًا تصبح لعبة تافهة لا جدارة لها بأنّ تسمّى مغامرة، وهي أحيانًا أخرى تنتهي إلى الهذر والهذيان، بل وأحيانًا تعلن عن نهايتها التّراجيديّة"([9])، لعلّها تعبير عن نهاية في الانجذاب إلى الخسران بفعل روح الغيرة، وبفعل اقتحام هذه الغيرة لصلابة المغامرة، تشتيتًا بيّنا لطرفيها، وعلى هذا النّحو كانت حسرة الدّودة وكان حزن الإجّاصة وهما في قلب التحوّل من العشق إلى الغيرة، ولا يكون هذا التّحوّل إلاّ عقيب اقتراب طرفٍ عاشقٍ من حالات الكمالِ، كمالٍ يزيد المغامرة وَهَنا ويصلها بمنطق الرّفض، ومعادلته هي "إذا ما رفضت تقاسم المعشوق، فإنّني أرفض كَمَالَهُ، لأنّ من خصائص الكمال أن يكون قابلًا للتّقسيم"([10])، بما يجعلنا نقرأ القصص بمنطق الخسران أفقًا لا يمتع بغير أن يصل الحبّ والعشق مرّة بالحزن الجميل، ومرّة أخرى بسطوة الأخر. وهذا أمر لا يمكن لغير الأدب أن يمثّله تمثيلا متغلغلًا في وجدان المتقبّل.
[1] Vladimir, Jan Kélévitch, L’aventure, L’ennui, Le sérieux, Paris, Flammarion, 2017, p 17.
[2] انظر، عادل الغزال، الأدب واللّعب، تونس، بحث في أسس اللّعبيّ في السّرد العربيّ القديم،الدّار التونسيّة للنّشر، ط1، 2022، ص 83.
[3] سفيان رجب، أهل الكتاب الأحمر، تونس، دار زينب للنّشر والتّوزيع، ط1، 2020، ص 62.
[4] ابن منظور، لسان العرب، بيروت، دار صادر، ط6، ص 252 (المجلد 10).
[5] رولان بارط، شذرات من خطاب في العشق، م.ن، ص 40.
[6] ابن منظور، لسان العرب، م.ن، ص 141، ( المجلّد 15).
[7] رولان بارط، شذرات من خطاب في العشق، م.ن، ص 84.
[8] رولان بارط، شذرات من خطاب في العشق، م.ن، ص 101.
[9] انظر: Vladimir, Jan Kélévitch, L’aventure..., op.cit, p 53.
[10] رولان بارط، شذرات من خطاب في العشق، م ن، ص 136.
Comments