قراءة في ديوان "خطوات على الأعراف" لسعد مصلوح -العنوان وتأويل العنصر الغائب - د. محروس بريك
للعنوان – بوصفه أهمَّ العتبات - وظائفُ، أشار جيرار جينت إلى بعضها نحو: التعيين والوصف والإيحاء والإغراء ([1]). لكنّ عنوان النص الفني لا يقف عند حدود تلبية تلك الوظائف الأربع فحسب، بل يتعداها إلى الدخول في عملية تأويل متبادل بينه وبين نصه على المستويات التركيبية والدلالية والتداولية وربما على المستوى الصوتي في بعض النصوص؛ إذ العلاقة بين النص الفني وعنوانه علاقة شديدة التشابك والتعقيد، إنها علاقة قائمة على التفاعل والتكامل لا على الانفصال والاستقلال. فالعنوان مرسِلٌ ومستقبِل في آن واحد، إذ النص يُسهم في تأويل البنية الناقصة في العنوان بالتحول من البنية السطحية إلى البنية العميقة، كما أنه يعمل على توجيه الدلالة في بنية النص على المستوى الدلالي والتداولي ([2]).
وبعبارة أخرى: للعنوان علاقة نصية لغوية مع نصه على المستويين النحوي والدلالي، وعلاقة تناصية خارجية مع أحداث أو أشخاص أو نصوص تتقاطع معه ثقافيًا أو تاريخيًا أو فكريًا...إلخ، وتلك العلاقة علاقة مبنية على الاتصال والتداول.
فالعلاقة بين العنوان والنص –على المستوى التركيبي- تقوم على التكامل؛ إذ يقوم النص إما بتمثيل العنصر الغائب تركيبيًا في العنوان أو الإيحاء به والإشارة إليه، كأن يمثل العنوانُ أحدَ عنصرَي الإسناد (المسنَد إليه) ويكون النص حينئذ هو (المسند) أو يمثل النص سياقًا يوحي بالعنصر الغائب في العنوان، وكذلك الأمر في بقية العلاقات نحو المفعوليّة والتبعية والتقييد بالزمان أو المكان، ونحو ذلك. وهناك ضربٌ آخر من العلاقات التركيبية بين النص وعنوانه؛ كأن تقوم العلاقة بين النص وعنوانه – في حالة الاكتمال النحوي للعنوان- على التوازي التركيبي أو التقابل التركيبي ونحو ذلك ([3]).
يتسم العنوان إذن بالاقتصاد اللغوي، والثراء الدلالي. وهناك عناوين توجّه نصوصَها، وعناوين غامضة تفسرها نصوصُها، وتصبح عمليةُ قراءةِ النصِّ بمثابة التأويل للعنوان، وكلما تقدمنا في قراءة النص غدا العنوانُ أشدَّ وضوحًا. إنّ ذلك الاقتصادَ اللغويَّ لبنية العنوان ربما يوحي بسهولة التأويل، وهنا تكمن خطورة التصدي لتأويل العنوان؛ ذلك لأنّه على الرغم من الاقتصاد في بنية العنوان إلا أنّ هذه البنية – على حدّ تعبير الدكتور محمد عبد المطلب - "بنية معقدة غاية التعقيد"([4])، ومَرَدُّ ذلك إلى شدة افتقار العنوان إلى غيره؛ فهو يفتقر إلى نصه على المستويين النحوي والدلالي، ويفتقر إلى خارج النص على المستوى التداولي.
إنّ العنوان –على المستوى التركيبي- لا تتحكم فيه شروط مسبقة؛ فقد يكون كلمة أو مركبًا إضافيًّا أو مركبًا وصفيًّا أو جملة أو أكثر من جملة ([5])، والغالب في عناوين النصوص الفنية كونُها أقلَّ من جملة؛ لذا يرى بعض الباحثين أن العنوان "ينطبع بسمات قريبة للغاية من سمات الشعرية Poetic، وربما أهمها أنه خطاب ناقص النحوية أو لا نحوي بامتياز"([6]).
ولا يعني ذلك أن فكرة الشعرية مرتبطة بهذا الضرب من العناوين فحسب؛ إذ إن الشعرية لا تفارق عناوين الأعمال الإبداعية حتى في حال اكتمالها نحويًّا على مستوى السطح؛ لأنها تكتسب تلك الشعرية من نصوصها الفنية التي تُعَنوِن لها، فـ"اكتمالها لا ينفي ما يسيطر عليها من عتمة دلالية تتوافق مع عتمة الخطاب نفسه، أي أن هناك توازيًا بين العناوين والخطابات"([7])، وهذا التوازي يتحقق على المستوى الدلالي، أما على المستوى التركيبي فربما كانت العلاقة بين تلك النصوص وعناوينها المكتملة نحويًا قائمةً على التوازي التركيبي أو التقابل التركيبي أو غير ذلك من علاقات تركيبية.
إن الناظر في السمات التركيبية للعنوان في ديوان (خطوات على الأعراف) للدكتور سعد مصلوح يتبين له أنه مبنيٌّ – في الغالب- على غياب بعض مكوناته التركيبية، وتلك هي السمةُ الغالبة في عناوين النصوص الإبداعية؛ إذ العنوان كما يقول الدكتور محمد عبد المطلب "يعتمد الغياب الصياغي لبعض مكوناته، أي أنه يعتمد حذف بعض دواله، فهو يأتي ناقصًا صياغيًّا على الأغلب، واستحضار هذا المحذوف أو الغائب يحتاج إلى استحضار بنية العمق، ثم ربط هذه البنية بالفضاء النصي المحيط بالعنوان، سواء في ذلك أكان الغائب يحتل صدارة العنوان أم مؤخرته"([8])، أم وسطه كذلك.
وفي هذا العنوان: (خطواتٌ على الأعراف) ثمة عنصران غائبان في أول العنوان ووسطه، ويتمثل العنصر الأول في المبتدأ المحذوف، والعنصر الثاني في مُتعَلَّق شبه الجملة (الجار والمجرور)؛ إذ يتعلق الظرف أو الجار والمجرور بمحذوف وجوبًا في أربعة مواضع (الخبر والصفة والحال والصلة)، ويمكن تقديره بالاسم أو الفعل، على خلاف بين نحاة العربية، على أن يكون من الأفعال العامة نحو (كان) أو (استقر)، والصحيح عند جمهور البصريين تقديره بـ (كائن) أو (مستقر)، ويرى ابن هشام أنه بإمكان المتلقي أن يقدره بالاسم أو بالفعل تبعًا للمعنى، ويرى بعضهم أن المحذوف يمكن أن يكون فعلا خاصًّا لا عامًّا إذا دل عليه دليل([9]).
بيان ذلك أن هذا العنوان (خطواتٌ على الأعراف) يمثل عتبة رئيسة للديوان كله، ويكرره الشاعر مرة أخرى ليمثل عتبة أخرى لأحد نصوص ذلك الديوان هو النص الثاني من بين قصائد الديوان؛ فهذه الخطوات على الأعراف تمثل إذن سياجًا للديوان، ولا يمكن للمتلقي أن يغفلها عند تصديه لتأويل نصوص الديوان التي غدت كلُّها خطواتٍ على الأعراف.
إن هذا العنوان يعد – من الجهة التركيبية - جملةً اسمية؛ إذ اختار الشاعر وضع علامة الإعراب على العنصر الأول (خطواتٌ)، ولو ترك آخر الكلمة دون علامة إعراب لاحتملت الرفع والنصب، لكن الشاعر اختار الرفع وكأنه يستحضر تلك الخطوات أمام ناظرَي المتلقي عن طريق اسم الإشارة (المبتدأ المحذوف)، فـ (هذه خطواتٌ على الأعراف)، والإشارة هنا تستغرق كلّ قصائد الديوان، وهذه القصائد ما هي إلا معادلٌ فنيٌّ لحياة الشاعر التي يراها في صورة خطوات يخطوها على الأعراف.
إن تقدير المحذوف باسم الإشارة هنا غرضه استحضار ذلك السِّفْر الشعري إلى الواقع المعايَن في مواجهة المتلقي. ولا يعني تأويل هذا العنوان بالجملة الاسمية أنه دال على الثبات والاستقرار المطلق؛ إذ ما زال عنصرُ الفعلية محتملًا في تقدير العنصر الثاني المحذوف المتعلِّق به شبه الجملة (على الأعراف)، وما دام بعض نحاتنا يرى أنه يمكن تأويل المحذوف بفعل خاص إذا دل عليه دليل، فإننا نطمئن إلى أن المحذوف هنا هو الفعل (خطا يخطو أو مشى يمشي) ويصبح العنوان في بنيته العميقة هكذا (هذه خطوات مشيناها على الأعراف)، وبذلك يتناصّ هذا العنوان مع نصين أحدهما قرآني، والآخر شعري؛ إذ يتناص العنصر المذكور (على الأعراف) مع قوله تعالى: (وبينهما حجاب، وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم)، فالشاعر إذن في منزلة بين المنزلتين (بين قُنّة صَعَد) و(هُوّة جُرُف)، كما يصرح بذلك مخاطبًا نفسه:
يا أيها المُزجي مطيّتَه في حيثُ لا ماءٌ ولا علَفُ
أقصِرْ، فدونَك قُنّةٌ صَعَدٌ وانظر، فتحتك هُوّةٌ جُرُفُ
ما زال شاعرنا إذن يخطو على هذه الأعراف بين هاتين المنزلتين في معركة الحياة؛ ينظر إلى هذين الطرفين فيبصر تلك الثنائيات المتناقضة (الأحرار في مقابل الأنكاس والكُشف) و(الباز في مقابل الرَّخم)، و(الدر في مقابل الصَّدَف)، و(الصخر في مقابل الخَزَف)، كما يصرح بذلك في أبيات شعرية تتسم بالسرد الذي يبعث على الشجا، يقول فيها:
أحرارها أنضاءُ معركةٍ أبطالُها الأنكاسُ والكُشُفُ
فرأيتَ ثمَّ رأيت خارقةً أنْ راح يرضَخُ صخرَك الخزفُ
إلى أن يقول:
والبازَ كيف يبُزُّه رَخَمٌ والدرُّ كيف يعُزُّه الصَّدَفُ
في حين يتناصّ العنصر المحذوف في العنوان (مشيناها) مع قول الشاعر:
مشيناها خطىً كُتبت علينا ومن كتبت عليه خطىً مشاها
وهذا التناص يتوافق مع رؤية الدكتور سعد مصلوح للحياة وما يعتري الحرَّ فيها من معاناة وآلام؛ فهي ترفع الوضيع (الأنكاس والرَّخم والخَزَف) وتضع الشريف (الأحرار والباز والصخر)، وقد عبر عن معاناة أولئك الأحرار في صورة شعريّة مشاهَدة حيث يقول وهو أحد أولئك الأحرار:
وطِئَتْ خُطاكَ الشوكَ مُحتفيًا ما غرَّها لينٌ ولا شظَفُ
ويقرر ذلك كلَّه بلغة جازمة في جملة اسميّة دالة على الثبوت والاستقرار والدوام قائلًا:
تلك الحياةُ سرورُها خُلَسٌ تمضي، وجزْلُ عطائها نُتَفُ
وفي تأمّل إيقاع السببين الخفيفين الناتجين عن إضمار تفعيلة الكامل (متْفاعلن) في الفعل (تمضي) ما يوحي بأنّ المضي هنا ليس مضيًّا هادئًا مطمئنًا، بل هو مضيٌّ به رتابة ناتجة عن تكرار الإيقاع العروضي الموازي لرتابة إيقاع الحياة، لكنّه على الرغم من ذلك مضيٌّ خاطف يومض كالبرق الخُلّب؛ إذ هذه الحياةُ (سرورُها خُلَسٌ، وجزلُ عطائها نُتَفُ).
إنّ قصيدة (خطوات على الأعراف) قصيدة محوريّة تجمع إليها كلّ قصائد الديوان، فلا يمكننا تأويل بقية النصوص في معزل عنها، ومما تتسم به تلك القصيدة ذلك السرد الشعري الواضح بكلّ أبنيته من حيث الزمانُ والمكانُ والأبطالُ والحدثُ والحبكةُ الدراميّة.
وكما قلنا من قبل إنّ العلاقة بين النص وعنوانه تتسم بالتفاعل الدائم، فإنّ هذا العنوان (خطوات على الأعراف) قد احتوى على عنصرين مهمين من عناصر السرد إنّهما عنصرا الزمان والمكان، وهذان العنصران خاصة من بين عناصر السرد لا يُستطاع الفصل بينهما في علاقتهما بالأشياء والخواطر والعالم من حولنا، على حد تعبير ميخائيل باختين.
إنّ الزمان والمكان في الشعر القائم على السرد ليسا بالضرورة مكانًا وزمانًا حقيقيّين، بل هما المكان والزمان القائمان على التخييل، حيث تنجز مخيلةُ الشاعر ذلك الفضاء المكاني والزماني بأبعاده المختلفة، ويتكئ الشاعر - لتشكيل فضاءات ذلك المكان والزمان الشعريين - على الصور المجازيّة في الغالب، خاصّة لدى شاعرٍ شوقيِّ النزعة مثل الدكتور سعد مصلوح.
يحتوي إذن هذا العنوان على أهمّ عنصرين من عناصر السرد هما الزمان والمكان، أما المكان فتشير إليه دالة (الأعراف) إشارةً مباشرة، على الرغم من أن الأعراف هنا دالة شعريّة تتسم بالمراوغة، إنّها أعراف مجازية تسمح للشاعر وهو يخطو عليها بأن يصف لنا تلك الأحداث المتناقضة التي تجري عن يمين هذه الأعراف وشمالها، وفي اختيار حرف الجر (على) دلالة على استعلاء الشاعر على هذا المكان استعلاءً يُمكّنه من رؤية الأشياء والأشخاص والأحداث عن كثَب في إحاطة ووضوح؛ مما أهَّله ليقوم بدور الراوي إلى جوار دور البطل.
وأما عنصر الزمان فلم يعبر عنه الشاعر تعبيرًا مباشرًا في العنوان، لكن دالة (خطوات) تستلزم حيزًا زمانيًّا تقع فيه، وهو ما عبر الشاعر عنه في مطلع القصيدة بأنّه وقت السُّرى:
طال السُّرى وخُطاك ترتجفُ وَأُرَاكَ لا تَلْوِي ولا تقفُ
والسرى لا يكون إلا ليلًا بما يحمله الليل من معاني الوَحدة والوحشة، يقول الجاحظ: "إذا استوحش الإنسان رأى ما لا يُرى، وسمع ما لا يُسمَع" [الحيوان: تحقيق عبد السلام هارون، 250 بتصرف]. وما هذا الاستيحاش لدى الشعراء سوى نتاج ذلك التخييل الذي هو جوهر عمليّة الإبداع الشعري. وفي عنوان (خطوات على الأعراف) ما فيه من تلك الوَحشة التي يؤكدها النص ويقويها، حتى إنّها لَتكادُ تتشكل لا من الكلمات والصور فحسب، بل من الموسيقى الكامنة خلف الكلمات التي تمثل الموسيقى التصويريّة الحزينة في خلفية هذه القصيدة، وخلفية كثير من قصائد الديوان.
[1]() انظر: عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المُناصّ)، عبد الحق بلعابد، ص 86 – 89 ، الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، لبنان، ط1، 2008م.
[2]() انظر: في عتبات السرد النسوي، د. نجلاء مشعل، ص 398 ، المؤتمر الدولي الثالث للدراسات السردية ، الجمعية المصرية للسرديات ، كلية الآداب - جامعة قناة السويس، مصر، 2010م.
[3]() انظر: التأويل النحوي الدلالي لعتبات النص الشعري، د. محروس بريك، مجلة الكوفة، جامعة الكوفة، ع11، 2017م.
[4]() بلاغة السرد، د. محمد عبد المطلب، ص 22، الهيئة العامة لقصور الثقافة، سلسلة كتابات نقدية، 2001م.
[5]() انظر: السابق، ص 39.
[6]() السابق: ص 40.
[7]() مناورات الشعرية، د. محمد عبد المطلب، ص 78 ، دار الشروق، القاهرة، ط1، 1996م.
[8]() بلاغة السرد ، ص23-24.
[9]() انظر : شرح التصريح على التوضيح، الشيخ خالد الأزهري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، ج1 ص206، (دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1421هـ/2000م). ومغني اللبيب، ابن هشـام ، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد : ج2 ص516، (المكتبة العصرية ، بيروت ، 1411هـ / 1991 م) .
Comments