كاميليا عبد الفتاح: أسطرة الذات وتحولات الواقع - قراءة نقدية في ديوان "أُفسّرُ قلقَ الرّيح" للشاعر عمر هزاع
مصـــــر
لا يُعدّ عنوانُ الديوان– أو أيّ عملٍ أدبي أوفني- عتبةً، إلّا إذا انعكستْ دلالتُه الكليّة في الدلالة الجزئية لكل قصيدة على حدة، ومن ثمّ، في الوحدات الدلالية الصغرى لكل عنصرٍ، بأسلوب فني، سواءً كان هذا العنوانُ ابتكارًا من قِبَل الشاعر، أو كان مُستمدًّا من عناوين إحدى قصائد الديوان، وهذا ما اتّبعه الشاعر، الدكتور، عمر هزّاع، في ديوانه محلّ القراءة النقدية.
جاءَ عنوانُ الديوان- أُفسّرُ قلقَ الريح– جملةً فعليّة، تضمّنت طرفين، أحدهما: الريح التي جاءت في صورة قلِقة، والثاني: الشاعرالذي أعلن قدرته على تفسير قلق الريح. وقبلَ أن نبحث في الديوان عن طبيعة هذا التفسير، ودلالته، أشيرُ إلى ملاحظة مهمة هي أنّ اقترانه بصورة مجازية، هي قلق الريح، يجعل منه فعلًا شعريًا بامتياز لأنه في الحقيقة ليس فعلًا، بل سمة فارقة تميز الشعراء عن غيرهم من حيث الولع بتأمل الغوامض وطرح الرؤى فيما يشبه الحدس والنبوءة. وفق هذه الدلالة، يطالعنا "التفسير" في هيئاتٍ أخرى في هذا الديوان، منها: التأويل الذي ورد في الإهداء: "لمن أعجزهُ التأويلُ "، كما طالعنا في هيئة أخرى غير تقليدية، هي بنيةُ القصائد التي جاءت في صورة "حاشية" تتقدم على الــ "مَتن" في كسرٍ مدهشٍ لتوقع المتلقي والناقد، بما يرشّحها لقراءة نقدية مستقلة.
قلقُ الريح– وقلق الرياح- صورةٌ تترددُ في عدة قصائد، في هذا الديوان، بما يدفعُ إلى اعتبارها أحد العناصر الفنية المُؤسِّسة للرؤية التي طرحها الشاعر . من ذلك قول عمر هزاع – ص 95 - :
" كالنار ..
قد رُكِّبتْ على قلقٍ أرجوحةً..
والرياحُ قلقةٌ .."
وحين يصفُ العفريتَ، في قصيدة "صرفٌ على نحوٍ ما" – يشبهه بالريح القلقة، فيخاطبهُ قائلا:
" واثبتْ ..
وَقِفْ ..
قلقًا كالريحِ ما زلتَ، فَخُضْ في محيط النار، مبتلًّا، تجفْ .."
طرحَ الشاعرُ لهذه الريح هويّةً متفردة، فهي الواقعُ الذي استعصى على: الإدراك، التحمل، المواجهة. الريحُ، في رؤية عمر هزّاع، هي الواقع الذي تعملقَ وتأسطرَ متغولًا في اجتياح الذات والمكان والهوية. تطالعنا الريحُ بهذه الصورة في قصيدة "آيات القيامة"، في المتن لا في الهامش، يقول الشاعر في قصيدة "تحوُّل":
" المتن :
على قلقي ..
وليس على رُخَامة ..
تخُطُّ الريحُ آياتِ القِيامةْ ..
تفسِّرُها نبوءاتُ اليَتامى ..
ويااا .. ماا..!
نبَّأَ الأيتامُ..
ياا.. مَهْ !
بألَّا شيء للّا شيء يُعطي؛ إذا أدمنتمُ الذُّلّ ، الكرامةْ..
بأنّ الحربَ مكتوبٌ عليها:
لجوءٌ، خيمةٌ، غَرقٌ، قُمامةْ .."
الريحُ– في الموضع السابق– ذاتُ قدرة على تحديد المصائر واستحضار النهايات، بما يكشفُ للناقد عن سبب استئثارها بالمتن، لا بالهامش. وهي في قصيدة أخرى، تحملُ الدلالة الرمزية لشخصية زرقاء اليمامة، في مفارقةٍ ساطعة لرؤية الأخيرة، تختلفُ فيها هويّة الأشجار. يقول عمر هزّاع:
" تقول الريحُ:
لا أشجارَ ..
تمشي..
ولكن مشيكُم، حَيرى، علامةْ ..
ولا شُعَرا ..
لأنّ الشعر مبغىً يصيرُ ..
وأخمصًا ترتدُّ هامةْ ..
ولا أمجادَ ..
لا تاريخَ ..
لكنْ ..
بقايا الوهم ..
في مَحض انهزامة ..
تقولُ الريحُ: ( .. ) ..
لكنْ ..
مَنْ سيُصْغي؟
وهذا الرملُ بعرفهُم نعامةْ !
سيهزأُ من نبوءتِها رعاعٌ..
كما هَزِئَتْ؛ بزرقاء؛ اليمامة ..! "
إنّ المواضع السابقة، التي كشف فيها الشاعر عن بعض الملامح التي تمثّلت فيها الريح تمثلًا رمزيًا، تدفعنا إلى ملاحظة مدى التلاؤم والاتّساق الفني بين هذا التمثُّل وبين تأسطر الذات الشاعرة التي أعلنت عن تصديها لقلق هذه الريح بالتفسير والتأويل.
وقد ارتكز عمر هزاع في تصوير نزوع الذات الشاعرة إلى التأسطر على أسطورة "أورفيوس"، هذا الفنان الموسيقي البارع الذي امتلك موهبة، ذات سمتٍ إلهي، استطاع من خلالها أن يسحر الوجود بموسيقاه العذبة وغنائه، فظلّ هذا السحر خالدًا في قيثارته وألحانه بعد أنْ قُتلَ واُلقيَ رأسُه في نهر "هبروس". ووفق هذه الصيغة، "تحملُ أسطورة أورفيوس أبعادا دلالية رمزية للفنان- أو الإنسان– الذي يُصارعُ وجودَه وأقداره- ومجتمعه– غيرَ ممتنعٍ عن العطاء والتضحية رغم آلامه". وعلى الرغم من عدم ذكر "أورفيوس" ذكرا صريحا في هذا الديوان، إلا أنّه اُسْتُحضِر من خلال الإشارة إلى عدة تفاصيل تتعلق بسياقه الأسطوري. يقول عمر هزاع في قصيدة "أُفسِّرُ قلقَ الرِّيح":
"غدا.. أفسرُ ما بالريح من قلق ..
من بعد ما صرتُ؛ بالطعنات؛ مزمارا .."
لقد اتّخذ تفسير قلق الريح، في الموضع السابق، دلالة رمزية تمثَّلت في السطر الأخير منه، أعني قوله: "من بعد ما صرتُ؛ بالطعنات؛ مزمارا"، إذ اشتمل هذا السطر على أكثر من إشارة لأسطورة أورفيوس، منها: القتل غيلة، المزمار. يدفعنا هذا إلى رؤية نقدية مفادُها أنّ تفسير قلق الريح– في هذا الديوان– دفع الشاعر إلى استدعاء بعض الشخصيات الأسطورية، وأنّ استحضار شخصية أورفيوس– عبر الإشارات الدالة– يدل على أنّ تفسير قلق الريح لم يكن إلا بالغناء والقيثارة– في سياق الاستحضار الأسطوري– والمزمار الذي يرمز إلى الشعر. وفق هذه الرؤية النقدية ننظرُ إلى مفردة الغناء وما يتعلق بها، مثل: اللحن، العزف، وغير ذلك ممّا يُشكلُ معجمًا داخليًا في هذا الديوان، بصفتها مفردات تمّ ترميزها للدلالة على عملية التفسير التي وردتْ في عنوان الديوان. ووفقَ هذه الرؤية نُفسرُ الإشارات التي ترددتْ عبر أكثر من قصيدة إلى أسطورة "أورفيوس".
من مواضع الإشارات إلى أورفيوس قصيدةٌ أخرى تضمّن عنوانُها مفردة "الريح"، أعني "أَطْعِموا الريح رمادَه"، حيثُ امتزجت أسطورة "أورفيوس" بالاستدعاء الرمزي لشخصية النبي "داود" عليه السلام ، من خلال التناص مع قوله تعالى "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُدَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ" (سورة سبأ الآية ١٠ ). يقول الشاعرُ:
" فتىً رأى الشعرَ مصرَعَهُ..
فاستلَّ، للموتِ، أضلعَهُ..
وافترَّ عن ضحكةٍ ..
ثَبِتًا..
ومرَّ بي كي أودِّعَهُ..
فصحتُ بالأغنياتِ ، وقد تلعثمتْ:
أوّبي معهُ..
غدا ..
يعودُ الصدى..
رغما عنهم..
ونُصغي لنسمَعَهُ .."
اكتسى فعل الغناء، في الموضع السابق، ثراءً دلاليًا نتج عن تضافر الظلال الأسطورية لأورفيوس وفعل التأويب– المقدس– والظلال الدلالية للبعث المًضمر في عودة الصدى، والذي ينسجم مع الإشارة الرمزية إلى أسطورة البعث الكامنة في مفردة الرماد في عنوان القصيدة.
تترددُ هويّةُ المُغني في عدة قصائد أخرى، منها قصيدة "اليقين" التي تعرض الثيمة الدرامية الأساسية في هذه التجربة الشعرية، أعني الصراع بين المغني– وغيره من هويات الذات الشاعرة– والأغيار. يقول عمر هزاع:
" المارقون عن استحضار محبرتي ..
مرّوا ثقالا على أوتار حنجرتي .."
تطالعنا ثيمة هذا الصراع في قصيدة " أو ..كأني ":
" أيها الليلُ، لمَ خذلتَ المُغنّي ؟!
ولمَ اخترتَ أنْ تُحطّمَ دَنّي ؟! "
ويقول الشاعرُ في القصيدة ذاتها:
" أيها الليلُ ..
فلتدعْ صوتَ فنّي .."
ويقول في في قصيدة " المحبُّون " :
" يكفي بأني ، حين أكتبُ ، أنتمي ..
للحبِّ ..
للألحانِ ..
للإنسان .."
1- إنّ شيوع مفردة "الغناء" و "الأغنية" في هذا الديوان، لا تقتصر أهميته على مدى العلاقة الدلالية بينه وبين فعل التفسير في عنوانه، بل تمتدُّ إلى مسألة أخرى تتعلقُ بالتحول الدلالي الذي شهدته هذه المفردة في الشعر العربيّ المعاصر تحتَ تأثيرِ ت. س . إليوت ولوركا، حيثُ انتقلتْ من منطقة التعبير عن البهجة والهزج والتفاؤل إلى دلالة معقدة، مزيج من الفجيعة والأسى والسخرية (انظر: " القصيدة العربية المعاصرة، دراسة تحليلية في البنية الفكرية والفنية، د. كاميليا عبد الفتاح، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، مصر . 2007م، ص 292). ونشيرُ إلى موضع واحد اتّخذت فيه مفردة الغناء هذه الدلالة، وهو قصيدة " إلى اليقين "، حيث يقول عمر هزّاع :
فلنترك الوجعَ الممتدَّ أغنيةً لهم ..
ونُنشدُ عُسرًا حين ميسرة ٍ .."
هويَّات أخرى نسبها الشاعر لذاته مازجًا إيّاها بهوية المغنّي، وهي هويات متأسطرة من خلال: اقتدارها على عناصر الكون، ارتكازها على ضمير الأنا، تقديم سمات الأنا عبر صيغ المبالغة. نلاحظُ بعض هذه الهويات في قصيدته " ادفعي الباب ". يقول عمر هزاع:
أنا خازنُ الجمر وربُّ الشرر ..
وكزَّةٌ واحدةٌ تكفلُ أن تُضرمَ الألحان فوق الوتر
تُحرقُ الأخضرَ واليابسَ ..
في فكرة الصمتِ ..
وصمتِ الفِكَر ..
أنا ، للرؤية، نحَّاتُ رؤى ..
أخلقُ المعنى من المُستتِر .."
تُفضي بنا هذه الكشوف إلى التساؤل عن مدى التلاؤم بين نزوع الذات الشاعرة إلى التأسطر وبين دلالة التناص بين عنوان الديوان وبيت أبي الطيّب المتنبي:
على قلقٍ كأنّ الريح تحتي أُوجّهُها جنوبًا أو شمالا
ولأنّ المجال لا يسمح بتحليل قصيدة المتنبي التي اشتملت على هذا البيت، نكتفي بالإشارة إلى أنّه جزءٌ من مقدمة اغترابية وسَمَها المتنبي بطابعه الخاص: المجابهة والاعتداد بالذات وتأكيد القدرة على كل ارتحال وانفصال، إذ يسبق هذا البيتَ قولُه :
ألِفتُ ترحُّلي وجعلتُ أرضي قُتُودي والغُرَيريَّ الجُلالا
فما حاولتُ في أرضٍ مقاما ولا أزمعتُ عن أرضٍ زوالا
على قلقٍ كأنّ الريح تحتي أُوجّهُها جنوبًا أو شمالا
الرّيحُ في هذا السياق مطيّةُ ارتحال، أما في ديوان عمر هزّاع فهي الواقع الذي نزع أقنعته وكشف عن مراراته، وهي– في الوقت ذاته- القوى الميتافيزيقية التي تُجابه الذات الإنسانية بسطوتها. الريحُ في رؤية عمر هزاع هي كل سطوة طاغية استوجبت تأسطر الذات لمجابهتها.
يرتكز الديوان بصورة أساسية على توظيف أسلوب الحذف بما يشيرُ إلى أن المُضمر الدلالي يفوق المُعلن المُباح. ولعل من أجمل مواضعه ما يوجد في قصيدة "أفسرُ قلق الريح" ذاتها، إذ يطرح تعريفًا أو مفهومًا لذاته، أو يقدم ذاته، في الحاشية لا في المتن، عبر سلسلة من الجمل التي لا تحتفظ إلا بالأسماء الموصولة، دون تتمة للمعنى، ومن ثم يترك هويته مغلقةً غير معلنة. هذا ما أود أن أقوله: الشاعر يتعمد أن يقدم ذاته بصفتها ذاتًا مستغلقة، مضمرة من خلال أسلوب الحذف خاصة، وغيره من أساليب الأداء اللغوي، كأنه يحرصُ على طمس معالم الطرق التي يحاول الناقد أن يصل من خلالها إلى الكيفية التي فسّر بها قلقَ الريح:
" الحاشية:
لدقيقةٍ .. ظلِّي ؛ فقط ؛ لدقيقةِ ..
يُخبِرْكِ بيتاي ؛ اللذان ..( ..) ؛ حقيقتي ..
فأنا الذي .. ، وأنا الذي ( ..) ، وأنا الذي ( ..) ، وأنا الذي ..( ..) ..
وحدي ..
إمامُ طريقتي .."
الإحالات
2- الآية رقم 10 من سورة " سبأ " .
3- انظر: " القصيدة العربية المعاصرة، دراسة تحليلية في البنية الفكرية والفنية، د. كاميليا عبد الفتاح، دار المطبوعات الجامعية، الإسكندرية، مصر . 2007م، ص 292.
Comments