top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

لقد سحقني الشعر! هاني نديم - سوريا


الشاعر هاني نديم - سوريا
الشاعر هاني نديم - سوريا

شهادات

لقد سحقني الشعر!

لقد سحقني الشعر! هاني نديم - سوريا

باكرًا؛ شوّهتني الكتب وسحقني الشعر! أين أجد تلك الحبيبة الأسطوريّة التي يصفها الشعراء؟ اكتشفت بعد أن أصبحت واحدًا منهم، أن الشعراء يخترعون نساءهم وحبيباتهم، دون أي عدل واقعيّ، ولا نسق تقريبي.

أين أجد الحبّ؟ علمني عنترة أن "أغضّ طرفي ما بدت لي جارتي" وعلّمني ابن الفارض:

"هو الحب فاسلم بالحشا ما الهوى سهل

فما اختاره مضنىً به وله عقل"

لهذا كنت مستوحشًا جدًّا أول عمري، وهو ما جعلني ألجأ إلى الأيديلوجيات والأحزاب واليسار واليمين والنوادي التي لا قيمة لها.

هذا التشويش كان يظهر كالغول كلما حاولت التحدّث إلى فتاة، لم أكن أحاول أصلًا التحدّث إلى فتاة! ولهذا كان الذائع عني بين الصبايا الجميلات في القرية بأنني مغرور، بينما أنا أقل بكثير من مسكين! مسكين لا يعرف من أين تبدأ القصص ولا أين تنتهي.

هذا التشويش الذي صنعه الإبحار بين أمهات الكتب، أفلتني لاحقًا في خضم عشرين حبًّا في الدقيقة، أحببت كلّ امرأة صافحتني، والمؤسف أكثر أنهنّ أيضًا أحبنني!

تبدّل هذا الارتباك والتردد فجأة إلى انفتاح.. أحببت النساء جميعهنّ والسلام، صرت أفكك ألغام النساء كأعمى يقشّش كرسيًّا عند الظهيرة.. ودون انتباهة أصبحت شاعرًا. ولكن لم يكن لدي حبٌّ أول. كان هنالك سرب من طيور الفلامنغو لوّن أيامي ودفاتري وقمصاني.

لقد سحقني الشعر، أين هذا الرمح النوراني الذي يشق القلب شقّا؟ لم أجد حرقة الشعراء والشعر في كلّ أولئك الجميلات من حولي، ولم أجد الخوف والتهيّب من ركوب بحر الغرام! أين ما قاله إبراهيم ناجي: كأني ناظرٌ بحرًا وعاصفةً وزورقًا بالغد المجهول مرتطما..

ولمن سأكتب بعد الهجر ما كتبه أبو ريشة: لك ما أردت فلن أسائل كيف انتهت أعراس البلابل؟ سحقني الشعر وسحق كل النساء اللاتي أحببني!

والغريب أنني همت بأم كلثوم وأغانيها، أسمعها بشغف وشجى لا أستطيع وصفه، أسمعها وأتخيل امرأةً غير الخمسين من حولي! امرأةً شعرها أسود فاحم وطويل جدًّا، وعيناها غارقتان بالسواد المدهش وابتسامتها قريبة من ابتسامة سعاد حسني. لعل أول امرأة أحببتها كانت سعاد حسني!

المشكلة الأكثر تعقيدًا، أنه – على ما يبدو- كلما كان الرجل مضطربًا ازدادت النساء من حوله، لعلي مخطئ! ولكن كلما ازدادت مشاكلي مع فراغي العاطفي هذا الذي أردمه بقصائد غزل وسهرات هنا وهناك دون روح، كان يزداد وجود نساء جميلات جدًّا يحاولن بدورهن تفكيك هذا الحزن. أولم يقل أنسي الحاج: الحبّ زهرة الشفقة؟! ربما كنت أثير شفقتهنّ رغم كل ثباتي الانفعالي وأناقتي وهدوئي الذي لم يتغير. إلا أن النساء كما أقول في مكان آخر: الموت يخطئ والنسا لا تخطئ! نعم ربما كن يلمحن حزني وترددي وكآبتي التي رافقتني باكرًا رغم إجادتي للفرح والنكات والحكايا السعيدة.

حينما طُلب مني أن أكتب عن الحب الأول، ضربتني صاعقة كهربائيّة وقد تجاوزت الخمسين اليوم.. خفت وارتعدت من السؤال! لقد اكتشفت أنّني لم أحبّ هذا الحب "القاتولي" كما يقولون عنه في الشام رغم مئات الجميلات اللاتي تعشقهن الأرض تحت أقدامهن. بماذا سأجيب؟ هل سأقول إنني أحببت كل النساء وحسب؟

في كينيا مرّة، كنا نقوم بصناعة فيلم وثائقي، وكان معنا مخرج فرنسي في غاية الغرور، قال لي: علينا أن نترك مسافة أمان بين قلوبنا والعالم، درعًا، ساترًا ترابيًّا، حتى نتمكن من إتمام أعمالنا، أي، أن نؤخر ردات فعلنا حتى تنضج. إنني إنسانان، الأول أمام الكاميرا الملهمة والشرهة والمخاتلة، والإنسان الثاني بعدما أركب غطاء الكاميرا عليها وأضعها جانبًا ثم أتأمل ما الذي يجب أن أنحيه جانبًا.. قلت له الشاعر والقصيدة يشبهان ما ذكرت في بعض الأحيان. نظر لي باستنكار وقال: الشعراء دون قلوب!

اللعنة.. لقد سحقني الشعر، ولكن دعني أشرح الأمر. أقول:

يا لحزن الشعراء..

يكتبون قصائدهم

على ضوء امرأة بعيدةٍ بعيدة

غالبًا لا تجيء!

وإن أتت..

داست الأزهار في الطريق

وخرّبت أعشاش العصافير

ومزّقت القصيدة

 

الشعراء ليسوا بلا قلوب، بل قلوبهم أكثر هشاشةً من أن تأتي امرأة غاضبة من اللاشيء وتخرّب هذا العشّ الهش! نعم، ربما كنت أخاف أكثر من أنني دون قلب.. كنت أوزع هذا العشق كمن يصرف خمسمئة ليرة إلى صرافة.. وأوزعها بالتساوي حتى لا أشعر أنني سرقت!

 

أحببت ذات يومٍ شاعرةً.. تخيّل! شاعرةً حقيقية وعظيمة، قالت لي: أقترح أن تصبح مزارًا للعشق.. أنت أكبر من أن تغار وتعشق وتنظر إلى سفاسف الأمور.. إياك أن تحب امرأة من قلبك ثم لا تراك بعد أسبوع.. ستقضي عليها قضاءً مبرمًا.

 

هذه الجملة رافقتي طيلة عمري، بعد فترة الحب العشوائي القصيرة التي مررت بها.. صرت أخاف من أن أترك امرأة تحت المطر تنتظرني بحرقة وحزن، صرت أخاف أن أذهب بامرأة إلى شفا الجرف أرميها وأعود، صرت أسّطح الحب وأحوّله لصداقات مستدامة، وهذا ما صنعته فعلًا في حياتي.. لم أجرح امرأة، لم أهتك الورد على قميص إحداهن، بل لم أنظر لهن نظرة ريبة واحدة. لهذا ها أنا اليوم أمرّ في الشارع بسنواتي الخمسين، كلّ الجميلات يقلن لي: مرحبًا يا حبيبي!

 

 

٠ تعليق

Comments


bottom of page