top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

ما في الجبّة إلّا الذّكريات عبد الرزاق بوكبة ـ الجزائر


عبد الرزاق بوكبة ـ الجزائر
عبد الرزاق بوكبة ـ الجزائر

 شهادات

ما في الجبّة إلّا الذّكريات

ما في الجبّة إلّا الذّكريات عبد الرزاق بوكبة ـ الجزائر

هل تختلف لهفة العريس، الذّي تعوّد على أن يلتقي عروسَه، قبل ليلة الدّخلة، عن لهفة العريس، الذّي لم يتعوّد على ذلك؟ راودني هذا السّؤالُ وأنا أخطو، نحو عروسي ليلة 26 يوليو من عام 2008. ثمّ صبّتْ نخبةٌ من الأسئلة نفسَها على رأسي دفعةً واحدةً، فلم أدرِ هل أمنحه للعروس أم للأسئلة.

حاولتُ أن أتفادى صراعَ اللّحظة، بالنّظر إلى شريكتي الجديدة في الحياة، فتهيَّأتْ لي في شكل سؤالٍ أنيقٍ لكنّه حارق: هل سبق لك أن أحببتَ إحداهنّ قبلي؟

اعتذرت اللّغةُ عن وصف يدي، وهي تمتدّ إلى الشّاش لتزيلَه عن رأس العروس، فقد عقدتُ اتفاقًا مع لغتي، منذ إحراقي لمخطوطي الأوّل "أنثى الغيم"، في حديقة صوفيا بالجزائر العاصمة عام 2002، يقضي بأنّني لن أغفرَ لها إذا لم تعتذرْ عن عجزها في الإحاطة باللّحظات العميقة التّي أعيش، فأكتفي بالصّمت، تمامًا مثلما اتّفقت مع زوجتي في ليلتنا الأولى، على أنّ ارتباطنا المقدّس، لا يعني أن يُلغي أحدُنا ذاكرةَ الآخر. وحكيتُ لها عن "ب" حبّي الأوّل.

حكاية مرتبكة، لم أدرِ كيف أبدأ الحكاية. فاستعنتُ عليها بنسيان أنثاي القديمة، والتّركيز على أنثاي الجديدة. ثمّ تداخلت الأنثيان في رأسي المفخّخ بالأسئلة، فأحسستُ في لحظةٍ ما أنّني أُدخِلُ يدي إلى جوفي، وأستخرج منه قلبي لأعيد تحيينَه.

كان ارتباكًا شبيهًا تمامًا بارتباكي، حين تقدّمتُ نحو "ب"، خلال شهر أفريل من عام 1995، في ساحة الثانويّة بمدينة برج بوعريريج، لأخترقَ حجابَها وأقولَ لها إنّني أحبّك. من هذا الشّجاع ابنُ الشّجاع، الذّي يَجْرُؤُ على أن يقولَ ذلك لـ"ب"؟ لقد أعطت انطباعًا للجميع، منذ التحاقها بالثانويّة، أنّها لبؤة غيرُ قابلةٍ للاختراق.

 

نافستِ الجميعَ في المعدّل والجمال والحماس والهيبة والابتسامة المحرجة للعصافير والسّواقي والملائكة والخمائل والقصائد، التّي يكتبها شعراء اخترقوا الزّمن، فشاهدوا حوّاء وهي تقدّم التّفّاحة لآدم.

كانت خارجةً من مكتبة الثّانويّة. تحمل كتاب "جدّدْ حياتَك" للشّيخ محمّد الغزالي. فانتهزتُ الفرصة (أكره هذه العبارة) وسحبتُ الكتاب من يدها. هل كانت نيّتي أن أدسَّ رسالة قلبي إليها في الكتاب، أم لألمسَ يدَها؟

سأعترف بأنّ روحي هذه، التّي يحبّها البعض ويكرهها البعض، لا تفضّل غذاءً على الغذاء الذّي تمنحه لها الثّواني، التّي تلمس فيها يدي يدَ أنثى. كما سأعترف بطقسٍ مهبولٍ كنتُ أمارسُه، في الجزائر العاصمة، قبل زواجي، هو أنّني كنت أركب الحافلة أو القطار، بغضّ النّظر عن الوجهة، وأظلّ واقفًا في رواق العربة، حتّى وإن توفّر لي مقعد، فقط ليُتاحَ لي أن ألمسَ يدًا متشبّثةً بالعمود الحديديّ.

 

أسئلة الملاك الرّجيم

هل كنتُ سأتوجّه إلى كتابة القصيدة والقصّة الومضة لولا تلك اللّمسات؟ هل ورثتُ هذا الطّقسَ عن تلك اللّحظة الكهربائيّة، التّي لمستْ فيها يدي يدَ "ب"؟ وهي تتناول كتاب الشّيخ الغزالي؟ هل بادرتْ "ب" إلى سحب يدها كما كان متوقّعًا؟ هل راعى كلانا ما كان الشّيخ سيقوله عنّا، لو أتيح له أن يرى يدينا؟

هل أسعفني النّوم تلك اللّيلة، في مرقد الثّانويّة، إذ كنت تلميذًا داخليًّا؟ لقد أخفيت رأسي تحت الغطاء، ومنحت أذني للمذياع، حتّى ارتفع أذان الفجر. هل سمع من كان يُصلّون خلفي صوتي؟ لقد هَدَّهُ السّهرُ والخوفُ من أن تردَّ "ب" على رسالتي بالرّفض. هل شربتُ الحليبَ في مطعم الثّانويّة؟ لقد توجّهتُ إلى السّاحة مباشرةً، حيث ستطلع "ب". هل تذكّرتُ كلمةً واحدةً من القاموس، وهي تخطو نحوي؟ لقد مسحتْ خطاها ذاكرتي اللّغويّةَ، كما تمسح موجةٌ صبيّةٌ ما يخطّه صبيّ على رمل الشّاطئ، حتّى إنّي لم أقلْ لها كلمةً واحدةً، وأنا أستلم منها الرّسالة البتول. هل انضممتُ إلى الصّف، بعد أن دقّ جرس الدّخول؟ لقد هرولتُ إلى المرحاض. هل قرأت الرّسالة مرّةً واحدةً؟ لقد قرأتُها وقبّلتُها بعدد الكلمات التّي فقدتُها.

 

الرّسالة العضّاضة

كان يُمكن للمراقب العامّ للثّانويّة أن يتسامحَ مع تلميذٍ صَفَعَهُ، لكنّه لم يكن يتسامح معه، حين يتأخّر عن الصّف. رآني خارجًا من جهة المراحيض، فأطلق عليّ صرخة هشّمتْ زجاجي، قبل أن تصل إلي.

تيبّسْتُ في مكاني، مثل لقمةٍ في فم بَلَغَ صاحبَه خبرُ رحيلِ عزيزٍ عليه. أمسكني من أذني، التّي لم تعدْ تسمع شيئًا، وقادني إلى مكتبه. هل ثمّة أذن تبقى على قيد السّماع، بعد أن تسمع صرخة المراقب؟

في استراحة السّاعة العاشرة، سألتني "ب":

ـ ما بها أذنك؟

ـ عضّتها رسالتُك. (وحكيت لها ما حدث).

ـ إذا لم تصبرْ على قرصةٍ من المراقب العامّ للثّانويّة، فكيف ستصبر على تبليغ تعاليم المراقب العامّ لجماعة الإخوان المسلمين، في مسعى بعث الخلافة الإسلاميّة؟ إنّه شرطي الوحيد لأن نكونَ معًا.

تعاهدنا على ذلك. وكانت خطتنا أن نلتحق بالجامعة الإسلاميّة في قسنطينة، بعد أن نحصل على شهادة البكالوريا عام 1996، لكنّ طريقينا اختلفا تمامًا بعدها، ولم نلتقِ حتّى في المنام.

 

لحظة مكثّفة أولى

نزلتُ في مطار دبي، أواخر شهر أفريل من عام 2015. ورحت أبحث عن اسمي في اللّوحات، التّي تحملها فتيات آسيويات غارقات في ابتساماتهنّ، فإذا بي أقرأ في إحداها اسم "ب"، التّي لم ألتقها منذ صيف عام 1996.

لقد أحييتُ ذكراها في روايتي "ندبة الهلالي" عام 2012. كان لا بدّ أن أكتبَها حتّى أتحرّرَ من "وحشها" المتربّص بروحي دومًا، خاصّةً أنّني يئستُ من العثور عليها.

راهنتُ على ظهوري في الإذاعة والتلفزيون، ما بين عامي 2003 و2012، على أن يدلَّها عليّ. وكنت أحرص على أن يظهر إيميل البرنامج أسفل الشّاشة، لكن بلا جدوى.

لم أصدّقْ عينيَّ وهما تقعان على اسمها في لوحة الاستقبال، فسألت حاملتَها الفلبّينية، التّي أكّدت لي أنّها جزائريّة. وأنّها مدعوّة لإلقاء محاضرة، في ملتقًى يُعنى بالسّلوك الغذائيّ للإنسان المعاصر.

لم تأتِ.

 

لحظة مكثّفة ثانية

الثّانية بعد الزّوال. مارس 2019

كنتُ أصرخ في مسيرة الجمعة الثّالثة، من الحراك الشّعبيّ في برج بوعريريج. والحقَّ أقول إنّني تعمّدت أن أكونَ قريبًا من مربّع النساء، لأغذّيَ فخرًا عميقًا بحضورهنّ، فإذا بعينيّ تلتقطان مشهدًا لامرأةٍ كانت تغذّي حماسَ المتظاهرات، بشعاراتٍ غيرِ مستهلكة.

أليست هذه "ب"؟ يا لها من امرأةٍ لا تستقيل من التميّز! لكنّ "ب" التّي أعرف محجّبة، بينما هذه سافرة! "روحْ ليها وصقصيها يا رزيق". كانت لحظة لم تستوعبها اللّغة العربيّة الفصحى، مثلما لم تستوعبني الشّجاعة، فأذهب للتأكّد من كون المرأة هي "ب" أم شبيهةً لها فقط.

 

لحظة مكثّفة ثالثة

العاشرة صباحًا/ 02 رمضان/ 2019

سمعتُ طرقًا رحيمًا على الباب، دَلَّ على أنّه لأنثى. طلبتْ أمّ علياء منّي أن أفتح، فقد كانت تُطعمُ صغيرتَنا "خيال". لم يتردّد البابُ في الانفتاح. متى ننتبه إلى الصّعوبة، التّي تنفتح بها الأبوابُ في الجزائر؟ إنّها المرأة نفسُها، التّي رأيتها في المسيرة. لم أعدْ محتاجًا إلى التّحقيق في هوّيتها، فقد قامت ابتسامتُها بذلك. قالت إنّها مكلّفة بجمع المعلومات عن طبيعة أطعمة السّكّان، وسألتني عن اسمي.

ـ ألم تعرفيني يا "ب"؟

 

تهديد اللّغة

إيّاكِ أن تعجزي أيّتها اللّغة، عن رصد اللّحظة. سأرميك مثل قشور البطاطا في القمامة، إذا لم تسعفيني لأقول لها إنّني تخلّيت عن الحلم بعودة الخلافة الإسلاميّة، مثلما تخلّيتِ أنتِ عن حجابك.

نسيتُ أن أقول لها ذلك. ونسيتْ هي أن تسألَني عن طبيعة طعامي، إذ راح كلُّ واحدٍ منّا يحكي للآخر عن أولاده.

ـ أنا أب لأربع بنات.

ـ وأنا أمّ لابنتين بالتّبنّي.

ـ كم عمراهما

ـ أتتني كبراهما أمس وحدّثتني عن حبّها الأوّل.

 

 

 

٠ تعليق

أحدث منشورات

عرض الكل

Comments


bottom of page