top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

محمود حسن: القلق والذهنية المفرطة واللغة اليومية في الشعر المعاصر


محمود حسن - مصر
محمود حسن - مصر

محمود حسن: القلق والذهنية المفرطة واللغة اليومية في الشعر المعاصر

لا يمكن أن يُحدث منتج الكتابة غيرُ المخلوط بالألم اللذيذ أو غير اللذيذ أو بالجرح النافذ والغائر حالة مزاجية وانفعالية لدى المتلقي، بل إذا لم يصادف منتج الكتابة جرحًا أو ألمًا موازيًا لدى المتلقي، ولو حتى بالتأثير الروحي واللفظي أو بما يشبه التنويم المغناطيسي للمتلقي كأن ينجح الكاتب في أن يتلبس المتلقي فيضع لسانه مكان لسانه وسمعه بدل سمعه وحاله بدل حاله.

هنا تبرز الحاجة إلى منتج إبداعي فيكتب صاحب تجربة وألم وقضية ويصادف ذلك أرضًا يهبط فيها إبداعه ولا يظل معلقًا ما بين السماء والأرض، وإلا فالأمر كما قال (ت. إس. إليوت) في رائعته الرجال الجوف :

(أشكالٌ بلا هيئة، وظلالٌ بلا لون

قوى مشلولة تومئ بلا أدنى حركة)


قلق الوجود الشعري

لا شك في أن قلق الوجود الشعري، والموقف الإنساني والثقافة والرؤية كلها عناصر تشكل البنية الأساسية لبقاء النص وفاعليته وتوالده إن جاز التعبير.

" فقلق الوجود عند المثقفين والفنانين والأدباء عامة والشعراء على نحو خاص هو قلق إبداعي خلاَّقٌ ومُنتِجعلى مستوى الثقافة والرؤية، فالثقافة والرؤية مصدران أصيلان من مصادر تموين النص الشعري بالكثير من مقوماته الفنية والفكرية والحضارية، ومن دونهما يبقى النص الشعري نصا ارتجاليا لا يمكن له أن يدوم طويلا في مجتمع التلقي على مختلف طبقاته، وكلما كانت الثقافة والرؤية عند الشاعر على أعلى درجاتها فإن ذلك ينعكس على القيمة الإبداعية والفنية والجمالية والثقافية للنص الشعري، فبالثقافة يرتفع مقام النص الشعري نحو أعلى مستوى ممكن بوصفها مرجعية لا غنى عنها، وبالرؤية يتحول النص الشعري إلى نص يحتوي على مقولة وقضية ولا يعمل في حدود الفراغ (1)




الدهشة:

ولعل أهم عامل من عوامل إتقان لعبة الإبداع - إن جاز التعبير - هو الدهشة، فمن لا يُدهَش لا ينتج إبداعًاومن لا يُدهِشُ صار منتجه كلامًا كأي كلام ..والدهشة ليست حكرًا على عملية الكتابة الشعرية أو القصصية أو على جنس من أجناس الإبداع (لحظة اقتناص الفكرة والدخول إلى المحراب فحسب)، ولكن الدهشة تكون في تناول الناقد للنص، فلا بد أن يدهِش الناقدُ أولًا المبدع في أن يتلصص حول نصه ويدخل بمفتاح الماستر كيي إلى قلب المبدع وينبش في خلفيته الثقافية والفكرية ليقنص ما وراء النص والأتموس فير

‏ATMOSPHERE

الذي يصاحب عملية الإبداع.. ثم يدهش الناقدُ القارئ العادي بأن يضع بين يديه ما هو في النص ولم يصل إليه كقارئ عادي دون أن يفتئت على المعنى الذى ذهب إليه المبدع بقصد أو بغير قصد (نعم قد يذهب الشاعر إلى معنى أو حالة لم يكن يقصدها مباشرة، ولكن تلبسته روحٌ ــ ما ــ فكتب بقصد أو بغير قصد بل (وكتب عن وعي وعن غير وعي) وهذا لا يصل إلى كُنهِه إلا الناقد ، بل الناقد الذى يملك أدواته ويستطيع أن يقف أمام النص غير هيَّاب، ولا ترزيا - كما يقول حجازي عن ترزية النقد - وأن يجمع بينهما أي النص والنقد جمع توفيق لا جمع تلفيق، كما يقول الدكتور محمد عبد المطلب ( ٢)

في تطور يتجاوز النقد المدرسي والتعليمي الجامد الذي يرتكب جريمة عرضه بعض مدرسي الأدب ليقتلوا الرؤية والرؤى في مخيلة طلابهم؛ مما ينتج أزمة نقدية متصاعدة ومتزايدة في المشهد النقدي الأدبي العربي .


القصيدة العمودية ودهشة اللحظة:

تطربني القصيدةُ العربية الكلاسيكيةُ حدَّ الثُّمالةِ، خاصة في هذه السنوات الأخيرة التي قفزَ بالقصيدةِ فيها شعراءُ مجيدون، وارتادوا مناطقَ جديدةً بها، ومن خلالها؛ لكني أقرأُ النصَّ بعد ذلك مرةً ومرتين وثلاثًا، فأسأل نفسي: "وماذا بعد؟"

وغريبٌ جدًّا هذا الحادثُ معي، فهل تطربني قصيدةُ العمود لحظةَ تماسِّها مع أذني وربما قلبي، ثم حينَ أعرضُها على عقلي لا تُشبعُهُ؟، وماذا إذن نريد من الشعر؟ إن لم يكن مُدغدغًا للحاسَّتين الأوليَيْن (الأذن والقلب)؟! ثم هل نحن نحتاج لإشباع العقل إلى تواتر الذهنيةِ في النص؟! ثم ألسنا الذين نادينا بأعلى صوتنا حين غرَّب وألغزَ وعمَّى شعراءُ التفعيلة، ثم شعراء النثر، أو بعضُهم قصائِدَهم، واتَّهمنَا هؤلاء، وأولاء، بأنهم صرفوا الشعرَ عن الناسِ، وصرفوا الناسَ عن الشعر؟!، ثم هللنا للعموديين الذي أعادوه للناس وأعادوا الناس إليه، حَيْرةٌ كبيرةٌ، ربما بعد جهد ولأواءٍ كبيرين؛ نكتشف أننا بحاجة دائمةٍ إلى التغيير والقفز والتجريبِ. التجريب لغةً، وصورة، وموسيقى، وخداعًا في بعض الأحيان، والمعنى مطروح في الطريق كما قال الجاحظ، أستمعُ إلى شاعرٍ عمودي كبير، ذاع صيته في الأوساطِ المصرية، والعربية؛ فأجده كما هو شامخ المعنى واللفظِ مزوِّجا كلماتٍ لم تقترن من قبل، ثم أعود إليه في مجمل أعماله؛ فأراه هو هو لم يتغير، ولم يحدث فارقًا بين نصوصه، ولم يتمنطق سيفًا غير سيفه، حتى إنني ألمحُ آخر القصيدةِ من أول خيطها لأنني قرأته قبل ذلك مراتٍ ومرات، ولا أنكرُ أنني أنتشي وأميل يمنةً ويسرةً، ثم أفعل كما فعل العقاد "أعود لبيتي أفكر فيما قال فلان فلا أجده شيئًا".


أحمد شوقي
أحمد شوقي

وأعودُ أتساءلُ: لماذا عَلِقَتْ بذهني قصيدة مثل (بلقيس) لنزار قباني، وقصيدة مثل (سجل أنا عربي) لمحمود درويش رغم المباشرة في كليهما؟ وقصيدة (الأرض اليباب) لـ (تي إس إليوت)؟ ويتَّسِعُ السؤالُ حين أجدني متقمصًا "هاملت أو ماكبث أو تاجر البندقية" للعظيم (وليام شكسبير) مسرحًا شعريًّا، أو "مأساة الحلاج، والأميرة تنتظر، ومسافر ليل" أيضًا مسرحًا شعريًّا لصلاح عبد الصبور؟ وأتساءل نفس السؤال: لماذا لا تغيب عني رائعة نجيب سرور (الحذاء) والتي يقول فيها:

" أنا ابن الشقاء ربيب الزريبة والمصطبة"؟!!

ويتسع السؤال، لماذا تعلق بذهني حتى الآن رائعةُ الشاعر (الحطيئة) أحد أبرز شعراء ما قبل الإسلام، ولا أقول الشعر الجاهلي "هذه التسمية التي لا أحبذها " وسبق أن ناقشت ذلك في إحدى دراساتي. حين سك رائعته "وطاوي ثلاثٍ عاصبِ البطن مرملٍ/ بتيهاء لم يعرف بها ساكنٌ رسما "وهي القصيدة العمودية القديمة الكلاسيكية ، وحتى الآن؟



محمود درويش
محمود درويش

هل لأن كلَّ هذه النماذج التي ذكرتُ تُغلِّفُها الدراما، ويتخللها السردُ، وتتداخل فيها الأسطورة، وتنساب اللغةُ، وتبرز الصورةُ حتى تتقرَّاها بلمسِ على حد تعبير الشاعر العباسي العظيم "البحتري"؟ هل هذا هو السبب، وهل تستطيعُ اللغةُ أن تنسابَ هادرةً، وتصعد ثائرةً، بخمارٍ كانت أو سافرةً، رامزة، أو مباشرةً؟، لكن يحكم هذا كلَّه السياقُ، وخبرةُ الشاعر ودُرْبتُه، وإِرثُه الثقافيُّ والحضاري؟

ذلك ما استطاع الشاعر أن يعرِّج على ثقافاتِ الآخرين، ويمزجَها بثقافتهِ، ويجمع بينها جمعَ توفيقٍ، لا جمعَ تلفيقٍ، على حد تعبير الدكتور محمد عبد المطلب مرة أخرى، أقول هذا؛ وتظل ماثلةً أمامي تجربة شاعر الهند العظيم (طاغور) وتأثره بالثقافةِ العربيةِ، والتصوف الإسلامي، وكذلك تأثُّر أعظمِ شعراءِ أوروبا (وليام شكسبير)  بالثقافة والتاريخ العربي، وأيضًا تأثر شعراء المهجر بثقافة أوروبا وأمريكا.

 

صلاح عبد الصبور
صلاح عبد الصبور

أو حينما أمر (الخديوي توفيق) بسفر (أحمد شوقي) إلى فرنسا في بَعْثَةٍ علمية؛ فتأثر بشعراءِ أوروباعامةً، وشعراء فرنسا خاصة أمثال (راسين) و (موليير) وغيرهما وعاد لنا بمزيجٍ من الثقافتين، واستورد المسرحَ الشعري في الأدب العربي بشكله الكامل"وإن سبقته محاولات" ثم جاء بعده (عزيز أباظة)  ليتفوق على أستاذه شوقي، يقول الدكتور أحمد درويش: "ولقد كان لأمير الشعراء أحمد شوقي على نحو خاص، ولع كبير بالثقافة الفرنسية وتمثُّل لها وتأثر واعٍ وإيجابي وعميق بتياراتها، وتحول هذا التأثر إلى تطوير حقيقي للشعر العربي، وهو تطوير امتد من شعر شوقي نفسه ليشكل تيارًا عامًّا في النتاج الشعري العربي، انطلاقًا من مكانة شوقي، وعظم تأثيره في جيله والأجيال اللاحقة له" (3)

أقول هذا، وأنا دائمُ الرغبةِ أن تضربني القصيدةُ، بأي شكل كانت؛ لتخلعَني من مكاني، وتدفع بي إلى أتون بركانٍ مرةً، وإلى مجرى نهرٍ مرة أخرى، وإلى معركة، أو جلسة عاشقين، أو مأساةِ متسوِّلٍ، أو صرخةِ مكلوم، أو سيمفونيةٍ موسيقيةٍ، أو غيابٍ وحضور،ٍ وتماهٍ، وانعتاقٍ، مرة ثالثة، أو قصة أو أسطورة مرة أخرى.

وما زالت الأسئلة تحوم حولي، ولعلها تصادف إجاباتٍ أو شبهَ إجابات؟


اللغة الشاعرة واللغة المعجمية:


ثم تأتي اللغة التي هي الحاضن والإطار أو الرحم الذي تسقط فيه الفكرة (النطفة) ويتمّ الإخصاب، فإن توافقت الجينات وتعارفت بدأ الجنين (المنتج) يتخلق طبيعيًا من دون أية تشوهات.ولا بد هنا من الفصل بين اللغة الشاعرة واللغة المعجمية:

فلا شك يتفوق الشعر عند هذه الطبقة من الشعراء الذين تكون لغتهم على علاقة مباشرة وحميمية بالشعر،على عكس أولئك الذين تكون لغتهم على علاقة مباشرة بالمعجم وحسب ( 4 )

وهنا نعود مرة أخرى إلى (ت. إس. إليوت)

"حيث كان (إليوت) واحداً من أكثر الشعراء جرأة وإبداعاً في القرن العشرين. سار وفق منهج شعري رصين يتمثّل في رؤيته إلى أن الشعر ينبغي أن يستهدف تمثيلاً حقيقياً لتعقيدات الحضارة الحديثة في اللغة، وهذا التمثيل بالضرورة يؤدي إلى صعوبة الشعر. وبالرغم من صعوبة رؤيته إلا أن تأثيرها على الحركة الشعرية اكتسح جميع التوقّعات وقتها وحتى اليوم “. ( 5 )


ومن الطبيعي عندما يضيق الأفقُ، وتنحسرُ الفكرةُ، ويُمَجُّ الكلامُ، قد يلجأ الشاعر إلى المعجم؛ فخمهِ ورنَّانهِ، وإلى الموسيقى؛ بحرها وقافيتها، ليقدم وجبة ساخنة، لكنها غير مضبوطة المقادير، تمامًا كما يلتهم الجائع طعامًا ساخنًا معجنًا مثلا، على خلاف الذي يتناول طعامه في وقته، فإن صُنِعَ من دون دُرْبةٍ؛ اكتُشفَ النقصُ فيه.

وإذا نبا المعنى، أو كانت القافية ناتئة، عن البيت؛ فلا شعر ولا شاعر، وإن أخذَ الأذنَ معنى منسابٌ، وعبارةٌ هامسةٌ، أو متفجرةٌ، حتى وإن تأخرت الموسيقى داخليًّا أو خارجيًّا، أو تباطأت القافيةُ، فمن المستحيل أن يغطَّ المتلقِّي، وهنا يكون شعرٌ وشاعر.

إلا أنه من يستطيعُ تجاوزَ عيبِ الأولِ، وبلوغَ ميزةِ الثاني، داخل لغةٍ فخمةٍ وموسيقى سليمة بنوعيها، وفكرةٍ ممتدَّةٍ؛ فإنه هو، وإنهم قليل.

على أنه إذا اجتمع الخبراء أو المتخصصون، لوضع معايير ثابتة؛ خالف هذا طبيعة الإبداع الشعري؛ لأن هذا قد يكون في القانون، يجتمع الشيوخ لإخراج الصيغة النهائية، أو في المحاسبة، والهندسة، وغيرها من العلوم الطبيعية، وليس في الأدب (غير أن هذا قد يصلح للرواية والمسرحية في بعض أركانها .. وليس القصيدة).

فلا معايير ثابتة، وقد ينسف نص جديدٌ كل ما اتفق عليه من معايير.

والنص الذي يستعصي على الثابت، طارحا عروضًا جديدة حمَّالة أوجه؛ نص مفتوح الدلالات، وفاتح.

 كنص غيمة للشاعرة دينا الشيخ:

ستعصرك الغيمة المصطفاة

نبيذًا يعمِّدُ كل الجهات


يعلِّمكُ الضوءُ أسرارَه

وتغرق في النور حدَّ الممات


ستجهش من حكمة العارفين

وتخلع ذاتك في كل ذات (6)



اللغة اليومية و تداعيات تصلب رأي الأستاذ العقاد

كانت اللغة اليومية التي ضمنها أحد أبرز رواد مدرسة الشعر الحر صلاح عبد الصبور، شَقَّا لرافد جديد يصب في نهر الشعرية العربية، ولا شك في أن البداياتِ تكون في شكلها الأوليِّ، الذي بالتأكيد سوف تطرأ عليه تشكيلات ونماذج أكثر تطورًا، ربما تجاوزه، لكن تظل شعلة البداية منحوتة وهي في كف حاملها الأول على جدارية الأولمبياد الأدبي (إن جاز التعبير).

وكان تأثير هذه اللغة اليومية لـ عبد الصبور وردَّة فعل العقاد عليها تمامًا كتأثير القنابل العنقودية، التي تنتقل من شكل إلى شكل.

ولو عرضنا لنموذج من هذه اللغة لعبد الصبور مثلًا يقول:

يا صاحبي، إني حزين/ طلع الصباح، فما ابتسمتُ، ولم ينر وجهي الصباح

وخرجت من جوف المدينة أطلب الرزق المتاح/ وغمست في ماء القناعة خبز أيّامي الكفاف/ ورجعت بعد الظهر في جيبي قروشْ/ فشربتُ شايًا في الطريق

ورتقت نعلي/ ولعبت بالنرد الموزّع بين كفي والصديق (7)

حين عُرض شعر عبد الصبور على العقاد أحاله للجنة النثر، ليس لأنه تخلص من الشكل الخليلي في صورته الكلاسيكية وحسب، ولكن لأنه يحمل لغة الشارع اليومية، ومن عجب أن العقاد كان يطالب بهذه اللغة اليومية في تقيلده و"تأثره الشديد بدعوة (وليام وردزورث) الشعرية؛ إلى استخدام لغة الحياة اليومية، وإلى إيمان العقاد بتغليب المعنى الشعري على أغراض القصيدة الأخرى.. وكذلك تأثره الشديد بمقدمة ديوان "الأغاني الشعبية" لـ (وردز ورث)، كما ذكرت هيام الخولي في كتابها مفهوم الشعر والشاعر".

كانت القنبلة الأولى من هذه القنابل العنقودية:

هي ما فعله شطر كامل من شعراء السبعينيات، على خلاف عبد الصبور وجيله الستيني؛ فقد تمسكوا بقصيدة الشعر الحر تمسكًا كبيرًا، لكنهم شطَّوا بعيدًا عن استخدام اللغة اليومية، ونزعوا إلى التغريب والإبهام والإلغاز، وقد ذكرت هذا في أكثر من موضع ومقال منشور، فتحملوا جريمة انصراف الناس عن الشعر، وقد يجدر بنا هنا أن نستخدم تعبير حسام عقل حين قال: "عاقبهم الجمهور وانصرف عن الشعر".

وهنا لا بد من نقطة نظام "فلقد استخدم عبد الصبور أعلى طبقات اللغة تعبيرًا، وفخامةً، ومعايشةً، ومنطقًا، وإدهاشًا، من دون مباشرة، ولا تعمية، في مسرحه الشعري وخصوصًا الحلاج والأميرة تنتظر".

على أن شطر السبعينيين الآخر، خطا بالقصيدة العربية خطوات بعيدة كما فعل حسن طلب مثلًا ومحمد محمد الشهاوي وغيرهما، لكن ظلَّ هذا الشطر في ظل انصراف الناس عن الشعر يرسم فوق الماء، إلى أن آزره شعراء الثمانينيات وأخذ بيده وأعاد الجمهور إلى الشعر؛ فعاد إليهم وإلى هذا الشطر من شعراء السبيعينات.

ولأن القنبلة كانت عنقودية، فقد نتج عنها قنبلة أخرى، وهي هذه القنبلة التي أطلقها شعراء ما يسمى بقصيدة النثر، فلقد ملك شعراء التفعيلة الموسيقى الخارجية، المتطورة، من بحور الخليل، غير منبتِّين بالكُليَّة عن أوزان الشعر العربي.

وكان هذا بمثابة التطور الطبيعي، بيد أن شعراء ما يسمى بقصيدة النثر؛ لم يحملوا معهم الموسيقى الخارجية، وإن اقتنعوا وحاولوا أن يقنعوا المتلقي أن إنتاجهم يحمل بين طياته الموسيقى الداخلية (وقد صدق أقلُّهم).

الذهنية المفرطة والتعمية:

لم يكن أمام كُتَّاب ما تُسمى بقصيدة النثر، في ظل غياب الموسيقى، وطغيان نثرية اللغة؛ إلا اللجوء إلا التعمية والطلسمة، حتى ربما عُمّيت القصيدة على صاحبها، وربما سأل نفسه: ماذا يقصد بما كتب؟ ولم يجد إجابة عن سؤاله، بل ودارت المطابع لتقذف إلى السوق حممًا من هذه المؤلفات، وانحازت كل الدوريات تقريبًا إليها، لا عن ثقة في منتجها ولكن لأنها كانت "الموضة".

ليس هذا فحسب، بل صدَّر كتُّاب ما سُمي بقصيدة النثر خطابًا هجوميًّا؛ يتهم المتلقي بعدم قدرته على فهم ما أسموه بالحداثة، والأغرب أن بعض جمهور المتلقين صدَّق هذا عن نفسه، والأشد غرابة أن مبدعين كبارًا تنحَّوا عن الساحة كتابةً، وإبداعًا، ونشرًا، وتفاعلًا، وصدَّقوا أن زمان القصيدة العربية بأطرها الكلاسيكية والتفعيلة قد ولى واندثر، ودَلُّوها على مدافن الألفاظ، على حد تعبير الجاحظ، إلى أن جاء شعراء التسعينيات وما بعدهم؛ فقدموا قصيدة عربية باذخة في إطارها الكلاسيكي والتفعيلي، لم تتحجر لغتها، ولا استنسخت جمود الماضي، ولا أغرقت في المباشرة، ولا تزلفت الغموض والتعمية، فعاد شعراء ما سُمي بقصيدة النثر؛ إلى حيث يقدمون منتجًا تخلى عن الموسيقى غالبًا، لكنه لم يتخلّ عن الصورة، والمعنى البكر، الجديد المعاصر، والمحايث، والمدهش في غالبه، كي لا تزيحه القصيدة العربية الكلاسيكية الحديثة، إلى حيث لا جمهور ولا عودة، وقد نجح في ذلك كثير منهم.

الصورة أهم مُكَوِّن

 إن الصورةَ هي أهمُّ مُكَوِّنٍ من مكوناتِ القصيدةِ، لكن حين يزدحمُ النصُّ بالصورِ في غير مكانٍ؛ تصبح عبئًا على النص، ويصير كما قال بعضهم عن بعض قصائد محمود حسن إسماعيل "غابة من الصور" أما إذا كانت الصورة غير ناتئة عن جسد القصيدةِ، وتلمس سطح القصيدة فتحس نعومة الملس، رغم اختلاف صوت الريح، وحجم النحت والتشكيل فيها، وكأنك تلمس صورة ثلاثية الأبعاد، من فوق لوحِ زجاجٍ بلّوري شفافٍ؛ فقد نجح الشاعرُ وأبدعَ وتفرَّد.

هذا وسنظل نقول: إنَّ تصارع الأشكال الأدبية، وتجاوها وتزاوجها؛ هو الطريق الوحيد إلى التطور، والبقاء والجودة، وكلما اتسعت ثقافة الناقد وأفقه المعرفي والإنساني؛ ازداد تصالحه مع جميع الأشكال الأدبية.

.......................

١ : التجربة الشعرية من الرؤية إلى الموضوع ساجدة عبد الكريم خلف أ . م . د. كلية الآداب/جامعة تكريت العراق.

٢ : أ د / محمد عبد المطلب في كتابه (النقد الأدبي)


3: د: أحمد درويش: من مدونته {الظمأ للمعرفة .. المقالات ٣٠ مارس ٢٠١٧}.

4 : الناقد والشاعر المصري د / عبد الحكم العلامى .

6: الشاعرة السودانية دينا الشيخ ديوان (عرش لبلقيس) دار موزاييك للدراسات والنشر.

5 : مدونة الكاتب والمترجم السعودي د/ شريف الشهراني 30/7/2012م

 6: صلاح عبد الصبور من ديوان الناس في بلادي 1957م


٠ تعليق

Comments


bottom of page