منتصر نبيه: أولية اللغة العربية والشعر العربي
لعل الحديث عن أولية الشعر العربي وما سبقها من أولية للعربية الفصحى يحيلنا إلى مرحلة صامتة من مراحل التاريخ الإنساني في حياة العرب وما يرتبط بها من ثقافة وعلوم ولغة وأدب، ومن ثم فإن تلك المرحلة تطرح بعض الأسئلة المتعلقة بالبعد الثقافي لأزمة البدايات وإشكالاتها، والتي يجب الوقوف عندها لكونها تمثل المدخل الحقيقي لطرح هذه القضية، وبحثها بشكل علمي صحيح يستجلي قضاياها الغامضة، ويقارب بين اتجاهات بحثها، إذ يمكننا أن نتساءل منذ البداية: كيف نشأت اللغة العربية الفصحى؟ وكيف كانت أولية الشعر العربي؟ وهل حقًا كان سيدنا آدم عليه السلام هو أول من نطق بالعربية على مرجعية أنه نزل من الجنة إلى الأرض، وأن لغة أهل الجنة هي العربية، وذلك قبل حديثه بالسريانية التي تحدث بها عندما نزل إلى الأرض؟ أم أن سيدنا إسماعيل عليه السلام هو أول من ترك لغة أجداده وتحدث بالعربية؟ أم أن يعرب ابن قحطان هو أول من فُتق لسانه بالعربية؟ وهل العربية الفصحى نشأت وتكونت من عدة لهجات عربية قديمة كانت تضمها شبه الجزيرة العربية؟ ثم ما هي العلاقة التي تربط ظهور العربية الفصحى بأولية الشعر العربي؟ وكيف كانت هي البدايات الأولى للشعر العربي؟ هل حقًا ظهر -كما يذكر بعض المؤرخين- من الأناشيد والأغاني الدينية القديمة؟ وهل كان لسجع الكهان دور في ذلك؟ أم أن البدايات الحقيقية تمثلت في الرجز الذي ارتبط بحداء الإبل في الجاهلية؟ وهل كان السجع هو البدايات الحقيقية لكل ذلك؟ أم أن الشعر العربي -كما ذكر كثير من المستشرقين- استمد أصوله الأولى من شعر اللغات السامية القديمة؟ ثم من أول من نظم شعرًا من العرب؟ ومن أول من أنشأ قصيدة مكتملة فنيًا؟ وما هي علاقة النقوش المكتشفة عن اللغة الفصحى بأولية الشعر العربي؟
ولمّا كانت تلك الطروحات الثقافية السابقة هي نقطة الانطلاق الحقيقية نحو التأمل والبحث فإننا في الحقيقة يجب أن نتوقف عند كل مسألة، وأن نتتبع كل رأي حتى نطمئن إلى حقائق نهائية تجاه تلك القضية، وإن كان ذلك محض مخاطرة غير مأمونة العواقب، فقد تعددت الآراء، وتشعبت الاتجاهات، ويمكننا أن نؤكد منذ البداية أنه لم تصلنا من أواخر القرن الخامس وأوائل القرن السادس الميلاديين أخبار، ونقول مؤكدة يمكن التعويل عليها في الوصول إلى حقائق يقينية عن نشأة اللغة العربية الفصحى، وما تبعها من ظهور للشعر العربي، ولكن معظم آراء المؤرخين تؤكد على أن تلك الفترة كانت هي البداية الحقيقة لأولية تكوين الفصحى من اللهجات العربية القديمة السائدة آنذاك: اللهجة الثمودية: نسبة إلى قوم ثمود الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم، والتي وجدت في مدائن صالح ببلاد الحجاز، وطور سيناء بمصر، واللهجة اللِّحيانية: نسبة إلى بني لحيان في منطقة دادان شمالي الحجاز، واللهجة الصفوية: نسبة إلى جبل الصفاة في شرقي حوران التي تمثل المنطقة الجنوبية من سوريا، واللهجة الحساتية: نسبة إلى الحسا على الخليج العربي، وقد كانت جميعها تمثل لهجات جنوب شبه الجزيرة العربية، ثم اللهجة النبطية التي سادت في شمال شبه الجزيرة العربية، وتحديدًا في البترا جنوب الأردن، وتدمر في سوريا.
وقد تأثر عرب الشمال منذ القدم بالحضارة الآرامية في أقاصي الشمال، وأخذوا عنها الكتابة واللغة، واستقروا في بلادها، ولكن سرعان ما تغلبت اللهجات العربية على اللغة الآرامية، وظهرت النبطية التي كانت قريبة الشبه من العربية الفصحى، رغم ما تخللها من بعض الكلمات الآرامية.
ومن هذه اللهجات العربية القديمة تكونت اللغة العربية الفصحى، وإن كانت اللهجة النبطية التي كان يتحدثها عرب الشمال هي الأقرب إلى الفصحى التي ظهرت في قريش وقبائل شمال الحجاز، وهي التي مثلت فصحتنا العربية التي نزل بها القرآن الكريم فيما بعد، حيث يعد نقش (النمارة) أو ما يعرف بنقش امرئ القيس الذي اكتشفه دوسو وماكلر سنة 1901م بقرية النمارة بجوار جبل العرب بسوريا من أقدم النقوش التي نقلت لنا اللغة النبطية الشمالية التي تطورت بعد ذلك إلى العربية الفصيحة التي نعرفها اليوم، والتي تظهر في نقش النمارة كما في الشكل التالي:
فهذا النقش هو شاهد قبر امرئ القيس بن عمرو أحد ملوك المناذرة بالحيرة، والذي يؤرخ لسنة 382م، وهو مكتوب بالخط النبطي المتأخر، وجاء نصه كما أورده الدكتور شوقي ضيف في كتابه: تاريخ الأدب العربي، العصر الجاهلي، ص39: (تي نفس بر عمرو ملك العرب كله ذو أسر التج، وملك الأسدين ونزور وملوكهم وهرّب مذحجو عكدي وجا، بزجى في حبج نجران مدينة شمر وملك معدو ونزل بنيه الشعوب ووكلهن فرسو لروم فلم يبلغ ملك مبلغه، عكدي هلك سنة 223 بكسلول بلسعد ذو ولده)، وهذا النقش أتت كلماته جميعها عربية خالصة ماعدا كلمة (بر) الآرامية بمعنى ابن، وقد جاءت هذه اللغة كمرحلة متأخرة من مراحل العربية الفصحى.
وقد سادت العربية الفصحى بعد ظهورها والتي أصبحت لهجة قريش بعد ذلك في كافة أنحاء الجزيرة العربية، وانتصرت على كافة اللهجات العربية الأخرى، إذ يرجع بعض المؤرخين السبب في ذلك إلى مكانة قريش الدينية والتجارية والثقافية قديمًا، ومن ثم استطاعت أن تفرض لهجتها على كافة اللهجات الأخرى، وذلك كما يقول المستشرق الألماني إيفالد فاجنر في كتابه أسس الشعر العربي الكيلاسيكي، ص77.
وفي البحث عن بدايات التحدث باللغة العربية يروي ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء، ص9 بعض الأخبار التي تذكر بأن أول من تحدث بالعربية ونسي لسان أبيه إسماعيل بن إبراهيم صلوات الله عليهما، بينما يرجع بعض العلماء التحدث بالعربية إلى أقدم من ذلك، حيث سيدنا آدم عليه السلام، فنجد الدكتور جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ص537 يقول (فلما كان آدم في الجنة كان لسانه العربية، فلما عصى سلبه الله العربية فتكلم بالسريانية، فلما تاب رد عليه الله وعلى بعض أحفاده العربية)، ومنهم من قال إن أول من نطق بالعربية الفصحى/ عربية القرآن هو سيدنا إسماعيل، وكان ابن أربع عشرة سنة وهذا الرأي تعصب له الحجازيون عرب الشمال، بينما أكد القحطانيون وهم عرب الجنوب أن أول من تحدث العربية هو يعرب بن قحطان.
-----------------------------------------------------------
وعلى إثر نشوء الفصحى ظهرت أوليات الشعر العربي- كما يرى العلماء والمؤرخون- بدءًا بالمقاطع المسجوعة، ثم الرجز، ثم القصيدة المتكاملة منذ أوائل القرن السادس الميلادي، وإن كانت هناك بعض النقوش القديمة التي تسجل نصوصًا يمكن عدها كمقاطع شعرية قبل ذلك التاريخ بكثير، إذ إنها ظهرت قبل تكون اللغة الفصحى، فقد عرفت اللهجة النبطية -بلا شك- الشعر والأدب كما عرفت اللهجات العربية القديمة ذلك قبل ظهور الفصحى، فنجد على سبيل المثال ابن سلام الجمحي في كتابه طبقات فحول الشعراء، ص8، يذكر أن إسحق بن يسار مولى آل مخرمة بن عبد المطلب بن عبد مناف قد أورد أشعارًا إلى قوم عاد وثمود، ولكن هذه المرحلة لم يصلنا منها نقوش تشير إلى أشعار تلك اللهجات القديمة، وكان أول ما وصل إلينا شعر مكتوب بالعربية الفصحى ومكتمل في أوزانه وقوافيه وأسلوب كتابته، ولذلك نجد الجاحظ يقول في كتابه: الحيوان، 1/74 (وإذا استظهرنا الشعر وجدنا له -إلى أن جاء الله بالإسلام - خمسين ومائة عام، وإذا استظهرنا بغاية الاستظهار فمائتي عام)، ويبدو أن السبب وراء قول الجاحظ هذا أن الشعر وصل إلينا مكتملًا، وأن بداياته الأولى لم يصل إلينا من أخبارها شئ يذكر، وهذا ما جعل عدد كبير من المستشرقين من أمثال: فرودلف فستيفال، وفوللرز، وكذلك جرونيباوم وغيرهم الكثير يقررون بأن الشعر العربي كان امتدادًا وتطورًا لشعر اللغات السامية القديمة مثل الأكدية، والسريانية، والعبرية، والحبشية، والمصرية القديمة، إلا أن الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف قد دحض تلك الآراء،
وذكر بأن الشعر العربي إنما هو شعر كمي، بمعنى اعتماده على الكم في المقاطع اللغوية، ومدى تكرار هذه المقاطع في كل بيت، بينما شعر اللغات السامية الأخرى عبارة عن شعر نبري، وذلك في اعتماده على مقاطع صوتية منبورة ذات صوت عالٍ، وغير منبورة ذات صوت منخفض داخل البيت، ويصل إلى نتيجة نهائية - في كتابه بدايات الشعر العربي بين الكم والكيف ص81 - مؤداها (أن الشعر العربي لا صلة له بالشعر السامي كله، ولا مثيل له في اللغات السامية، إذ إن المنطلقات الصوتية باللغات السامية الأخرى مختلفة تمامًا عنها في العربية التي كانت لغة غناء)، فالشعر العربي منذ بداياته شعر كمي، ونحن نميل بالتأكيد إلى هذا الرأي.
وإذا لم يكن الشعر العربي امتدادًا لشعر الساميات الأخرى، فالأحرى أن له مقدمات عبرت عن نشأته، وقد تباينت آراء النقاد والمؤرخين في ذلك، فمنهم من يرى أن أولية الشعر العربي الموزون بدأت مع السجع الذي توافق مع الحداء، حيث حركة الإبل أثناء سيرها، وقد تطور هذا السجع إلى الرجز، وهذا الرأي قال به الدكتور عز الدين إسماعيل، والمستشرق الألماني ياكوب وهولشر، وغيرهم، حيث يقول جورج ياكوب كما أورده كارل بروكلمان في كتابه تاريخ الأدب العربي، ص1/52 (إن إيقاع الرجز يوافق وقع أخفاف الناقة)، وإن كان هذا الرأي يخالف فكرة أن ما وصلنا من الشعر العربي لم يكن على الرجز فقط، ولكن نُظم أغلب الشعر القديم على أبحر الطويل والبسيط والكامل والوافر.
وتذكر المصادر أن أول من نظم في الرجز هو مضر بن نزار بن معد جد رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ ذكر ذلك قيس بن عاصم بين يدي رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتطور الرجز بعدها إلى الشعر بأوزانه المتعددة.
ويذكر كارل بروكلمان أن بداية الشعر العربي ظهرت مع أغاني الصيد والحرب والقتال، حيث كان العرب يفرغون حمية الشجاعة وثوراتها في أبيات من الشعر.
أما المستشرق السويدي ليندبرج يرى أن أولية الشعر العربي توافقت مع بدايات الغناء والأناشيد الدينية العربية القديمة، بينما يرى كل من هارتمان، وكارل بروكلمان وغيرهما أن أول ما وصل إلينا من الشعر العربي الموزون كان عبارة عن مقاطع قصيرة تطورت عن السجع الذي اشتهر لدى الكهنة في المعابد وغيرها، أو ما يعرف بسجع الكهان، ومن أمثلته ما يورده الدكتور محمد عوني عبد الرؤوف، ص83، لكاهن يتحدث مع بني أسد عن امرئ القيس، قائلًا:
من الملك الأصهب
الغلاب غير المغلب
في الإبل كأنه الربرب
لا يعلق في رأسه الصخب
هذا دمه يتشعب
وهذا غدًا أول من يسلب.
فهذا النموذج من سجع الكهان يشير إلى بدايات أولية للشعر الذي يملك تنظيمًا في الأشطر، ويملك قافية بالرغم من خلوه من الوزن.
ويتحدث ابن سلام الجمحي في كتابه، ص26 عن أولية الشعر العربي قائلًا (لم يكن لأوائل العرب من الشعر إلا الأبيات يقولها الرجل في حاجته، وإنما قصدت القصائد وطُوِّل الشعر على عهد المطلب، وهاشم بن عبد مناف). كما تذكر المصادر أن المهلهل ابن ربيعة، وابن أخته امرأ القيس المولود 520م، هما أول من نظما القصائد من شعراء الجاهلية، وجعلاها تتخذ شكلها النهائي الذي وصلنا عن الشعر الجاهلي، حيث نجد الجمحي يقول، ص39
(وكان أول من قصد القصائد وذكر الوقائع المهلهل بن ربيعة التغلبي في قتل أخيه كليب وائل، قتله بنو شيبان، وكان اسم المهلهل عديًا، وإنما سمي مهلهلًا لهلهلة شعره كهلهلة الثوب).
وجاء بعد المهلهل امرؤ القيس الذي وضع بدايات الشكل الفني للقصيدة العربية، وكان ممن عاصره من الشعراء طرفة بن العبد، وعبيد بن الأبرص، وعمرو بن قميئة، على أن امرأ القيس نفسه ذكر داخل أشعاره أن هناك من سبقه من الشعراء، فنراه يقول في إحدى قصائده:
عوجا على الطلل المحيل لعلنا نبكي الديار كما بكى ابن خذام
إذ يذكر أن ابن خذام قد وقف على الأطلال، وبكى الديار قبله، وهذا يؤكد لنا على وجود شعراء سابقين نظموا قصائد مكتملة فنيًا قبل المهلهل، وقبل امرئ القيس، حيث يذكر الأصمعي أن عُمر الشعر يرجع إلى أربعمائة سنة قبل البعثة.
ويذكر المستشرق جرونيباوم أن نيلوس الذي توفي عام 430م قد شاهد بعض العرب في شبه جزيرة سيناء يتغنون ببعض الأغاني العربية، ومن ثم فهو يؤكد على أن هذه الفترة تعد أقدم وأول فترة نُظم فيها الشعر العربي، كما يذكر كارل بروكلمان أن العرب كانت لديهم أناشيد وأراجيز في القرن الرابع الميلادي، أي قبل ظهور الإسلام بنحو مائتي سنة، كما أن لغة الشعر العربي القديمة كانت لغة فنية قائمة فوق جميع اللهجات، وإن كانت قد تكونت منها جميعًا.
في النهاية فإن الحديث عن نشأة العربية وما تبعها من أولية للشعر العربي تبقى قضية يشوبها الغموض، فكل الآراء التي وردت في ذلك لم تستند على أدلة حقيقية، ومن ثم فنحن ننتظر مزيدًا من الاكتشافات الأثرية والنقوش القديمة التي تؤكد لنا حقيقة تلك القضية، وتبقى جميع الآراء في النهاية محض اجتهاد.
Comments