نبيل سليمان.. نصف قرن من الإبداع الروائي والنقدي
· اعتبر نفسي ممن يعرفون كيف يستمتعون بالحياة إلى أن يستنفدوا آخر قطرة منها
· الفنون عنصر أساسي في تكويني وفي حياتي، من الغناء والرقص إلى الموسيقى والفن التشكيلي والسينما
· السياسة انقلبت إلى وباء في الكثير من الروايات التي تعلقت بما كان في 2011
· الجوائز ظاهرة صحية، على الرغم مما يعتري بعضها من العلل التنظيمية أو التحكيمية
دعد ديب - سوريا
قامة أدبية وفكرية مميزة، ومن أهم وأبرز الروائيين والنقاد في سوريا والعالم العربي، وأكثرهم غزارة بنتاجه الذي بلغ ثلاثاً وعشرين رواية، وأربعة وثلاثين كتابًا في النقد وفي الشأن العام. ومن رواياته: (ينداح الطوفان) وهي أولى رواياته، (السجن)، (جرماتي)، (المسلة)، (مدارات الشرق بأجزائها الأربعة: الأشرعة ـ بنات نعش ـ التيجان ـ الشقائق)، (مجاز العشق)، (في غيابها)، (درج الليل ـ درج النهار)، (مدائن الأرجوان)، (ليل العالم)، (تاريخ العيون المطفأة)، (تحولات الإنسان الذهبي) ...
ومن أعماله النقدية: (جماليات وشواغل روائية)، (فتنة السرد والنقد)، (أسرار التخييل الروائي)، (غابة السرد الروائي)، (المساهمة الروائية للكاتبة العربية)، (الرواية العربية والمجتمع المدني)، عدا عن كتبه في الشأن العام مثل (طغيانياذا: حفريات في التاريخ الثقافي للاستبداد). كما صدرت كتب عديدة حول رواياته مثل: مجنون المجاز لمجموعة من الكتاب، المصاحبات النصية في روايات نبيل سليمان لمرشد أحمد، متاهة التأويل لصالح الدريدي.
نال نبيل سليمان العديد من الجوائز مثل جائزة غالب هلسا للإبداع الثقافي عام 1994، وجائزة "باشراحيل" للإبداع الثقافي في مجال القصة عام 2004، وحازت روايته (مدارات الشرق) المرتبة العشرين في قائمة أفضل مئة رواية عربية. وتوجت مسيرته بجائزة سلطان العويس الثقافية لدورة 2020 ـ 2021 عن حقل الرواية والقصة والمسرحية. كما حكّم نبيل سليمان في العديد من الجوائز المرموقة مثل جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي، وترأس لجنة التحكيم لجائزة البوكر العربية دورة 2024.
نبيل سليمان.. نصف قرن من الإبداع الروائي والنقدي
-لونت نصوصك بالكثير من الألوان والنغم. ففي رواية (تاريخ العيون المطفأة) دخلت في دنيا التشكيل، وكذلك في (تحولات الإنسان الذهبي)، وقبلها في رباعية (مدارات الشرق) شخصت لوحات تلهج بالطرب والغناء والموسيقى. هل في ذلك خروج عن هوية السرد؟ أم هو إثراء للسرد وتعزيز لرؤاه الجمالية؟
ـ الفنون عنصر أساسي في تكويني وفي حياتي، من الغناء والرقص إلى الموسيقى والفن التشكيلي والسينما. وفي يقيني أن الحياة من دون الفنون تكون فقيرة، بل لا تطاق. أما الرواية، فلأنها لا ترتوي، ولأنها تتطور دومًا، فقد كان لمختلف الفنون حضورٌ ما فيها، أخذ يتواتر ويتعمق بالاطراد مع تقدم الرواية. هكذا حضر الغناء في الرواية الرائدة (درّ الصَّدف في غَرائب الصُّدف) لفرنسيس المراش قبل مائة وخمسين سنة. وفي العقود الثلاثة الأخيرة صار الفعل الروائي للفنون ظاهرة هامة. وهنا أشير إلى الكتاب الجماعي (الرواية العربية والفنون ـ 2020) الصادر عن مؤسسة كتارا، وحرره الناقد العراقي الراحل نجم عبد الله كاظم. وحملت مساهمتي في الكتاب عنوان (موسيقية البناء والشخصية في الرواية العربية) وتناولت فيه عشرين رواية.
في الجزء الثالث من (مدارات الشرق)، وهو (التيجان) بدأت مَسيرة الفنان التشكيلي عدي البسمة، والتي ستتواصل في الجزء الرابع (الشقائق)، مثلها مثل مسيرة المطربة والمسرحية ترياق الصوان التي لقبت نفسها ومسرحها بترياق الشام. وعبر هاتين الشخصيتين حاولت أن أتقرى فعل الفن في بناء الشخصية، وفي الحياة الثقافية والعامة السورية منذ ثلاثينيات حتى خمسينيات القرن العشرين.
وكان للفن التشكيلي فعله أيضًا في بناء رواية (في غيابها)، وذلك عبر لوحات المتاحف الإسبانية في مدريد وفي توليدو (طليطلة). أما دور الرقص في بناء الشخصية فقد جاء عبر شخصية الراقصة الروسية تاتيانا، سواء في دمشق أم في قرطبة، ويبلغ ذلك كله ذروته عندما يتمجّد الفلامنكو بصوت ورقص بلانكا، وما أدراك من بلانكا.
إلا أن التحدي الأكبر الذي واجهته كان في رواية (تاريخ العيون المطفأة). فالفنان التشكيلي لطيف، الدكتور في الحقوق، أعمى، فكيف يرسم الأعمى لوحاته المميزة؟ وماذا عن الفرقة الموسيقية من النساء الكفيفات التي تقدم عروضها حتى في باريس؟
وأخيراً وليس آخراً، هي ذي (تحولات الإنسان الذهبي) التي يتواشج فيها الغناء الشعبي قبل عشرات العقود مع الغناء التركي والغناء المغربي في زمننا، من شخصية تولاي إلى فرقة ناس الغيوان، ومن فيروز إلى موزارت والمارش التركي إلى تشايكوفسكي والفرقة العسكرية العثمانية إلى المطرب التركي مصطفى جيجلي والمطربة التركية أرماك أريجي.
وبالمناسبة، تسوّل لي النفس الأمارة بالسوء أن أباهي باكتشافي أغانٍ شعبية سورية منسية مثل:
"لطلعْ ع راس الجبلْ / واشرفْ على دوما / ولْقى خيول العرب / بالمرج ملمومة / رمّان يا مستوي / ع صدير نمنوما / جابوه من حمص / تجّار حمويّا"،
وهذا في رواية (تحولات الإنسان الذهبي). أما في (التيجان) فهذه صياغة منسية للأغنية الشهيرة (ع الروزانا):
"ع الروزنا الروزنا / كل الهنا فيها / واش عملت التنتنا / حتى مزقتيها / يا رايحين ع حماه / صفّوا لي نيتكم / تلتين عقلي شرد / بهوى بنتكم / حلفتكم بالنبي / ومنين ميتكم / ميتنا عاصي حماه / شرب الأفندية". وفي فلسطين رواية أخرى لهذه الأغنية: "يا رايحين ع صفد صفّوا لي نيتكم.".
- في أحدث رواياتك (تحولات الإنسان الذهبي – 2022) رجعت بالقارئ إلى أول رواية بالتاريخ، وهي "تحولات الحمار الذهبي" للوكيوس أبوليوس. وقد ضمت روايتك حشدًا هائلًا من الاتكاءات على مروحة واسعة من النصوص التي تناوبت على تناول الموضوع. أتساءل هنا: هل العمل الأدبي اجتهاد معرفي أم تخيل روائي؟ وأين خصوصية الإبداع في ذلك؟
ربما يكون من الضروري أن يُضاف حول علاقة روايتي برواية لوكيوس أبولوس أن روايتي عكست المسار من (مسخ) الإنسان حمارًا إلى (تحوّل) الحمار إلى إنسان. والفرق هام وشاسع بين المسخ والتحوّل، وهو ما اختلط على بعض المترجمين لرواية كافكا الشهيرة.
أما القول بحشد من (الاتكاءات) في روايتي، فلعلك تقصدين التناص مع ما سبقها من سرديات وسواها تتعلق بالحمار. القصد هو بلورة ما كان قد تحقق من أجل التميز عنه والاختلاف معه وتجاوزه فنياً وفكرياً. ولعل ذلك اجتهاد معرفي، ولكنه محكوم بالتخييل الروائي، وفي هذا التخييل تتحقق خصوصية الإبداع.
بعد سياسي
- لا يغادر البعد السياسي أعمالك، ابتداءً من رواية (السجن ـ 1972)، وبخاصة في (جداريات الشام، نمنوما -2014) و (ليل العالم ـ 2016) حيث حضر بقوة ما عاشته سوريا وصولًا إلى العسكرة والأسلمة معًا، والنتائج الكارثية. هل كان كل ذلك استقراء للواقع؟ أم استبصار أدبي؟
تسري السياسة في حياة البشر، أفرادًا ومجتمعات، مثلما النسغ، وكما النار في الهشيم أيضًا. وقد تضاعف كل ذلك في بلادنا منذ أهلّ القرن العشرون، وإلى أمدٍ يبدو بعيدًا.
لم يكن ثمة مناص للآداب والفنون ألّا تتأثر بذلك. وقد كان ولم يزل من سوءات هذا التأثر أن جاءت كثرة كاثرة من الأعمال موطوءة بالسياسة، خطابيةً وشعاراتيةً. وبالمقابل ثمة أعمال باهرة، قامت على السياسة، ولكن بفعل الإنساني والتاريخي في تلك الأعمال، وليس بالثأرية أو العصبوية أو العماء السياسي. وأظن أن الكثير من كل ما تقدم، بل جذر ما تقدم، كان في تكويني المبكر، روحيًّا وثقافيًّا وسياسيًّا.
ولعل ذلك ما دفعني إلى كتابة رواية (السجن) وأنا في السادسة والعشرين. ولأن الرقابة منعت نشرها، صدرت في السنة التالية في بيروت عام 1972، فكانت من باكورة ما سيعرف لاحقًا بأدب السجون، حيث كرّت السبّحة ابتداءً من رواية عبد الرحمن منيف (شرق المتوسط) التي صدرت عام 1975.
من حضور السياسة في بعض رواياتي التالية ما جاء في (المسلة – 1980) عن حرب 1973، وفي (مجاز العشق – 1998) عن حرب المياه الآتية لا ريب فيها، وكذلك ما جاء في (سمر الليالي – 2000) عن السجينات السياسيات الشابات اليساريات واليمينيات في سوريا في ثمانينيات القرن الماضي. أما الذروة فقد كانت في رواية (جداريات الشام ـ نمنوما) التي حاولت أن تسرد ما عاشته سوريا في المرحلة الراهنة من الانتفاضة أو الحراك أو الثورة السلمية، ليخترْ كلٌّ ما يشاء من الأسماء. لكن العنف أجهض السلمية، فصبّ النظام حممه، وتفجّرت العسكرة، وتجلببت بالأسلمة. هكذا صرنا قبل أن تنتهي سنة 2011 في حرب قذرة، وهذا ما حاولت رواية (جداريات الشام) أن تسرده، في مختلف البؤر: دمشق ودرعا وحمص وحماة واللاذقية وحلب. وكانت الكتابة تحديًا روحيًّا وفنيًّا.
في (ليل العالم) شطر آخر من حياتي، في الرقة بين 1967 – 1972، وَوَصْلٌ لذلك الشطر بما عاشته الرقة حين صارت عاصمة الدولة الإسلامية. وربما كان الأمر في كل هذه السلسلة الممتدة عبر قرابة نصف قرن هو استقراء للواقع واستبصار أدبي، من كابوسية القمع السياسي في رمزها الفادح (السجن)، إلى الزلزلة المدمّرة التي لا زلنا نعيش منذ 2011 .
ما أود التشديد عليه هنا أن السياسة قد انقلبت إلى وباء في الكثير من الروايات التي تعلقت بما كان في 2011 فصاعدًا، داخل سوريا وخارجها، وذلك على حساب جماليات الرواية. وهذا ما يتنطع للدفاع عنه بعض من نصّبوا أنفسهم قيومين على الرواية وعلى الثورة، بدعوى "حق التعبير للجميع". وليس يخفى ما في مثل هذا القول من الشعبوية، ومن تسييد السياسي على الأدبي والفني.
سيرة ذاتية
-إلى أي حد سيرتك الذاتية منبثة في نصوصك؟ وأي أعمالك أقرب إلى حياتك؟
تنبثّ في الكثير من رواياتي أشتات من حياتي، أشتات من هذه المسمّاة (السيرة الذاتية). لكنّ أيًّا من تلك الأشتات، ثانويةً كانت أم أساسية، لا تحضر في الرواية إلا وقد لعب بها التخييل، قليلًا أو كثيرًا. ما من حضور نقي للسيري إلا ما ندر. وهذا (النقيّ) يفقد نقاءه بفعل اندغامه بغيره مما هو متخيل.في (المسلّة) التي صدرت عام 1980 حمل الراوي، وهو شخصية محورية اسمي الأول (نبيل). ولم يكن قد سبقني إلى هذه (الفعلة) إلا غالب هلسا في (الخماسين ـ 1975). وفي سنة صدور (المسلّة)، جاءت رواية (محاولة للخروج)، ويحمل فيها الراوي اسم الكاتب عبد الحكيم قاسم، كما يُنادى في مصر: حكيم أو حكم.
في الروايات الثلاث ما يسمى ب (التخييل الذاتي). أما الرائج فهو أن يتخفى الكاتب(ة) خلف الراوي بضمير المتكلم الذي لا يحمل اسمًا، أو الذي يحمل اسمًا / قناعًا. وقد مارست هذا التخفي في (هزائم مبكرة ـ 1985) تحت اسم خليل حمدان، وفي (مجاز العشق ـ 1998) تحت اسم فؤاد صالح، و(في غيابها ـ 2003) تحت اسم سعد أيوب، وصولًا إلى (تحولات الإنسان الذهبي ـ 2022) تحت اسم كارم أسعد، هذا الإنسان الحمار أو الحمار الإنسان.. يا للهول!! كم انبثت إذن سيرتي في رواياتي! أتذكر الآن قولاً ل "آلان روب غرييه" الذي اشتهرت رواياته ببرئها من السيرة، وإذا بالرجل يقول أخيرًا إنه لم يكتب إلا عن ذاته.
حضور المرأة
-للمرأة حضور واسع في أعمالك الأدبية والفكرية وأخص بالذكر كتابك (النسوية في الكتاب المدرسي)، وكتابك (المساهمة الروائية للكاتبة العربية). كثير من النقاد يعتبر أن التركيز على النتاج الأدبي للمرأة اعتراف ضمني بأنها كائن درجة ثانية؟
في هذا القول من المبالغة ما فيه، وإن يكن فيه من الصحة أيضًا ما فيه. لكن الأمر بالنسبة لي جوهري، منذ مطلع حياتي. ولأنه كذلك قدمت في الثانية والثلاثين من عمري كتاب (النسوية في الكتاب المدرسي)، وهو الذي لا يزال حتى اليوم نادر المثال، حيث تقرى الأيديولوجيا الرسمية التي تبثها الدولة عبر الكتاب المدرسي الذي يطبع منه ملايين النسخ سنويًّا. وللنأي عن مثل هذا الذي يختم سؤالك، صار عنوان الكتاب في طبعته الثانية (أيديولوجية السلطة: بحث في الكتاب المدرسي). أما الارتقاء بالعناية النقدية بما تكتبه الكاتبة العربية من الرواية، فهو أمر بات ضروريًّا إزاء حضورها المتنامي.
-جائزة العويس التي منحت لك من أبرز الجوائز الأدبية في العالم العربي. هل ثمة إضافة ما تقدمها الجوائز بشكل عام؟
تتعلق الإضافة التي يمكن للجائزة أن تقدم للكاتب بأمور عديدة، منها القيمة المادية، وإشهار الكاتب وكتبه، وبالتالي التسويق والترجمة. تُمنح جائزة العويس على مجمل أعمال الكاتب، ومن هنا كانت بالنسبة لي تقديرًا لخمسين سنة من العمل ليل نهار في القراءة والكتابة. أخيرًا تأتيك وردة، يأتيك وسام. ومثل هذه الجائزة يأتي على كبَر إلا فيما ندر. لذلك ليس المال فيها بالأهم، على أهميته. من حسن حظ إبراهيم نصر الله مثلاً أن هذه الجائزة قد وافته وهو أربعيني. سعد الله ونوس أيضًا. أما من توافيه هذه الجائزة أو مثيلاتها وهو سبعيني فصاعدًا، فمن حسن حظ من يرثون، إلا لمن يعرفون كيف يستمتعون بالحياة إلى أن يستنفدوا آخر قطرة منها، وأنا من هؤلاء، وربما شيخ هؤلاء.
فالجوائز ظاهرة صحية، على الرغم مما يعتري بعضها من العلل التنظيمية أو التحكيمية. وعلى أية حال لا زال أمر الجوائز في بلاد العرب متواضعًا. في فرنسا يجري الحديث عن مئات الجوائز السنوية. بعضهم يتحدث عن ألفي جائزة في فرنسا. كم عدد الجوائز العربية؟
Commentaires