top of page
صورة الكاتبSeagulls Post Arabic

نزار النداوي: حافظ الشيرازي حانة العالم – نظرات ونفحات

تاريخ التحديث: ٤ فبراير ٢٠٢٤


هيئة متخيلة لحافظ الشيرازي
هيئة متخيلة لحافظ الشيرازي

نزار النداوي
نزار النداوي - العراق

مقدمة:أدعوكم هنا إلى حانة حافظ الشيرازي، لأدير بعض كؤوسه أمامكم، فإن كان ما أقدمه سائغاً وطيباً، فهو الشيرازي، وإن كانغير ذلك فهو الساقي الذي يقدمه لكم. فما في أوراقي هو بعض نظرات ونفحات، قرأتها قراءة متماوجة ما بين الشكلوالمضمون، ما بين سحر الأول وعمق الثاني.ومن يستطيع الفصل ما بين الجمال والعمق في شعر حافظ الشيرازي؟مع إشارة لا بد منها، وهي أنني قمت شخصياً بترجمة هذه الأشعار التي ستقرؤونها، سعياً لأن يكون دور الساقي متكاملاً.


نزار النداوي: حافظ الشيرازي حانة العالم – نظرات ونفحات

عندما نتحدث عن الشاعر حافظ الشيرازي، فهذا يعني أننا نتحدث عن الشعر الفارسي في واحدة من أكبر تجليات، وعندما نحاول إلقاء الضوء على الجانب الإبداعي في شعر حافظ، فإن الأمر أشبه ما يكون بمحاولة الغوص في بحر من الأسرار الكامنة، لروح تسبح في فضاءات المطلق، وذات ركبت قلق المعرفة. إنه شاعر وردعالم الشعر ليوسع من مداراته الإبداعية، وليرفع مضامينه إلى حيث تصبح استجابة الصورة الشعرية، أكثرمرونة مع انثناءات اللغة وسياقاتها الجمالية، فاستحق بجدارة موقعاً متقدماً بين من سبقه إلى ساحة الإبداعالشعري من كبار شعراء بلاد فارس، وأكثرهم شهرة. وهم شعراء تركوا بصماتهم على تاريخ الأدب الفارسي خاصة والإنساني عامة، مثل شاعر الصوفية مولانا جلال الدين الرومي وشاعر العرفان الكبير سعدي الشيرازي.



جلال الدين الرومي
جلال الدين الرومي

وفي المناخ العام، نجد أثر الكثير من رموزه الشعرية في القرآن الكريم.، حيث تسجل بعض المفردات حضورهابقوة، مثل العدل والجزاء والخلود والنساء والحب والخمرة والقصور والرياحين والطير، استخدمها القرآن فيمحاكاة للعقل البشري ومدخلاً لخلق تصور عن الجنة التي تنتظر عشاق الذات الإلهية، بينما استفاد حافظ منتلك المفردات، مع ما مارسه من انزياح لمعانيها ودلالاتها الخاصة، ليصنع منها استعارات ورموزاً تتحدث عنعشقه الأكبر المتسم بحالة التسليم للمعشوق.وهذا ما يمكن لي أن أسميه باستنفار المعنى الدلالي، لا المعجمي ـ في عملية استعارة مقلوبة بين النصالقرآني والنص شيرازي المتأثر بالقرآن الذي حفظه، فأسبغ عليه اسم الحافظ تكريماً له.  



سعدي الشيرازي
سعدي الشيرازي

أما عملية مقاربة البعدين الإنساني والاجتماعي في نتاجه الشعري، فإنما هي الحديث عن الانفلات منالمحسوس، والإبحار في عوالم الفلسفة، التي تنطلق في رحلة الكشف المغموس بعطر التساؤلات حول الوجودوالكينونة والذات الإلهية، حيث يقول:

فيا طائر القدس هاك اصطبني        فإن طريـق الوصـال طـويـــــل

أخاف عن الخضر يمنعني الوصل   حالك ليــل، فـأيــن الـدلـيــــل

إن ما مارسه حافظ من تعمق في الأفكار التي تناولها في شعره، يؤشر لمكامن نزعة إنسانية، ترتبط بتاريخ منرحلة العقل في عالم البحث عن القيم واليقين والمثل السامية. وفي عالم حافظ "عالَم التصوّف والعرفان" يأتي اللقاء بالخضر عليه السلام كمحاولة للعبور إلى ذلك العالم. لكن هذا العبور أو الاتصال لا يأتي إلا عبر توأمة العلم والعمل، العلم بطول طريق الوصال والبحث عن الدليل يأتي في صميم العمل.

وعندما يتطرق الشاعر ـ أي شاعر ـ إلى المعاني والقيم الإنسانية ـ الاجتماعية، فهو إنما يأتي ليطلق رؤيته فيفضاء الممكن المفتوح على الحلم، بما تمنحه إياه سلطة الشعر من التدخل في بناء الوعي الجماعي للمجتمع.وشاعرنا حافظ، وهو يغوص في ذلك الكم المعرفي التراكمي المتولد لديه جراء تجاربه في الحياة، بدا كمن يأتيجزر الجنيات البعيدة، ثمّ يعود منها بما من شأنه الانفتاح عن ممكنات غير المحدود في عالم الشعر، ليطلقهممهوراً بالشطح الشعري والكشف الإنساني والاجتماعي، حيث يقول:

لم أعد أبصر في الصحب وفياً يا ترى ماذا جرى للأوفياءْ؟

عبروا نحو زمان آخر أمْ               آذن الحبُّ لديهم بانتهاءْ؟

وأرى نهر الحياة كدراً عاد فأين الخضر يأتي بالصفاءْ؟

نزّ غصنُ الورد في قلبي دماً يا ربيع الله غيماً في السماءْ!!

أفما من أحد يدرك حق الـ مبتلى عشقاً، وأين العرفاءْ؟

منجم الجوهر ياقوتاً بدا والمروءات به محض هواءْ

من يقل لي أين سعي الريح والأمـــــطار والشمس مضى في ذا الفضاءْ؟

مدن العشق أديمٌ طاهرٌ جمع العشاق عطفاً من ضياءْ

كان يأتيها المحبون فماذا جدّ حتى هي جدران خواءْ

برعمت فيها الأزاهير ألوفاً دون أن يصدح طير بالغناءْ

تلكم الآلاف ماذا؟ ثم ماذا تلكم الطير وما شاؤوا وشاءْ؟

أين فرسان الكرامات قديماً فظهور الخيل ذي منهم خلاءْ

يعزف الدهر لنا لحناً رتيباً عوده لم تشتعل ناراً وماءْ

أقوت الحانة من ندمانهـا يا فراغ الكأس أين الندماءْ؟

أي حان جمعتهم بعدها وإلـى أيـن تولـى الغربــاءْ؟

حافظ اصمت لا تسل عن كنه ما أودع الخالق سـراً في السـماءْ

من ترى تسأل عن دهر مضى قــدر الله بـه حكــم قضــاءْ؟

التساؤلات التي يطرحها حافظ الشيرازي هنا، هي أكثر من إثارات فكرية. فهو يريد منها التعبير عن حالة معرفية متشابكة مع حالة إيمانية ومتماهية معها في تطلعها إلى اجتياز تلك التساؤلات إلى حالة من اليقين المستقر. وهو يدمج ما بين العاطفة والفلسفة مضمناً تجربته الاجتماعية لإثارة تلك الأسئلة.



حافظ الشيرازي
لوحة لهيئة متخيلة لحافظ الشيرازي

أما ما استخدمه من استعارات لفظية تبدو في ظاهرها مفردات غزلية أو خمرية، فهي استعارات لم تأت عبثاً، هو يجعل الوضوء في أشعاره ليس بالماء -كما يفعل المسلم المؤمن- ولكن بالخمر.  وهو بالطبع ما لا ينبغي فهمهحرفياً " (1)كما يقول المستشرق الألماني يوحنا كريستوف بيرجل. الذي يعود ليقول:"وأكثر من ذلك ما نجده في أول غزليات ديوان حافظ: فالشيخ الزرادشتي، وهو شخصية ذات أهمية مركزيةفي شعر حافظ- يأمر تلامذته أن يطلوا سجادة الصلاة بالخمر، كرمز للانتقال إلى مرحلة جديدة من الغنوصية(أي العرفانية. (2)جدير بالقول هنا، إن الشيخ الذي أشار له بيرجل، إنما هو الخضر "ع" كما يرى بعض النقاد، وقد ترجمتهعلى هذا الأسا ، و(بيرجل) يشير إلى المقطوعة التالية من شعر حافظ الشيرازي المضمنة بيتاً من الشعرالعربي، وقد افتتحت بصدر ذلك البيت وانتهت بالعجز منه، حيث يقول:

ألا يا أيها الساقي أدر كأساً وناولها فما استسهلت من عشـق يعذب روحيَ الولهى

بأجعـد استبــاح دمي، به مرّ الصبا مسكـاً   فقلت : تكـاد لـي نفس تفــرّ فقـال  أعـقـلـهـا

على سجادتـي أفرغ سلاف الكأس إن عتبت عليـك الركعـة الأولـى، بســرّ الخضـر عاجـلـهـا

متى يدري بنا من ساحل الشطآن ما خضنا  بليـل البحـر إذ عصفت بنــا أمواجـه البـلـهــــا

أنا في منزل المعشوق ما عيشي، وأجراس الـرحيـل بمسمعي صاحـت: عصـا ترحـالك احملها

وقـاري ضـاع في عشق بُليتُ بـه، وأســراري مـــوزعــة، فـإن أخفيتـهـا فالنـــاس تـبـذلـهـــا

وإما جـادت الدنيـا بوصـل العشق يا حافظ   متـى ما تلقَ من تـهــوى، دع الدنيــا وأهملهـا

لم يكن الهم الذي حمله حافظ بين جنبيه هماً دنيوياً كما توهم البعض، وإنما كان همه الوصول إلى الله. ولمتكن رحلة حافظ الشاعر، بأقل منها رحلة حافظ السالك في طريق البحث عن الذات، المبني على فكرة اللجوءإلى قوة المطلق والذوبان فيهاويأتي هذا البحث كأبرز مظاهر المسعى الإنساني المستديم للالتحام بهذه القوة والاستلهام منها، فهو يقول:

قم مع الإصباح وامددها يديك ضارعاً واطلب من الله السلامةْ

كل ما لديــك علمـاً وفـعــالاً فيـــه للقـرآن فضــل وعلامة

أنت يا حافظ لا تحزن وإن أركَبَكَ الدهر من الفقر سنــامـهْ

تعبرُ ليلك دعاءً وصلاةَ هــذه وِرْدٌ وهاتيــكَ دُعــامـهْ

لكن الفقر والفاقة اللذين عاشهما حافظ في حياته، لم يلجئاه إلى التكسب بشعره،  وهو الشاعر الكبير القادرعلى ولوج باب الحكام والسلاطين، والعودة منهم بما يضمن له عيشة هانئة تجنبه ضنك الحياة ومشاقها،فعيناه كانتا شاخصتين نحو باب معشوقه الأوحد ومراده الأكبر، حيث يقول:

ليس إلا قــامة المعشوق تـمتـد علــى لـــوح فـــؤادي ألـفـا

ما الذي أصنع إن كان الذي علّمني العشقَ بذا الدّرسِ اكتفى

تحفر أشعار حافظ عميقاً في الذاكرة، لتأخذك خارج حدود الممكن، وتعبر بك تصحر مجازات اللغة إلى واحاتموشاة بالتهويمات الأدبية إلى جانب العرفانية منها، وَتحارُ هنا، كيف، ومن أين تدخل إلى حافظ؟ ليس لضيقباب الدخول، وإنما لكثرة الأبواب وتعددها. وحين تستأذن الدخول إلى عالمه، يجيئك صوت الحقيقة الشعرية أنادخل، ولكن اخلع عنك في حضرته أزمنة التدوين المحروسة بمسلمات النص ومحدوديته.وتبحر معه، فتراه كما البحر، هادئاً وديعاً أحياناً، وهادراً صاخباً أحياناً أخرى، فتسأل نفسك: هل البحرشاعر؟ يجيئ حافظ إلينا، وفي شعره نكهة الفلسفة والحكمة، هذا إن لم نقل أنه هو الذي أعطى الحكمةوالفلسفة نكهة جديدة. ومنح قُرّاءه لذة المعرفة والاكتشاف، حيث يقول:

ما انتظار الناس مني طاعةً            أنا منها مثل عهدي بالصلاح؟ِ

فأنا الحامل كأسي بيدي                 منذ فجر الفجر ذياك الصباحِ

قد توضأت بعشقي يومها               من طهور النبع في أقدس راحِ

أربعاً كبرت مما قد رأت               فيه عيناي من الكون السراحِ

فاسقني أنبيك ما سر القضا            وهيامي بغرامي واصطباحي

أنت يا من عبد الخمر، تيأست        وباب الرحمة ملءُ النواحي؟

وعظيم الطود فيها هو أدنى            من صغير النمل يمشي في البطاحِ

تحت هذي القبة الزرقاء ما            شابه النرجس شيء في الأقاحي

ثملاً وصلاً ـ وقــاه الله مـن            حسد الأعين ـ زاه في مراحِ

يا فداه النفس ما كان له                 في رياض الوصل ندٌ في الأقاحي

وأنا الحافظ في عشقي لم               أر غير الصفر في كفي وراحي

كسليمان نصيبي في الهوى            ما له في وصلك غير الرياحِ

وفي هذه الأبيات قيمة حِكْمية وفلسفية إنسانية واجتماعية، تدفع نحو مقاربة معاني الحياة من منظور مختلفعما هو سائد في فهم الناس لها ولطبيعتها، ليقربهم أكثر نحو التكامل مع الجمال المطلق، والتماهي معوظائفه الكونية. ومن الفكرة إلى الصورة فالخيال فالموسيقى، وهي طبيعة الشعر العظيم، تأتي المفردات متصاهرة لدرجة أن تصبح الموسيقى فكرة والصورة معنى. وإذا نظرنا إلى كل ذلك وجدنا أنها روح حافظ تلك التي على الورق وليست مجرد كلماته.

وفي أعماله يبرز لنا حافظ بدور الشاعر الحامل مسؤولية الكلمة والأدب في عملية التغيير داخل المجتمع. والتغيير لديه يبدأ بعملية التطهير الداخلي للفرد، وصولاً إلى التطهير الكلي للمجتمع. وإن على الفرد، قبل أنيأتي رياض العشق الإلهي أن ينفض عنه الغبار العالق بقلبه في صحراء الدنيا ثم يعرض عنها، ليأتي بعدهارياض الوصل مع الله بقلب سليم، فيقول:

اقصد الصحراء وانفض عنك فيها   همك العـالق في القلـب غبـــارا

وتعال للبساتين تعلم   غزل العــــــــــشق من البلبـل غنّـى فأثــــارا

قد شـــدى البـلبــل غريـداً لمــا        فـاض بستـان هــواه جلنـــــارا

دون هــذا لـم يغرد للهوى يوماً ولا كان الهوى استهوى هزارا

وسواء في هذه المقطوعة أو في غيرها، لا تأتي عملية التأويل أو الفهم للاستعارات الشعرية هنا كعمليةاعتباطية، إنما يؤسس لها وفق ضوابط وشروط تخدم الوقوف على مقاصدها ومعانيها الحقيقية. وقد أجادحافظ استخدام الرمز في نصوصه، وذلك ما أكسبها تعدداً للقراءات وتنوعاً للرؤى.  ولو انه أطلق ولم يرمز،لضاقت المساحة لدى المتلقي.إن ترجمة النصوص الأدبية ـ الشعر منها على وجه الخصوص ـ من لغة إلى أخرى تفقد النص المترجم ـ في الغالب ـ الكثير من خواصه الأدبية. والتمكن من لغة النص الأدبي، تمنح المتلقي فسحة أكبر لقراءة أكثر فهماًوتعمقاً.  لذلك يستطيع من يقرأ النتاج الشعري لحافظ الشيرازي باللغة الفارسية، أن يقترب أكثر من مكامنالإبداع الممارس داخل نصوصه . فنحن حين نكتب نصنا الشعري، فإنما نكتبه بمعايير تتجاوز الفعلالتجريدي للمفردة ودلالاتها المعجمية، إلى ما تمنحنا إياه روح اللغة من القدرة على أداء الفعل الشعري داخلتلك اللغة.

 الأمر نفسه ينطبق هنا على قراءة النص، حيث يصبح فعل التلقي شريكاً في عملية الخلق ومتمماً له، لاسيماإذا علمنا ـ ونحن نتحدث عن حافظ ـ أن شاعرنا لم يكن ليسير على منهج واحد في كل ما تركه من أثر، فمنتوليف السياقات الجديدة المتجددة، إلى عملية التخييل وليس انتهاءً بالدلالات المفتوحة على القراءات المختلفة، فيقول في إحدى مقطوعاته:

هذه اللحظة والبستان قد فاض نسيماً مثلما عطر الجنانْ

قرّب الغيداء مني واسقني الراح تدير الرأس من كعب الدنانْ

كيف لا يفخر هذا السائل المسكين وهو اليوم سلطان الزمانْ

نصبت له الغمامات خياماً ومن الحقول يمتد الخوانْ

وجميل من ربيع قص لي أجمل ما صاغ بلاغاً وبيانْ

قال لي: ما عاقلٌ بادل بالنقد نسيئاً، كيف ملكاً بِرِهَـانْ؟

قال لي: أعمرْ بكأسِ الخمر قلباً إن دنياك خراب وهوانْ

لم تزل تصنع ما نغدو تراباً حجراً يعلو به بيت فلانْ

نجد البعدين الإنساني أو الاجتماعي حاضران فيما مر من الأبيات – شأنها شأن مجمل نتاج حافظ ـ وحافظ لا يدعونا هنا إلى مغادرة المجتمع والناس، بمقدار ما يدعونا لإعادة النظر في التعامل مع الدنيا، في ملامسة للروح الانسانية بكيفية إعمار الحياة. والإعمار لغة هو الإقامة في المكان وجعله مأهولاً، وعَمَرَ أي شيد في قوله سبحانه وتعالى: إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر. وحافظ يريد للمجتمع وللواقع العامر أن يكون معموراً بالروح وليس بالطقوس المجردة.

ونجيئ أشعاره باللغة العربية، وهو على عكس بعض الشعراء الإيرانيين الذين عاشوا ردحاً من حياتهم في بيئةعربية، وتعلموا لغتها وكتبوا بعض أشعارهم بها، فأن هذا الحافظ عاش كل حياته في إيران، ولم يسافر منهاإلى أي من البلدان . وفي إيران تعلم العربية وكتب أشعاره بها. وإن نظرنا إلى تلك الأشعار، فإننا سنجدشاعراً متمكناً من المفردة ومستحصلاً على حسها ـ ليس المعجمي وحسب ـ وإنما الدلالي أيضاً، وهي ظاهرةلا تتكرر إلا نادراً. واخترت بعض الأبيات من قصيدة له بالعربية، يقول فيها:

      حكى الدمع عني والجوانح أضمرت

   فيا عجباً من صامت يتكلم    

      أتى موسم النيروز واخضرت الربا                  

  ورقق خمر والندامى ترنموا        

 بني عمنا جودوا علينا بجرعة             

    وللفضل أسباب بها يتوسم

الصورة لدى حافظ تأتي محمولة على نسيج متماسك من اللغة، يتقاطع مع نسيج موازي ومتشابك مع الأبعادالاجتماعية الملتحمة بالانفعالات الإنسانية. فحافظ لا يبرز هنا كشارب هائم بنفسه ولنفسه بل يدعو للمشاركة، فالنوروز العيد، والدعوة لأبناء العمومة أن يكونوا من المشاركين. إنه يريد مجتمعاً ثملاً فيما هو ثمل به، فيرفع حافظ صوته لينادي المجتمع للحاق به، بينما يقف صامتاً مستغرقاً في حضرة معشوقه، حيث لا يليق إلا الصمت وحيث يصبح الصمت لغة أبلغ، ويقول:

إذا كان سوق البيان بحضرة معشوق قلبي ينافي الأدب

فكن يا لساني صموتاً وأنت البليغ بفن لسان العرب

يذكر التاريخ لنا كيف أساء البعض فهم استعاراته اللفظية، فكان أن تنازعوا في شيراز عند موته، بعد أناتهموه في دينه، متسائلين أن هل يصح السير خلف جنازته، كما جرت عليه العادة عند المسلمين؟

ومحنة حافظ هنا، لا تختلف عن محنة غيره من المجددين من المبدعين. وهنا تبرز إشكالية الإبداع وحاجتهلمساحة من الحرية، لا تلزمه بشروط تحد من حركته . وما عجز عن فهمه ذلك البعض، اتقد له ذهن الفيلسوفنيتشه، الذي خاطب حافظاً قائلاً:

" إنك يا حافظ، بنيت حانة من الحكمة أكبر من أكبر قصر في الدنيا. وأعددت فيها شراباً من لطف الكلام،يفوق طاقة الشراب الدنيوي، ولكن ضيف هذه الحانة ليس إلا السيمورغ الذي يمكنه وحده أن يكون . وارتفاعكل قمة علامة على عظمتك، وعمق كل دوامة آية على كمالك  وكلامك هو الشراب الذي يثمل العقلاء" ( (2)

وأما الأديب العالمي )غوتا( عندما تعرف على حافظ الشيرازي، فقد تمنى أن يكون أحد مريديه وخاطبه قائلاً:

" أإن كلامك يا حافظ مثل السرمدية العظمى، لا بداية لها ولا نهاية. كلامك يا حافظ مثل قبة السماء لا تتبع إلانفسها. " ((3)

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- أغاني شيراز أو غزليات حافظ الشيرازي، ترجمة إبراهيم أمين الشواربي، القاهرة 1944، ص257-258.

2- الجهود الأوربية في ترجمة الآثار الفارسية وأثرها في أوروبا - للدكتور أسامة أحمد فتح الباب)

3- المصدر السابق نفسه.

٠ تعليق

Comentarios


bottom of page